رشا الزين شاهدة عيان على "أحداث الطيونة"... تروي تفاصيل ما حدث
يوم عصيب مرّ على اللبنانيين استعادوا فيه شرارة الحرب الأهلية التي عاشوها في العام 1975 وامتدت 15 عاماً، ومن محور التماس نفسه الشياح - عين الرمانة
كارولين بزي
بيروت ـ .
وأودت أحداث ذلك اليوم الدموي بحياة سبعة ضحايا وإصابة نحو ثلاثين جريحاً. فيما تواصل النيابة العامة في لبنان تحقيقاتها للوقوف على ملابسات ما جرى على أرض الواقع في ظل وجود أكثر من رواية، وإلقاء القبض على عدد من الشبان والاستماع إلى إفاداتهم.
وعلى الرغم من تعدد الروايات وثّقت عدسات المصورين الذين نقلوا الأحداث مباشرةً على الهواء عمليات القنص من على المباني المحيطة بمنطقة الطيونة من ثلاثة نقاط، وهو ما تتحدث عنه لوكالتنا المراسلة اللبنانية رشا الزين والتي كانت تقوم بتغطية ذلك اليوم الدموي.
"شهود عيان أكدوا بأن عزّلاً كانوا متجهين نحو التظاهرة تعرضوا للقنص"
وتروي رشا الزين مشاهداتها عن يوم الخميس 14 تشرين الأول/أكتوبر "كان هناك تحذيرات أمنية ومخاوف من حصول إشكاليات بالتزامن مع انطلاق التحركات الاحتجاجية لكل من حزب الله وحركة أمل على الأرض في المسيرة التي تمت الدعوة إليها والمطالبة بتنحية القاضي طارق بيطار ومنعاً لتسييس القضاء في قضية انفجار المرفأ، إلا أن الجيش أكد بأن كل الأمور تحت السيطرة".
وأشارت إلى أنها عندما وصلت إلى مكان التظاهرة خابت كل توقعاتها "عندما وصلت إلى مستديرة الطيونة وتوجهت سيراً على الأقدام نحو قصر العدل كنا نرى الجيش منتشراً على طول الطريق، توقعت أن يكون هناك استفزازات بسبب طبيعة التظاهرة التي تطالب بتنحية القاضي طارق بيطار وعدم تسييس القضاء، لكن الأمر لم يتوقف على الاستفزاز بل أثناء التغطية سمعت صوت إطلاق رصاص، فتوجهنا من قصر العدل ناحية الطيونة لنعرف مصدر النيران، رأيت الشبان الذي أتوا للمشاركة بالتظاهرة يهربون من المكان الذي أطلق فيه الرصاص متجهين نحو قصر العدل"، وتشبه رشا الزين المشهد وكأنه تم إطلاع جماهير في ملعب لكرة القدم على وجود عبوة ناسفة في المكان وقد هربوا جميعاً.
وتضيف "مع كل شخص التقيناه كنا نستمع إلى رواية، وفي الوقت الذي انتشر خبر يدّعي بأن هناك شباناً اعتدوا على منطقة عين الرمانة، شهود عيان على الأرض أكدوا بأن شباناً كانوا متجهين نحو التظاهرة وتم إطلاق النار عليهم".
لم تتوقع رشا الزين أن ترى ذلك اليوم الدموي في ظل غياب أي نقطة اشتباك، "لم أتوقع أن نشهد هذه الحدة في ذلك اليوم. أول صدمة تعرضت لها في أحداث اليوم الطويل كانت عندما وصلت إلى المكان الذي سقط فيه الشاب حسن مشيك، وجدت الدماء وقبعته على الأرض وخلال نقله إلى المستشفى سمعت من يقول بأن هناك ضحايا وأعدادهم في تزايد. قمت بتغطية حروب واشتباكات، لكنها المرة الأولى التي أقوم فيها بتغطية أحداث لا أفهم منها شيئاً، وكل ما أعرفه أن هناك إطلاق نار ترافق مع تحذيرات للجيش بأن هناك إطلاق نار من ناحية عين الرمانة. فسألت عندما وصلت ما الذي حدث، وكان الجواب من الجميع بأن الشبان كانوا متجهين للمشاركة في التظاهرة وحصل اشتباك كلامي ورمي أحجار متبادل بينهم وبين شبان من عين الرمانة، ثم بدأ إطلاق النار على المتظاهرين، وهي رواية اتفقت عليها كل الأطراف في البداية".
وأضافت "ازدادت حدة النيران من ناحية عين الرمانة، وهي الجهة التي يتمركز على مبانيها القناصين. حتى أن القوى الأمنية كانت تحذر من القناصين وتشير إلى أن هناك كمين، وعبارة كمين كانت تقال على لسان القوى الأمنية ومعنى الكمين أن هناك مجموعة من الأشخاص قامت بإطلاق النار غدراً على المتظاهرين".
"مريم لم تحمل سلاحاً ولم تقاتل... ما ذنبها؟!"
مع تأزم الوضع ازداد عدد الجرحى والضحايا "الجهة الوحيدة التي تمدنا بالمعلومات هي الدفاع المدني الذي حذرنا من وجود ثلاثة نقاط يتم إطلاق النار منها، وكنا نتجنب المرور في هذه النقاط. بعد أن خفتَ صوت الرصاص بدأ الجيش ينتشر بقوة وتوجهت إلى السيارة للحصول على الخوذة لكي أحمي نفسي من الرصاص".
وكان الجيش اللبناني قد أصدر بياناً مع بداية الأحداث جاء فيه "خلال توجه محتجين إلى منطقة العدلية تعرضوا لرشقات نارية في منطقة الطيونة - بدارو وقد سارع الجيش إلى تطويق المنطقة والانتشار في أحيائها وعلى مداخلها وباشر البحث عن مطلقي النار".
أما الصدمة الثانية في يوم اللبنانيين الطويل، فكانت وقوع مريم فرحات التي كانت في بيتها، "فيما يتعلق بمريم عشت تفاصيل الحدث ولم ينقل أحد الخبر لي، بل كنت شاهدة عليه".
وتروي لنا تفاصيل ما شاهدته "تم التواصل معنا وإخبارنا بأن هناك مجموعة من الفتيات عالقات في أحد المباني ورددت ذلك الأمر على الهواء مباشرةً وتوجهت إليهن بهدف تقديم المساعدة مع الدفاع المدني. وصلت إلى مكان قريب جداً من منزل مريم ثم سمعت صوت إطلاق نار قوي، وفجأة سمعت صوت صرخة لا يزال صداها يتردد في أذني".
وبالرغم من التوتر وكل ما عاشته رشا الزين لم تنسى أن تحترم الضحايا وعائلاتهم خلال تغطيتها للأحداث "ركضت مع المصور إلى المبنى الذي تقطن فيه مريم، قيل لي أن امرأة أصيبت في هذا المبنى وبالفعل توجهت إلى منزلها في الطابق الثالث، عندما وصلت إلى مدخل البيت سمعت أصوات عائلتها تقول إن الحاجة قتلت. كنت أمام الحرمة الشرعية واحترام مشاعر عائلتها فلم أصورها. واعتدنا فيما يتعلق بالمواضيع الإنسانية بأنه لا مكان للسبق الصحفي. حتى أنني طلبت من المصور ألا يدخل وقمت بإقفال باب منزل مريم، بعدما رأيتها وشاهدت عائلتها، لذلك قررت أن أنزل من الطابق الثالث إلى مدخل المبنى بانتظار أي تفاصيل عنها. وصلت سيارة الإسعاف وقد حملتها عائلتها. استوضحت عن هويتها وسنها وتبين أنها بالأربعينات وبدأ كل معارف مريم يصلون تباعاً بعدما سمعوا الخبر".
وأكدت على أن العديد من الأشخاص وقعوا ضحايا دون أن يكون لهم أي ذنب "بعد خبر وقوع مريم ضحية الأحداث التي مرت بها المنطقة قمت بالتقاط مشاهد لمنزلها الذي يقع في الطابق الثالث ولا يوجد فيه شرفة فالبيت مقفل، قيل لي أنها ارتدت أكثر من قطعة ملابس بعدما سمعت صوت الرصاص وأخبرت عائلتها أنها وضعت هذه الملابس خوفاً من أن تموت، مريم كانت بانتظار ابنتها كي تصل من المدرسة، ربما لتحضر لها الطعام، ولكن الأكيد أن لا ذنب لها بما يحصل فهي لم تحمل سلاحاً ولم تقاتل، ولم تقف لترى ما يجري في الخارج على شباك منزلها، ويبدو أن القناص كان مرتاحاً فقد استهدفها من داخل منزلها".
"شعرت بالخوف ومن أن هناك من يريد إحياء الحرب الأهلية"
كان لوقوع مريم فرحات ضحية لرصاص القناص تأثير على رشا الزين التي بدأت تشعر بخوف شديد، "بدأت أخاف على المصور الذي يرافقني وعلى الشبان الذين جاؤوا لمشاهدة ما يجري. حتى أن هناك من سألني لماذا أصرخ على الهواء، ولكنني كنت أطلب من الناس الابتعاد لأنني شعرت بالخوف من أن تسقط ضحية جديدة أمامي. حتى أنني كنت أحاول الاختباء ولكن لم أعرف حينها أين يقف عدوي، لأن الشخص الذي يقتل امرأة في بيتها، لن يتوانى عن استهدافي".
وكانت نقطة التحول مع مريم فرحات "عندما نزلت من بيت مريم تبادر إلى ذهني المشهد الذي قمت بتغطيته العام الماضي بعد الإشكال الذي حصل بين عين الرمانة والشياح وحضرت أمهات الشارعين ووزعن الورود على بعضهما البعض، كما تبادر إلى ذهني مشهد الحرب الأهلية التي لم أعشها، ولكنني شعرت أن هناك من يريد أن يعيد إحياء هذه المرحلة من جديد، وهذا الأمر مرفوض من قبلي قبل أي شخص آخر، لأنني لا أريد أن أعيش هذه الحرب".
وتروي رشا الزين المزيد من التفاصيل التي عايشتها في ذلك اليوم "أما نقطة التحول الثالثة، عندما تحوّل المشهد إلى فلتان أمني لم نعد ندرك ما الذي يحصل ومن أين تأتي رشقات الرصاص، كنا نعيش حالة فوضى، فبعدما حصل مع مريم وسقوط ضحايا عزّل ورصاصات القنص تطال المارة لم يعد أمامنا إلا مشهد من الفوضى وردود فعل من الطرف الآخر الذي أشهر سلاحه دفاعاً عن نفسه".
وتضيف "لم أخف على نفسي بقدر ما شعرت بالخوف على المصور الذي يرافقني لأن رضوان حرب هو معيل والدته، لذلك شعرت بالخوف عليه أكثر من نفسي. حاولت مساعدته مراراً، في هذه اللحظة تحديداً نتجرد من مشاعر الخوف التي تخصنا ولكن ما كان يهمني حينها كان بأن أوصل للمشاهد ما الذي يحصل على الأرض، لأننا أحياناً نلمس تضليلاَ من بعض المراسلين والقنوات، وهو ما حصل فعلياً مع يوم الخميس الدموي".
"سمعت سيناريوهات مراسلين لم أرها في أحداث الطيونة"
تؤكد رشا الزين على أهمية أن ينقل المراسل الواقع بتفاصيله من دون تضليل، علماً أن ذلك لم يحدث في أحداث كثيرة وآخرها ما حصل في الطيونة "والدتي كانت بانتظار مشاهدة أحد المسلسلات وفجأة تم قطع البث ونقل ما يجري على أرض الواقع من أحداث، فشعرت بالخوف ثم انتقلت إلى القناة التي أعمل فيها لتجد أنني أنقل رسالة مغايرة تماماً لما سمعته على قناة أخرى... وفيما يتعلق بالتغطية كنت أسمع سيناريوهات من قبل المراسلين زملائي لا أراها وغير موجودة على الأرض، ولكنهم ينفذون أجندات أو تعليمات معينة".
وانتقدت رشا الزين الجمعيات والمنظمات النسائية التي لم تذكر مريم فرحات ولم تبدِ تعاطفاً معها، وتسأل "لماذا لم يتم تسليط الضوء على مريم؟ أليست ضحية؟ هي أيقونة كمين الطيونة، لم تذكرها أي جمعية أو تكتب عنها".
وتضيف "لست محللة بالشؤون العسكرية ولكنني رأيت أسلحة متطورة من خلال عمليات القنص المحترفة التي كانت تقتل وتصيب عدداً من المارة. يجب أن يكون هناك تعاطف مع الضحايا بعيداً عن الأحقاد والانتماءات السياسية، هناك أبرياء سقطوا في البداية وكانوا عُزّل. فأحد الضحايا والذي يدعى مصطفى زبيب كان يتحدث عبر الهاتف مع صديقه الذي يرشده للطريق الذي يوصله إلى قصر العدل وتم إطلاق النار عليه، أنا أعرف هذا الشاب على الصعيد الشخصي وهو كان يجهز نفسه لحفل زفافه بعد أربعة أشهر. عندما تطورت الأمور قام الأشخاص الذين يتعرضون للقنص بإشهار أسلحتهم وكانت تلك ردة فعل لما يحصل. عندما نصل إلى قنص امرأة في منزلها وقتلها لم يعد بإمكاننا أن نعتب على أحد، إذ تحوّل الواقع إلى فوضى"، مشيرةً إلى أن "المؤسسة العسكرية هي المسؤولة عن كشف حقيقة ما جرى، ليس رواد مواقع التواصل الاجتماعي".
"لا مكان للحيادية والسبق الصحفي في القضايا الإنسانية"
لم تُفاجئ رشا الزين بمواقف زملائها أو بطريقة نقلهم للخبر، وحتى من خلال تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعتبر أنه بهذا الأمر تحديداً لا يمكن الوقوف على الحياد.
وتلفت رشا الزين إلى أن المراسل يتحول إلى شاهد عيان ولاسيما لدى عائلات الضحايا، الذين يسألون عن تفاصيل اللحظات الأخيرة التي كان فيها المراسل شاهداً عليها قبل أن تفارق الضحية الحياة "في عصر الرقمنة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن ننتبه لكل ما يمكن أن نقوله على الهواء مع عائلات الضحايا لأن هذا الأمر ليس سبقاً صحفياً".
وتعود إلى بداية الأحداث وتشير إلى أن "إطلاق النار بدأ من سيارة يستقلها خمسة أشخاص ذكرنا أسماءهم ورقم سيارتهم ونوعها على الهواء. وثمة فيديوهات وثّقت وجود قناصين باعتراف الجيش الذي حصل على تسجيلات الكاميرات الموجودة في كل الشارع، وهذه الفيديوهات تظهر كل ما حصل في ذلك اليوم".
"الجميع خاسرون في حال اشتعلت الحرب"
وعبرت رشا الزين عن استيائها بسبب إطلاق بعض القنوات صفة قتيل أو قتيلة على الضحايا الأبرياء، وتقول "أليست مريم ضحية برتبة شهيدة؟ أنا وجهت سؤالاً لكافة الزملاء الذين لم يتعاطفوا حتى مع مريم، سألتهم ما هو ذنب مريم وما الذي فعلته كي تلقى هذا المصير، فلم ألقَ جواباً شافياً ولكنني ندمت أنني دخلت معهم بنقاشات مثل تلك".
وتلفت إلى أن "المراسل في هذه الظروف يقف بين الخيار المهني والخيار الإنساني، إيجاد التوازن بينهما مرهق، لأن إيصال الرسالة كما هي يؤذي مشاعر الناس وأهالي الضحايا، أو حتى ذكر أسماء الضحايا، حتى أنني طلبت من الشخص الذي كان يذكر أسماء الضحايا بالابتعاد عن الكاميرا كي لا نخبر عائلاتهم على الهواء".
من الأهمية أن يضع المراسل نفسه مكان العائلات التي تشاهد البث المباشر على التلفاز، وهو الأمر الذي يغير الممارسة على الأرض. أركز على ما يريد المشاهد معرفته فقط، وأمام دماء الضحايا تسقط الحيادية".
وبعد ادّعاء البعض بأن ما جرى على الأرض هو اشتباك، تسأل رشا الزين مع سقوط ضحايا من جانب واحد وجرحى من المكان نفسه، أين هو الاشتباك؟
وأكدت أن اللبنانيين لا يريدون تكرار الحرب الأهلية التي مرت بها البلاد سابقاً "ثمة أشخاص كبار بالسن في منطقة الشياح عاشوا الحرب الأهلية حاولوا تهدئة الشبان الغاضبين الذين تضررت منازلهم، وطلبوا منهم ألا يسمحوا لمطلقي النار أن يجروهم إلى الفتنة. لا أهالي عين الرمانة ولا الشياح يريدون اشتعال حرب بينهما"، مؤكدةً أنه "لا يوجد رابح وخاسر في حال وقعت الحرب بين أبناء الوطن الواحد، بل أن الجميع خاسرون".
مع التوتر الذي عاشته في ذلك اليوم العصيب، تلفت رشا الزين إلى أنها بعد تغطيات عديدة مثل "فجر الجرود"، وأحداث عبرا خلال ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، تلقت علاجاً نفسياً في جلسات نظمتها وزارة الصحة لتساعد المراسلين الذين يعملون في مناطق النزاعات.