من خاليكان إلى السليمانية... رحلة ناكيهان أكارسال في تتبع أثر المرأة

شكلت الكتابة بالنسبة لناكيهان أكارسال تجربة وجودية عميقة أشبه بمخاض الولادة، جسدت من خلالها بحثها عن الذات وتتبعها الدؤوب لتاريخ المرأة، وخلفت وراءها إرثاً غنياً من القصص والتجارب يصعب حصره، لكنه يبقى شاهداً على مسيرتها النضالية والفكرية.

آرجين ديليك أونجل

آمد ـ كان اسمها يعني "غير متوقع/في غير أوانه" وكأن القدر اختار لها أن تكون كذلك حتى في رحيلها، ففي الرابع من تشرين الأول/أكتوبر من 2022، غادرت ناكيهان أكارسال الحياة بشكل مفاجئ، قبل أن تُكمل المسيرة التي بدأتها بشغف لا يُضاهى، خلفت وراءها إرثاً غنياً ومعرفة واسعة، تجسدت في كتاباتها وأخبارها، والمبادرات التي أطلقتها، والأرواح التي لامستها، لم يكن رحيلها نهاية بل كان شرارة انطلقت منها خطوات نحو الاستمرار.

ناكيهان أكارسال، الأكاديمية والصحفية وعضوة مركز أبحاث الجنولوجيا، والتي اغتيلت في مدينة السليمانية بإقليم كردستان، أثناء عملها على مشاريع تهدف إلى تمكين النساء وفتح آفاق جديدة لهن، كانت تسعى إلى بناء مستقبل أكثر عدالة، فرحلت قبل أن ترى ثمار عملها، لكنها رغم ذلك تركت بذوراً تنمو في قلوب من آمنوا برسالتها.

وُلدت ناكيهان أكارسال عام 1976 في قرية "خاليكان" التابعة لمنطقة جيهان بيلي في مدينة قونية، وكانت الابنة البكر لعائلتها، منذ طفولتها كانت تتساءل دوماً كيف وصلت كامرأة كردية إلى منطقة جيهان بيلي؟ فقد نشأت في بيئة يتحدث فيها كبار السن من الرجال والنساء اللغة الكردية حصراً، بينما كانت التركية تُستخدم في المعاملات التجارية فقط.

هذا الانفصال اللغوي والثقافي إلى جانب افتقارها للمعرفة بجذورها الكردية، شكّل دافعاً أساسياً لمسيرتها النضالية، فقد كان اكتشاف الهوية والانتماء أحد أبرز المحركات التي دفعتها إلى الانخراط في قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، خاصة تلك المتعلقة بحقوق المرأة الكردية.

في خاليكان، كانت الفتيات تتلقين تعليماً مرموقاً، ومع ذلك كانت ناكيهان أكارسال من أوائل الفتيات اللواتي أكملن تعليمهن من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة، وصفتها صديقة طفولتها روني إيليم في إحدى المقابلات قائلة "لا أتذكر أنها تشاجرت مع أطفال القرية قط كانت تربطها بهم جميعاً علاقة جيدة، وسعت دائماً إلى تحسين الأمور كانت قدوة لنا تعلمنا منها الحفاظ على علاقات جيدة، في القرية لم تكن الفتيات تلعبن كثيراً مع الأولاد لكن ناكيهان كانت تنسجم مع الأولاد وكانت تذهب للعب معهم وتكوين صداقات مماثلة" ووفقاً لروني إيليم تركت ناكيهان بصفتها شخصية سهلة المعشر بصمة ليس فقط على الأطفال بل على القرية بأكملها.

ناكيهان أكارسال التي بحثت في جذور المرأة وسعت وراء مئات القصص، كان لديها هذا الفضول النابع من الطفولة، كطالبة في المدرسة الثانوية كانت تكتب قصصاً عن النساء من خلال مراقبتهن، كانت طالبة ناجحة وأول فتاة في القرية تدخل الجامعة، عندما غادرت خاليكان لم يكن هدفها الوحيد الدراسة الجامعية، بل أرادت الانطلاق في رحلة العودة إلى جذورها، كانت الجامعة الخطوة الأولى في هذه الرحلة.

بعد قبولها في قسم الصحافة بكلية الاتصالات بجامعة غازي في أنقرة، وجدت ناكيهان أكارسال نفسها منغمسة في النضال الكردي من أجل الحرية، عملت ضمن حركة الشباب الوطني في الجامعة كانت تحمل باستمرار كتباً ومجلات بين يديها، توزعها على صديقاتها إيماناً منها بأن تحرير المرأة تحديداً يعتمد على التنظيم، في العام الثاني من دراستها الجامعية في عام 1997ركزت اهتمامها على المساحات الحرة لمدة ثلاث سنوات ناضلت في هذه المساحات ضد اضطهاد الشعب الكردي ثم عادت إلى أنقرة. وفي عام 2001 اعتُقلت في أنقرة بتهمة "الانتماء إلى منظمة إرهابية" وسُجنت لمدة سبع سنوات في سجني أولوجانلار وأماسيا، أُطلق سراحها عام ٢٠٠٧ بعد سبع سنوات من الأسر واصلت تعليمها وتخرجت من قسم الصحافة.

 

رغبة لا تُشبع في الكتابة

بعد خروجها من السجن، بدأت ناكيهان أكارسال مسيرتها الصحفية في وكالة أنباء دجلة (DİHA) عام 2009، حيث كرّست جهودها لتسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية، لا سيما تلك المتعلقة بالمرأة والهوية.

وصف زميلها كنان كيركايا شخصيتها قائلاً إن فضولها كان غير محدود، إذ كانت تهتم بالخلفيات التاريخية والرؤى المستقبلية والإمكانات المتاحة بنفس قدر اهتمامها بالحاضر "كانت مفكرة وفضولية، تميل أحياناً إلى الانطواء، لكنها كانت أيضاً مرحة، رغم مرورها بتجارب صعبة ومنعطفات حادة، احتفظت ببساطتها وهدوئها، وكانت تتحدث بصوت منخفض، فيما ظل عالمها الداخلي نابضاً بالحياة لكنه لم يكن صاخباً".

عبّرت ناكيهان أكارسيل عن شغفها العميق بالكتابة من خلال كلمات مؤثرة قالت فيها "لأن التاريخ يُكتب بدموعي التي تسيل من قلبي وأريد أن أكتب..."، والذي دل على ارتباطها العاطفي والوجداني العميق بما تكتب، واعتبارها الكتابة وسيلة لتوثيق الألم والذاكرة.

وصفت زميلتها زوزان سيما هذه الرغبة بأنها تشبه "ألم الولادة" مؤكدة أن الكتابة لدى ناكيهان كانت فعلاً وجودياً ينبع من أعماقها، وفي مقال نُشر بعد اغتيالها كتبت زوزان "كنا نستيقظ في منتصف الليل أو فجراً على صوت مفاتيح حاسوبك، أحياناً تُكتب أجمل الكتابات كما لو كنا في المخاض وأحياناً تتدفق كالشلالات، أنا سعيدة جداً لأنك كتبتها لأنه مهما كتبنا، لا يمكننا التعبير عنك بشكل أجمل وأفضل مما تفعله".

بدأت ناكيهان أكارسال العمل في أكاديمية جنولوجي ومجلة جنولوجي عام 2014، حيث ساهمت في تطوير الفكر النسوي الكردي من خلال أبحاثها ومقالاتها في مقالها الذي حمل عنوان "إذا كانت المرأة واضحة كالشمس في هدفها فستجد منهجها" والمنشور عام 2016، في مجلة جنولوجي كتبت فيها "إن إدراك الحياة بشمولية، والوصول إلى الكمال، والتفرد، يتطلب سعياً دؤوباً، من الصعب بلوغ معرفة الحياة وتجربة الإنسانية من خلال إدراك الاختلاف والوعي، الأمر الجوهري هو امتلاك أسئلة واعية عن الحياة، واكتساب مهارة استخلاص ما تعلمه المرء بلا كلل من خلال الرؤية والتأمل والتساؤل، أو ربما بلوغ المعرفة العميقة بلمس القوام الرقيق للألوان والضوء، والتمسك بفنون الموسيقى والرسم والتصوير، ومعرفة كيفية إنشاء عداد للذاكرة عندما يحين الوقت، أو قبل شرحه لعمق وهدف علم الجنولوجيا قالت "يجب أن تثير اللغة التي أستخدمها سعياً يهدف إلى إقامة روابط جادة مع الطبيعة".

 

آثار ناكيهان في عفرين

تأسست دراسات الجنولوجي بالتزامن مع انطلاق ثورة روج آفا في إقليم شمال وشرق سوريا، حيث شكّلت هذه المرحلة أرضاً خصبة لتطوير علم يُعنى بفهم المرأة من منظور تحرري ومجتمعي، في عام 2017 بدأ أول تدريب رسمي للجنولوجيا بمدينة عفرين، وكانت ناكيهان أكارسال في طليعة هذه الجهود، إذ قادت عمليات التدريب واستطاعت أن تصل إلى آلاف النساء استمعت إلى قصصهن، ووثقت تجاربهن، في إطار بحثي يعكس التزامها العميق بقضايا المرأة.

بصفتها باحثة متخصصة، لم تكتف ناكيهان أكارسال بجمع القصص، بل ساهمت في بناء مشاريع ملموسة تركت أثراً واضحاً في المنطقة، وفي الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2018 شاركت في تأسيس قرية "جنوار" النسائية التي تُعد من أبرز المشاريع المستلهمة من فكر القائد عبد الله أوجلان، وتهدف إلى تمكين النساء من العيش باستقلالية في بيئة آمنة ومجتمعية، كما ساهمت في تأسيس معهد "أندريا وولف" في إقليم شمال وشرق سوريا، الذي يُعنى بتطوير الفكر البيئي والنسوي.

كما امتزجت مقاومة شرق كردستان بحماسة ناكيهان أكارسال، لتشكّل نموذجاً فريداً في النضال النسوي الكردي، حيث كانت رؤيتها تتجاوز الحدود الجغرافية، وتسعى إلى بناء مجتمع أكثر عدالة من خلال تمكين النساء فكرياً واجتماعياً.

وفي تصريح أدلت به نارين روج، إحدى زميلات ناكيهان أكارسال في إقليم شمال وشرق سوريا، كشفت عن حديث جمعهما قبل أيام قليلة من اغتيال ناكيهان أكارسال، تناولت المقاومة النسائية في إيران وشرق كردستان. وقالت "إن ناكيهان عبّرت عن حماستها العميقة تجاه نضال النساء هناك، وخصوصاً شعار Jin Jiyan Azadî الذي أصبح رمزاً لحراك نساء شرق كردستان.

وقالت "أشعر بفخر عميق تجاه نضال نساء شرق كردستان، وتأثر يرافقه خجل كلما وقعت عيناي على الصور القادمة من هناك، فالزهرة التي تنبت في تربتها تمتلك جذوراً لا تُقهر، ولا يمكن لأي تربة غريبة أن تمنعها من الإزهار" وهكذا محمّلة بآلاف الحكايات التي جمعتها في حقيبتها، شدّت ناكيهان أكارسال الرحال إلى مدينة السليمانية.

مشروع مكتبة المرأة

أمضت ناكيهان أكارسال وقتاً طويلاً في التواصل مع مكتبة المرأة الكردية في السليمانية في إقليم كردستان، واصلت العمل على المشروع، الذي قُدِّم على أنه "إجراء مُطور لمواجهة التجاهل في الفهم الذكوري السائد للتاريخ" حتى يوم اغتيالها، إلا أن ناكيهان أكارسال قُتلت أمام منزلها في السليمانية في الرابع من تشرين الأول/اكتوبر من عام 2022 كجزء من هذا العمل، بقي مشروع ناكيهان "مكتبة المرأة" غير مُكتمل، ومع ذلك بعد عام من وفاتها وفي الرابع والعشرين من حزيران/يونيو من عام 2023، افتتحت زميلاتها "مكتبة المرأة الكردية، والأرشيف، ومركز الأبحاث".

 

أحلامها

أجرت ناكيهان أكارسال دراساتٍ نسائيةً في الأجزاء الثلاثة الأخرى من كردستان، بدءاً من شمال كردستان كانت لديها أحلامٌ كثيرة من بينها الكتابة عن شهداء وسط الأناضول، لكن هذا العمل لم يُكتمل. إلا أن صديقة طفولتها روني إيليم قالت "هذا العمل لم يُكتمل، أريد إكماله"، وأكدت لها أن حلمها لن يبقى دون إنجاز.

لطالما كانت ناكيهان أكارسال حاضرة بمقالاتها الأكاديمية في مجلة جنولوجي، ومقالاتها في الشؤون الجارية في صحيفة "يني أوزغور بوليتيكا"، ومقالاتها التي تُسلّط الضوء على عالم المرأة في مجلة جنولوجي، واصلت عملها في مركز أبحاث جنولوجي حتى آخر رمق في حياتها، تاركةً وراءها إرثاً راسخاً وإيماناً راسخاً.

 

مذكراتها

ناكيهان أكارسال، التي عُرفت بكتاباتها الشعرية والقصصية، كانت تحمل في كلماتها مزيجاً من العاطفة والواقعية، يكشف عن عمق تجربتها الإنسانية، بعد اغتيالها بادر أصدقاؤها إلى نشر ديوانها الشعري "نيسان"، الذي ضمّ قصائد كانت بمثابة مقتنيات روحية جمعتها في حقيبتها كـ "أصداف بحرية"، "سوار من الخرز"، "مشبك شعر"، "دبوس شعر"، وحتى حجر... كل منها يحمل ذكرى، وكل ذكرى تنبض بمعنى خاص أضفته على الأشياء الجميلة التي لامستها.

وقد تجلّى هذا الحس العميق بأبهى صوره في قصيدتها "رائحة الرماد"، حيث تسرد رحلة امرأة، وتُصبح رمادك فيها إجابة على سؤال الوجود، لماذا يجب أن تولد من جديد؟ إنها دعوة للتجدد، للبحث عن الذات وسط الرماد، ولإعادة تعريف الحياة من خلال الألم والذاكرة.

وفي مقاله "الانطلاق بالتعاطف"، المنشور في العدد السابع من مجلة جنولوجي تحت عنوان "منظور حول طبيعة الرجل والرجولة"، دعت ناكيهان أكارسال الرجال والنساء إلى التعاطف كقيمة إنسانية مشتركة، مشجعةً على إعادة النظر في مفاهيم الرجولة التقليدية، ومؤكدةً أن التحرر لا يكتمل إلا حين يُنظر إلى الآخر بعين القلب، لا بعين السلطة.

ومن بعض تقييماتها أن "العتبة تعني البداية لحظة عبورك العتبة هي لحظة انطلاقك نحو الجديد التعاطف هو أيضاً عتبة للفهم إنه أسلوب للفهم، يتطلب التحرر من كل القلق والمخاوف، في النهاية هو بناء جسر مع قلب الآخر إن الوصول إلى ذلك القلب يعني تمكينه من التواصل مع العقل، وجعل المعنى الذي توصلت إليه مفهوماً من خلال الكلمات، إن فهم هذا المعنى المدرك في تلك اللحظة هو مسألة بحث، التعاطف هو الفهم والقدرة على نقل ما تفهمه للجميع بمن فيهم الشخص الذي تتعاطف معه، إن قول الأمريكيين الأصليين "قبل أن تحكم عليّ، عليك أن تمشي في حذائي" هو في جوهره قول حكيم عن التعاطف".

تُمثل النساء المُنظَّمات لحظة التغيير الأساسية في الثقافة الذكورية، إن إدراك هذا الأمر من النساء والرجال على حد سواء، أمرٌ أساسي لفهم لماذا تُعتبر الحياة الحرة مرادفةً لحياةٍ تتمحور حول النساء، نحن لا نتحدث عن نساءٍ أو رجالٍ أفراد، النساء المُنظَّمات مسؤولات عن تغيير الرجال وتحولهم، سيجد الرجال أيضاً طبيعتهم وحريتهم تحت قيادة هذه القوة النسائية، حتى تقبُّل هذا يتطلب سنواتٍ من الجهد، على سبيل المثال، داخل حركة حرية نساء كردستان، شُنَّ نضالٌ لسنواتٍ حول مفاهيم الوعي والحب والنضال الجندري، من المبادئ الأساسية أن تتواصل النساء مع زميلاتهن، وأن تتخلصن من جميع التحيزات الأبوية، وأن تحبن زميلاتهن، وأن تؤمنَّ بإمكانية بناء حياةٍ حرةٍ معهن.

مرّت ثلاث سنوات على مقتل ناكيهان أكارسال، أُلقي القبض على الجاني الذي كان يحاول الفرار إلى هولير، عند آخر نقطة تفتيش أمنية تابعة عند مخرج مدينة السليمانية، وفي الرابع والعشرين من كانون الثاني/ديسمبر من عام 2023، حُكم على القاتل إسماعيل راسم رفعت بكر، وهو مواطن تركي، بالإعدام من قِبل محكمة الاستئناف العليا في إقليم كردستان العراق، إلا أنه لم يُبلَّغ الجمهور ولا أقارب ناكيهان أكارسال بالتحقيق أو بإجراءات المحاكمة.

وفي ذكرى استشهاد ناكيهان أكارسال الثانية كشفت عضوة مركز أبحاث جنولوجي في بروكسل ومبادرة العدالة الدولية لناكيهان أكارسال سارة مارشا، عن خطورة إخفاء القضية عن الرأي العام قائلة "صرح القاتل نفسه خلال المحاكمة بأنه مُكلَّف من قِبل الدولة التركية، لكن لم تُوجَّه إليه أيُّ تُهم، علاوةً على ذلك عُقدت هذه المحاكمة سراً عن العائلة والرأي العام".

ومع تخليد ذكرى اغتيال ناكيهان أكارسال كتبت الشاعرة الإيرانية فروح فرخزاد، قصيدة التي أحبتها ناكيهان وبقيت تلازمها طوال حياتها.

لنؤمن ببداية فصل البرد

يا عزيزتي، يا وحيدتي

كثيرة هي الغيوم الداكنة التي تنتظر زيارة الشمس.

في يوم من الأيام، على درب حلمتِ بالطيران فيه،

ظهر ذلك الطائر، كأنه من بين خطوط خيالكِ الخضراء

أوراق نضرة تتنفس شهوة النسيم

وكأن تلك الشعلة الأرجوانية التي تشتعل في ذاكرة النافذة النقية

لم تكن سوى فكرة المصباح البريئة.