نساء غزة تحت الخيام... صمود لا تذروه الريح ولا تطفئه نار الحرب

في وطنٍ تحوّل إلى ركام، تعيش النساء فصولاً من النزوح والحرمان، يواجهن الموت بصمتٍ صامد، ويصنعن من العجز عزيمة لا تنكسر.

نغم كراجة

غزة ـ في قطاع غزة، حيث لا مكان للراحة، والسماء لا تعرف السكون، تتكاثف تفاصيل الوجع وتتعاظم ملامح الصمود في وجوه النساء اللواتي أصبحت الخيمة سقفهن الوحيد، والرصيف مأواهن الدائم، في زمن الحصار والنزوح تبحثن فقط عن موطئ قدم في وطنٍ ضاق عليهن.

في زيارة لكاميرة وكالتنا إلى مخيمات النزوح في غزة، اقتربنا من خيمتين، إحداهما على رصيف في غرب غزة، والأخرى في زقاق مكتظ بالألم، حيث تسكن رشيدة معروف وانتصار صبح، امرأتان تحوّلتا إلى مرآة صادقة لوجع نساء فلسطين.

 

من منزلٍ متعدد الطوابق إلى خيمةٍ على الإسفلت

لم تكن تتخيّل رشيدة معروف أن تعود إلى شمال غزة بعد نزوحها القسري منه في تشرين الأول/أكتوبر2023 لتجد مدينتها وقد تحوّلت إلى أشباح من خرسانة وغبار، كانت تحلم بعودةٍ إلى منزلها في مخيم جباليا، حيث الذكريات المعلّقة على الجدران والضحكات التي كانت تسكن الزوايا لكن حين وطئت قدماها المكان، وجدت الركام يرحّب بها بصمته المدوّي.

"انهرتُ لحظة رأيت بيتي، لم أتخيّل أن كل تلك الطوابق ستغدو تراباً، لم يكن مجرد بيت بل قطعة من روحي، هناك قُتل أبنائي الاثنين ودفنوا تحت الحجارة التي شيدوها بأنفسهم.. البيت راح.. والأبناء راحوا.. وكل شيء ضاع" تقول رشيدة معروف وهي تحدّق في كومة الأنقاض.

ورغم ذلك، لم تفكّر للحظة في العودة إلى الجنوب، اختارت أن تنصب خيمتها إلى جوار الركام، وتضع كرسيها أمامه كل صباح، تنظر إليه وتستحضر تفاصيل البناء، من أول حجر حتى آخر نافذة ثم تتمتم بصوت متهدّج "كله فدى فلسطين... لا نترك أرضنا مهما حدث".

 

خيمة على الرصيف... نزوح فوق نزوح

لكن الحرب لم تمهلها كثيراً، فبعد عودتها إلى الشمال، تجدد القصف منتصف آذار/مارس 2025، وصدرت أوامر إخلاء جديدة، تجاهلتها في البداية لكنها حين رأت الصواريخ تتساقط حولها من كل جهة، اضطرت لحمل خيمتها والسير بها خمسة ساعات متواصلة برفقة أبنائها الثلاثة.

وتقول "مضينا نجرّ أقدامنا فوق التعب، كنتُ أُخبئ دموعي حتى لا ينهار أولادي، لم يكن معنا شيء سوى الخيمة، وبعض الصور الممزقة، وصلنا إلى غزة ونحن لا نعلم إلى أين، كل المخيمات ممتلئة، ولا مكان لنا، فاخترنا الرصيف ملجأ".

نصبت خيمتها على طرف أحد الشوارع، هناك تحت ضجيج السيارات وتحت عيون المارة، بدأت فصلاً جديداً من المأساة، تجلس أمام الخيمة، تحدق في المجهول، ثم تقول "ما الذي حصل لنا؟ وإلى متى هذا الجحيم؟ عام ونصف من النزوح، من الجوع، من البرد... حياتنا تحوّلت إلى كتاب حافل بالعذاب، لا نعرف طعم الراحة، ولا حتى لحظة هدوء".

تتحدث رشيدة معروف عن الإذلال الذي تتعرض له النساء أثناء استلام المساعدات الإغاثية، فتقول "المساعدات شحيحة، وإذا وصلت، تقدّم لنا بطريقة تُشعرنا أننا لسنا بشراً.. نقف في طوابير طويلة، نسجّل أسماءنا في روابط إلكترونية لا تعمل، نُعامل وكأننا نطلب صدقة.. هل هذه هي الحياة التي نستحقها؟".

 

صبر سبعيني لا يلين

قريباً من خيمة رشيدة معروف تعيش انتصار صبح، المسنّة التي نزحت ثلاث عشرة مرة منذ بدء الحرب، حتى تحوّلت ورقة صغيرة في حقيبتها إلى سجلٍّ لمراكز الإيواء التي عبرتها "كل مركز كتب جزءاً من عمري، وكل رحلة نزوح أخذت قطعة من روحي، هل يُعقل أن تقضي امرأة مسنّة كل هذه المسافات بلا مأوى حقيقي؟"، تقول وهي تهز رأسها بأسى.

تعيش داخل خيمة صغيرة تضم اثني عشر فرداً من عائلتها، لا تجد فيها مكاناً لتتمدد أو تنام براحة "أحيانًا أنام وأنا جالسة، لا مكان أستلقي فيه. الخيمة تخنقنا، الهواء لا يدخل، والرطوبة تأكل أجسادنا...أي حياة هذه؟! أية كرامة بقيت لنا؟".

 

مرض السكري وسوء التغذية

تغفل انتصار صبح أحياناً مرضها السكري وسط أهوال الحياة لكنها تدفع الثمن "أحتاج جرعات محددة، لكنها غير متوفرة.. أكتفي بحبوب قليلة المفعول، وأحياناً يُغمى عليّ من شدة التعب والجوع، من يهتم؟ الغذاء والماء أولوياتنا الآن لكن حتى الأكل صار رفاهية".

وتتابع بصوت مختنق "كل شيء غالٍ، المعابر مغلقة، والتجار يستغلوننا.. إن رغبتُ بشراء شيء، أفكر ألف مرة، فأنا لا أستطيع توفير الكمية الكافية للعائلة، فأحرم نفسي حتى لا يشعر أبنائي بالحسرة".

وأشارت إلى أنها تعاني من سوء تغذية أثر على بصرها، ثم تضحك بسخرية ممزوجة بالدموع "حتى نظري بدأ يخونني، لكن لا وقت للتذمر، نحن نُدفن في الخيام كل يوم، ولا أحد يسمع".

تعرضت انتصار صبح وعدد من أفراد عائلتها إلى نوبات متكررة من الإنفلونزا التي تنهك أجسادهم يوماً بعد يوم، بسبب البرد القارس الذي يخيّم على الخيام ليلاً، لا عوازل، لا أغطية كافية، ولا قدرة على تدفئة أجسادهم النحيلة التي تتكوم فوق فراش مبلّل بمياه الأمطار المتسرّبة من جوانب الخيمة المهترئة، تشرح وهي تنظر إلى سقف القماش "أحياناً نضطر للنوم ونحن نرتجف... فراشنا مبلول، أجسادنا ترتعد، وليس لنا خيار آخر".

 

نساء لا يرحلن... وإن اشتد الحصار

رغم القصف والتهديدات اليومية، ترفض رشيدة معروف وانتصار صبح فكرة مغادرة غزة. تقول رشيدة معروف "لو أرادونا أن نرحل، فليرحلوا هم.. نحن أصحاب الأرض، من ترابها جئنا وفيها نموت.. خيمتي على الرصيف، لكنها على ترابي، ولست في منفى".

وتضيف انتصار صبح "سنموت هنا واقفين، لا على أبواب معابر لا تُفتح، ولا في شوارع اللجوء، تهجرنا الحرب كل يوم، لكننا لا نهجر أرضنا".

 

صرخة أخيرة: متى ينتهي هذا؟

تتشاركان نداءً موجعاً وتقولان "صرخات النساء في غزة وصلت كل مكان لكن لم يسمع أحد.. نحن لا نطلب سوى وقف القصف، وإفساح المجال لنا لنعيش بسلام.. نساء غزة يُقمن بدور الدولة في تربية الأطفال، ورعاية المرضى، وتحمل المآسي. ألا يستحق هذا الصمود أن يُكرّم لا أن يُقصف؟!، الخيام كتمت أنفاس المرأة ودفنت حياتها"، مؤكدات "نحن نساء لا نكسر... حتى ولو كنّا ننام فوق الرصيف".