شواهد بلا هوية... حذف رمزي لوجود النساء من الذاكرة
في مجتمع لم تستطع فيه حتى لحظة الموت أن تمنح المرأة حقّها في الاسم، تتحوّل شواهد القبور إلى سردية أخرى من الإقصاء، حيث تُمحى صورتها، ويُستبدل اسمها برموز تحلّ محل الهوية، بهذا الشكل تُعاد صياغة المقابر لتبقى فضاءً ذكورياً.

نسيم أحمدي
كرماشان ـ تُستبدل هوية المرأة المتوفاة في إعلانات الوفاة وشواهد القبور غالباً برموز مثل الزهرة، الشمعة، الحمامة، أو كلمات ذات دلالة رمزية، فتغيب صورتها واسمها الحقيقي عن المشهد الجنائزي، وهذا التغييب لا يشمل الرجال إذ يُذكرون بعد وفاتهم بأسمائهم الكاملة وتُعرض صورهم دون تحفظ، وكأن الموت يمنحهم حضوراً علنياً لا يُمنح للنساء.
في الوقت الذي يُعرَّف فيه الرجال في إعلانات الوفاة بهويتهم الكاملة، تُختزل النساء غالباً في أوصاف عامة وغير شخصية مثل "الزوجة"، "الأم"، وغيرها دون ذكر أسمائهن الحقيقية، هذا التغييب المنهجي لا يعكس مجرد اختيار لغوي، بل يُعدّ شكلاً من أشكال الإقصاء الرمزي من الذاكرة، ويكشف عن معتقدات راسخة تواصل فرض سلطتها على جسد المرأة واسمها حتى بعد الموت.
شواهد القبور مرآة للسلطة الذكورية
ولا يقتصر هذا التهميش على النساء المتوفيات فحسب؛ ففي حالات وفاة الرجال، تُذكر أسماء الأبناء الذكور، الإخوة، الأب، والعم، بينما تُغفل أسماء البنات في كثير من الأحيان، بل إن الإعلان قد يتجنب ذكر الابنة تماماً، ويكتفي بالإشارة إلى زوجها، فيُستبدل اسمها الحقيقي بعلاقة نسب غير مباشرة، وكأن حضورها لا يكتمل إلا من خلال الرجل.
أحياناً وإن كان ذلك نادراً، تُنقش صورة امرأة على شاهد قبرها، ومع أن هذه الحالات قليلة، إلا أنها كافية لتثير قلق السلطات وتدفعها إلى اتخاذ موقف معارض تجاه هذا الفعل.
في شهر تموز/يوليو 2022، أعلن المدير العام لمؤسسة "بهشت زهرا" عن إزالة وتعديل 98 شاهد قبر تعود لنساء وضعت صورهن دون حجاب، وبحسب تصريحه، فإن هذه الشواهد تم جمعها، بحجة أن عرض صور النساء دون حجاب لا يليق بحرمة المقبرة، قائلاً "ليس من شأن مقبرة المؤمنين أن تُنقش صور النساء المؤمنات بشكل غير محتشم على شواهد القبور".
ورغم الإجراءات الرسمية، ترى الناشطة في مجال قضايا المرأة، مريم آرسا (اسم مستعار)، أن جوهر المسألة لا يتعلق بصور النساء غير المحجبات، بل يكمن في محاولة منع انتشار استخدام صور النساء المتوفيات على شواهد القبور وإعلانات الوفاة، وهو ما تعتبره استهدافاً لهوية المرأة حتى بعد رحيلها.
لكن هذه الحساسية لم تقتصر على السنوات الماضية، بل استمرت حتى شهر آب/أغسطس الماضي، حيث نشرت وكالتا "تسنيم" و"تابناك" تقريراً مشتركاً تناولتا فيه ما وصفاه بـ "الظاهرة المؤلمة لانتقال سوء الحجاب إلى شواهد القبور"، معربين عن قلقهما من تزايد استخدام صور النساء على القبور، ومعتبرين ذلك مظهراً مرفوضاً.
هذا الخطاب الإعلامي، الذي بدأته هاتان الوكالتان وأعادت نشره وسائل إعلام أخرى، قد يُعدّ تمهيداً لموجة جديدة من الضغط على حضور المرأة في الفضاء العام، ومحاولة إضافية لتقليص تمثيلها الرمزي والاجتماعي حتى بعد موتها.
وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر 2020، أفادت مصادر محلية في مدينة رويان بمحافظة مازندران عن قيام جهات مجهولة بتشويه صور النساء المتوفيات على شواهد قبورهن، حيث أظهرت الصور المنتشرة أن وجوههن قد طُمست بالكامل باستخدام طلاء أبيض.
في البداية، أنكرت إدارة المقبرة علمها بالحادثة، رغم محاولات العائلات المتضررة متابعة القضية وتحديد المسؤولين عن هذا الفعل، إلا أن التحقيقات لاحقاً كشفت أن القرار صدر عن هيئة أمناء المقبرة، التي برّرت هذا الإجراء بالقول إن "وضع صور النساء على شواهد القبور لا يتوافق مع الأحكام الشرعية والأعراف الاجتماعية".
هوية المرأة في مواجهة الإنكار الرسمي والاجتماعي
تشير الشواهد المتوفرة إلى أن السبب وراء إزالة صور النساء المتوفيات من شواهد القبور لا يرتبط بمسألة الحجاب، بل يعود بشكل أساسي إلى جنس المتوفاة؛ فكونها امرأة كان كافياً لاتخاذ قرار الحذف، هذه الحساسية تجاه ظهور صورة المرأة على شاهد قبرها ليست وليدة اللحظة، بل لها جذور في السنوات الماضية.
على سبيل المثال، في شباط/فبراير 2018، أصدر مسؤولو مرقد الإمام زاده حسن في مدينة سبزوار بياناً طالبوا فيه العائلات التي تحتوي شواهد قبور أحبّائهم على صور نساء، بالإسراع في إزالة تلك الصور، مهددين بأنه في حال عدم الاستجابة، سيتم رفع الشاهد بالكامل.
هذا النوع من الإجراءات يعكس نمطاً متكرراً من محو الرمزية البصرية لهوية المرأة، حتى في لحظة وداعها الأبدي.
وتُظهر التقارير المنشورة مدى تغلغل السلطة الذكورية في حياة النساء، ليس فقط خلال حياتهن، بل حتى بعد وفاتهن. فالفكر المعادي للمرأة ينظر إليها ككائن لا يملك حق تقرير مصيره، ويُفترض أن يُتخذ القرار عنه حتى وهو في القبر. هذه الهيمنة لا تنتهي بالموت، بل تمتد لتطال صورة المرأة واسمها، وكأن وجودها الرمزي يجب أن يُمحى من الذاكرة العامة.
وأكدت مريم آرسا، أن النظام الأبوي لا يكتفي باستغلال المرأة خلال حياتها، بل يسعى إلى محو هويتها بالكامل بعد وفاتها، فبحسب رأيها، أولئك الذين يتبنون هذا الفكر لا يرون في المرأة كياناً مستقلاً، بل أداة لخدمة الرجل، أداة لا يُسمح لها حتى بعد الموت بإثبات وجودها أو هويتها، ومن هذا المنطلق لا يُمنح للنساء حتى حق أن يكون وداعهن الأخير شبيهاً بوداع الرجال.
ولتوضيح هذه الفكرة، أشارت إلى صورة انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الافتراضي، تُظهر شاهد قبر لامرأة لم يُذكر فيه اسمها، بل كُتب فقط "مرقد المرحومة المغفورة، زوجة ممثل الولي الفقيه، آية الله علم الهدى" هذا المثال الصارخ يعكس كيف يُمحى اسم المرأة ويُختزل وجودها في صفتها كزوجة، دون أي إشارة إلى هويتها الفردية.
وترى مريم آرسا أن هذا النمط من الإقصاء ليس جديداً، بل له جذور عميقة في الثقافة السائدة، حيث اعتاد كثير من الرجال، في الماضي وحتى اليوم، الإشارة إلى زوجاتهم بألقاب عامة مثل "أم الأولاد" أو "المنزل"، بدلاً من استخدام أسمائهن، هذه الطريقة في التسمية تعبّر عن نظرة إنكار للمرأة، تعرّفها فقط من خلال علاقتها بالرجل، لا كفرد مستقل.
استمرارية التهميش الرمزي للنساء
وعندما يُستبدل اسم المرأة بلقب عام أو يُمحى تماماً، فإن ذلك يُعدّ شكلاً من أشكال الإخفاء الرمزي، نابعاً من قناعة راسخة بأن المرأة لا تملك هوية مستقلة، بل هي تابعة للرجل في الحياة وحتى بعد الموت.
ولا يزال إنكار هوية المرأة مستمراً حتى يومنا هذا، وإنْ كان بأشكال أكثر تطوراً، فالرجل يعيد إنتاج هذه النظرة الإقصائية بوسائل حديثة، تضمن استمرار حرمان المرأة من مكانتها الإنسانية وحقها في الحياة والحضور الاجتماعي، هذا الإنكار لا يظهر فقط في الخطاب، بل يتجلى أيضاً في السلوكيات اليومية وفي البُنى الثقافية التي تعيد ترسيخ تبعية المرأة وتهميش استقلالها.
إن حذف صورة أو اسم المرأة من الإعلانات، شواهد القبور، والوثائق الرسمية، يُعدّ تجسيداً واضحاً لنهج إنكاري ممنهج، هذا الإقصاء لا يقتصر على طمس حضورها الرمزي، بل يسعى إلى محو دورها في التاريخ، الأسرة، والمجتمع، وكأن وجودها لا يستحق أن يُوثّق أو يُخلّد، في جوهر هذا السلوك تتجلى عقيدة ذكورية لا ترى في المرأة سوى كائن ثانوي، وتخشى حتى من مجرد وضع اسمها أو صورتها على حجر، خشية أن يُمنح لها حق الوجود المستقل.