أمهات غيرن مسيرتهن المهنية بعد إنجاب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة

تضحيات عديدة تقدمها الأمهات لأبنائهن وفقاً لقدراتهن الخاصة، فهناك من تركن مهنتهن الأساسية وضحيّن بمستقبل مهني واضح المعالم من أجل مهنة أخرى تخدم أبنائهن من ذوي الاحتياجات الخاصة

إيناس كمال
القاهرة ـ .
في مصر، ووفقاً لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن إجمالي عدد الأشخاص ذوي الإعاقة بلغ 20 مليوناً و278 ألفاً و35 شخص في جميع المحافظات والقاهرة تحتل المرتبة الأولى. 
 
"أنا ربيت بطلاً في السباحة والفروسية"
إحدى هؤلاء النساء هي عبير عبد الحميد والدة سيد محمد محروس وهو بطل الجمهورية في السباحة والفروسية والذي تم اختياره أيضاً في لجنة شباب ذوي الهمم التابعة لوزارة الشباب والرياضة.
تتحدث عبير بفخر واعتزاز عن نجلها ففي كل جملة تتحدث عنه تقول "حبيبي بطل" بالعودة إلى الوراء قليلاً، كانت ولادة سيد طبيعية، لكن جرح في حبل السُرى تسبب في حدوث تلوث وإصابته بميكروب "التيتانوس" مما تسبب في ارتفاع درجة حرارته ما أدى إلى ضمور في مركز الحركة والكلام وإعاقة ذهنية وسمات توحد.
لا تقف عبير كثيراً عند هذا الجزء من قصتها فهي ترى أن كل شيء هو مُقدر، فقامت من أجل ابنها بتغيير مسار عملها إذ كانت متخرجة من كلية التربية النوعية قسم تكنولوجيا التعليم وكانت تعمل كأخصائية تعليم في مدرسة بالتعليم العالي، لكن مجيء ابنها سيد غير خططها لتتجه إلى دراسة برامج ودورات متخصصة لتأهيل ذوي القدرات الخاصة وأصبحت تعمل في أحد المدارس بالتربية الخاصة. 
على مدار ما يقارب العشر سنوات درست عبير في عدة دورات تدريبية متخصصة ومتقدمة في علاج اضطرابات النطق كما أنهت دبلوم مهنية ودبلوم في التربية الخاصة ثم ماجستير في اضطرابات النطق والكلام.
كانت تتعمد المكوث كثيراً في الدراسة تقول "درست الماجستير في اضطرابات النطق على مدار خمس سنوات حتى كادوا يقصوني، لكني أردت المكوث وقت أكثر، لأتمكن من دخول أكاديمية البحث العلمي وأحظى بمعرفة البرامج التنموية للأطفال ذوي الإعاقة".
وبعد الماجستير درست عبير الدكتوراه عن "اضطرابات التوحد" لعلاج سمات التوحد لدى ابنها، ووقتها استطاعت الدخول إلى قواعد البيانات الأجنبية والعربية والحصول على برامج علاجية كباحثة وتطبيقها على ابنها وهو ما ساعد كثيراً في تقدم حالته "مكثت أيضاً 5 سنوات في تحضير الدكتوراه وقتها، وهي أقصى مدة متاحة".
استفادت كثيراً من كل تلك البرامج التي كانت تطبقها على ابنها ولا تندم على هذه السنوات "أنا ربيت بطلاً، وأفتخر به دوماً"، فهو الآن بطل جمهورية في الفروسية والسباحة كما يدرس في أكاديمية الفنون بالقاهرة وقام بإخراج فيلم بالرسوم المتحركة لتوعية الأطفال المعاقين ذهنياً وأطفال التوحد ضد التحرش الجنسي ومثّل مصر في المهرجان السينمائي الدولي الأول لفنون ذوي القدرات الخاصة وحصل على ميدالية فضية وشهادة تقدير وتم تكريمه.
 
"جميعنا نحتاج الدعم والتقبل والحب" 
أما مها هلالي، فبعد تخرجها من كلية اقتصاد وعلوم سياسية وعملها في قطاع البنوك حيث كانت آخر وظيفة عملت بها هي مساعد إداري في مكتب اليونسكو بالقاهرة، تركت ذلك كله جانباً من أجل ابنها الذي أصيب باضطراب طيف التوحد وأصبحت حالياً عضو مجلس إدارة المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة.
تقول عن سبب ذلك التغيير "هو عدم وجود برنامج متخصص للتوحد في مصر، ولكن هناك برامج للإعاقة الذهنية العامة".
رحلة شيقة ومجهدة خاضتها مها هلالي في سبيل دعم ابنها مصطفى تقول "بعدما سافرت للخارج وأطلعت على البرامج الموجودة هناك، استقلت من عملي وبدأت العمل مع الشركاء لإنشاء مركز متخصص لصعوبات التعلم، أحدهم طبيباً نفسياً، والآخر أخصائي صعوبات تعلم، ويقدم المركز خدمات التقييم وجلسات التأهيل للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة".  
بعد ذلك افتتحت مها هلالي فصل للأطفال المصابين بطيف التوحد واستعانت في تطويره بأخصائية بريطانية من أصول مصرية، وقررت مع عدد من أولياء الأمور، تأسيس جمعية متخصصة، كانوا ٧ منهم 5 لديهم أبناء مصابين بالتوحد واثنين إعاقات ذهنية وأسسوا جمعية "التقدم" للأشخاص ذوي الإعاقة والتوحد.
لم تندم مها هلالي أبداً على تغيير مسارها المهني تقول "وجدت أن ابني فتح لي عالم جديد وشيق، درست ماجستير في التربية الخاصة والدمج وهذا أثقل عملي كثيراً" وهي تحظى حالياً بمسيرة مهنية متقدمة في العمل مع الأشخاص ذوي الإعاقة من خلال عملها في المجلس.
خطوة تغيير مسار عملها المهني بعد آخر وظيفة عملت بها في مكتب اليونسكو بالقاهرة، أتى بالخير على حياتها، بحسب مها هلالي والتي أكدت أنها كلما سارت خطوة تجاه طريقها الجديد كان يفتح لها أبواب عمل أخرى للعمل من أجل ابنها والأشخاص ذوي الإعاقة.
فعملها مع الأشخاص ذوي الإعاقة غير منظورها للحياة عموماً، وجعلها ترى العالم بمنظور جديد، فقد سافرت إلى بلدان كثيرة، وتعرفت على أناس كثيرين، وتختتم حديثها قائلة "في الأخير كلنا بشر في نفس الوضع الإنساني، نحتاج دعم وتقبل وحب".
 
"ابني كان فرصة لأعرف مشكلات هذه الفئة"
قبل نحو 23 عاماً، رزقت غادة شمس بطفلين توأم، وأخذت إجازة رعاية لمدة عامين للطفلين، لكن خلالهما بدأت تظهر على أحد طفليها علامات غير طبيعية وبعد الكشف والتحاليل تلقت الصدمة وهي أنه مصاب بهشاشة كروموسوم x وسمات توحد.
كانت غادة شمس في ذلك الوقت تعمل كمهندسة كمبيوتر في شركة قطاع الأعمال، لكن عامي الإجازة زادا إلى أربع وابتعدت عن عملها الأساسي من أجل البحث عن أسئلة لإجابات عديدة كان تدور داخل رأسها عن ذلك العالم "عالم الأطفال المصابين بإعاقات مختلفة".
ومن خلال بحثها، استطاعت مع مجموعة من الأمهات وأولياء أمور الأطفال المصابين ومجموعة أطباء متخصصين تأسيس جمعية لتدريب الأمهات على التعامل مع أولادهم وكذلك تدريب المدرسين وأولياء الأمور مجاناً.
عاماً بعد عام بدأت خبرتها تصقل وتزداد في ذلك المجال خاصة حينما تعرفت على أخصائية علم نفس تربوي في كلية رمسيس الجديدة، وترشحت لكورس لمدة عامين مجاني وتطوعت لترجمته، وعملت متطوعة كمدير تنقيذي لاتحاد مصر لجمعيات الأشخاص ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في مصر وهو ما تم تأسيسه فيما بعد.  
كانت أحد المشاركين في وضع تصورات وخطط بعضها داخلي وبعضها خارجي وتولت ملف الصحة داخل المجلس كما استطاعت توظيف لغتها الإنجليزية الجيدة بما يخدم أهداف المجلس. 
غادة شمس تعمل في لجنة التخطيط والمتابعة بالمجلس ومسؤولة عن ملف المجتمع المدني، وترى أنها لم تندم على قرارها ذلك "لم أندم على قراري لأنه لدي يقين أن هناك رسالة معينة في الحياة، ولولا ذلك لما كنت لأعرف مشاكل هذه الفئة ولا احتياجاتهم ولا أشارك في وضع مقترحات القانون".
 
لماذا الأمهات الأكثر ميلاً للتضحية
وترى غادة شمس أن الأمهات هن الأكثر ميلاً للتعافي النفسي من صدمة إصابة أحد أطفالهم بالتوحد والتصرف أكثر من الأب لذلك الأمهات هن من يقمن بهذه التضحيات كما أن الأم مطالبة بأخذ خطوات فعلية واقعية وعملية. 
أما داليا عاطف وهي خبيرة متخصصة في مجال الإعاقة فترى أن أسر المصابين باضطرابات التوحد يتحملون أعباء معنوية واقتصادية ثقيلة على كاهلهم وخاصة الأم وأحياناً بعض الآباء، وتنطوي رعاية الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد على متطلبات كثيرة، خاصة عندما تكون فرص إتاحة الخدمات والدعم غير كافية وهذا ما يعانيه غالبية المصابون به.
وتضيف داليا عاطف أن التوحد يؤثر على نمو الطفل وتطوره، وتختلف مظاهر التوحد حسب مستوى التطور وعمر الفرد، وعادة ما تسبب خللاً وظيفياً في التفاعل الاجتماعي والتواصل مع الآخرين وبعض الأعراض الأخرى وتوصي الأمم المتحدة بتحسين حياة الذين يعانون من التوحد حتى يتمكنوا من العيش.
مشكلات عديدة تعاني منها أمهات الأشخاص المصابين بالتوحد وعن ذلك تقول داليا عاطف "هناك التشخيص الخاطئ أحياناً، وندرة المراكز المتخصصة والمدارس الدامجة التي تراعي طفل مصاب بالتوحد، وحتى لو وجدت الأم المركز والمدارس فتجد أنها عالية التكلفة إضافة للمعاناة في دمجهم في المجتمع، كما أن تكاليف العلاج والتحاليل والفحوص وجلسات التخاطب مكلفة جداً والمراكز الحكومية التي تقدم الخدمة قليلة وغير كافية، إلى جانب أن المعلومات المتاحة عن التوحد قليلة ومتضاربة وهو ما يصعب من معاناة أمهات وآباء أطفال التوحد".
وإجابة عن سؤال "لماذا أمهات ذوي التوحد الأكثر ميلاً لتغيير عملهن؟" تقول داليا عاطف إنه "بالنسبة للكثير من الأشخاص الذين يعانون من طيف التوحد، يعد الوصول إلى تقنيات مساعدة ميسورة التكلفة شرطاً أساسياً لتمكنهم من ممارسة حقوقهم الإنسانية الأساسية والمشاركة الكاملة في مجتمعاتهم، لذا تحتاج بعض الأمهات إلى ترك عملهن الأساسي، وتتفرغن لرعاية أبنائهن وتبدأن في التدريب على التعامل مع أطفالهن لكي تتبنى حالته لتوفر التكلفة الاقتصادية في سعر الجلسات الخاصة بالتخاطب وتنمية المهارات، وبعد خبرة الأم وتدريبها مع طفلها خلال سنوات عمره تصبح الأم متخصصة وفي كثير من الأحيان تقوم بدراسة ماجستير أو دكتوراه متخصصة في الإعاقة وخاصة التوحد وبهذا تتمكن من فتح مركز متخصص تتابع من خلاله ابنها أو ابنتها وتنقل الخبرة لباقي الحالات وأولياء الأمور".