ما بين خطط الانفتاح والمنظومة الذكورية... نساء السعودية إلى أين؟
يعيش المجتمع السعودي تحت مظلة منظومة مشددة قائمة على الشريعة الإسلامية والأنظمة الاجتماعية المرتبطة بالدين والقبيلة، حيث تحولت العادات والتقاليد البالية والتعاليم الإسلامية السلفية والنظام الأبوي إلى قوانين صارمة التطبيق.

سناء العلي
مركز الأخبار ـ شكلياً تغير الكثير في المملكة العربية السعودية، التي تعد من أكثر الدول تشدداً تجاه المرأة، حيث تسيطر المنظومة الذكورية بشكل كامل على حياة النساء، ويتم الترويج لحياة جديدة منفتحة، لكن هل يمكن أن يتغير تفكير مجتمع بين ليلة وضحاها؟
يعيش في السعودية أكثر من 33 مليون نسمة، وهناك نسبة كبيرة من الوافدين ويشكلون نحو 39 بالمئة من عدد السكان، فنتيجة النمو الاقتصادي والحضري السريع بعد اكتشاف النفط، استقر البدو الرُحل الذين شكلوا نصف عدد السكان، ويخضع هؤلاء لقوانين غير مكتوبة ترتكز على أفكار الحركة الوهابية وتيار الصحوة، وهو ذراع الإخوان المسلمين في السعودية، تعمل هاتان المنظومتان بشكل مكثف على تعزيز النظام الذكوري وهيمنة الرجل على المرأة.
قد يزعم البعض أن الأمور تغيرت، وأن النظام بدأ منذ عدة سنوات على قطع أذرع الوهابية واجتثاث أفكارها، مما قلل من سطوتها في المجتمع السعودي، ولكن ما الذي تغير فعلياً داخل المجتمع بعيداً عن الحفلات والانفتاح الشكلي في البلاد؟
تجذر الفكر المتشدد
يكاد يستحيل التفريق بين التعاليم الدينية والعادات والموروثات العشائرية، ويعود تاريخ التشدد إلى تأسيس الدولة السعودية الأولى، حين أعلن الأمير محمد بن سعود آل مقرن، مؤسس الدولة السعودية الأولى عام 1792، قبوله لأفكار محمد بن عبد الوهاب، واتفقا على إقامة دولة تحمل طابعاً دينياً قومياً.
الوهابية حركة سياسية أصدرت العديد من الفتاوى التي تكبل المرأة، وغيرت عادات وتقاليد كافة المناطق السعودية، وأسست بيئة خصبة لاحتقار المرأة، وأكدت على قوامة الرجل، مما أدى إلى تأسيس نظام الولاية حتى وإن كانت المرأة صاحبة البيت والمال وحتى لو كانت في التسعين من عمرها.
تقول المعارضة السعودية وأستاذة علم الإنثروبولوجيا الدينية في جامعة لندن مضاوي الرشيد، في كتابها "الدولة الأكثر ذكورية" أن الوهابية ساعدت في ظل انتشار العادات القبلية على محاصرة النساء، والتفرقة بين الجنسين، وتضيف أن "حدود الإقصاء لا ترتبط بالإحياء الوهابي فحسب، بل أدى التفاعل بين الدولة والقومية الدينية والأشكال الثقافية والاجتماعية للنظام الأبوي إلى إرساء أشكال قاسية من التهميش"، وما نقل تبعية المرأة والنظام الأبوي من القبيلة إلى الدولة.
كما أفتى بتحريم صوت المرأة، فأصبحن تحت سلطة علماء القرية بعد أن كن يؤلفن الأغاني ويهتفن بأصوات عالية لتشجعن الرجال قبل الغزوات، التي كانت شائعة حتى عام 1930، لقد تم التضييق عليهن بعد أن كنَّ مساهمات في الاقتصاد والرعي والنسيج والتبادل التجاري مع القرى.
نساء العبيد، الذي استمر حتى ستينات القرن الماضي، والعامة والبدويات، احتفظن بمظاهرهن في الأسواق والطرقات محجبات، لكن غير مرتديات النقاب، وكن يعملن في الرعي والطبخ في أماكن مكشوفة، لكن بعد العام 1932 وحتى وقت قريب، كان اقصاء النساء هو السمة الأساسية تحت مسمى "سد الذرائع".
نواة الحراك النسائي
تعد فترة الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين من أكثر الفترات إشراقاً بالنسبة لحقوق المرأة، حيث ظهرت الطالبات في الشوارع والنساء في الأسواق، يعود أول جيل نسائي مثقف في السعودية إلى عام 1960، حيث استفادت المتعلمات من التعليم في البلدان العربية، وحصلت على فرص عمل في مجالي التدريس والإدارة، ثم الصحافة والخدمات الطبية، لتشكل نواة مجتمع فكري نسوي.
على الرغم من حكم الملكين سعود بن عبد العزيز آل سعود الذي حكم البلاد ما بين عامي (1952ـ1962) وبعده فيصل بن عبد العزيز آل سعود حتى اغتياله عام 1975، إلا أن دورهما في تحسين حقوق المرأة كان محدوداً ومقيداً بفهم تقليدي يجعل المرأة كائناً ضعيفاً يحتاج إلى حماية مستمرة، ودائماً ما يشار إليهن بأنهن أمهاتنا، أخواتنا، بناتنا، زوجاتنا.
أسست عفت بن ثنيان بن سعود، زوجة الملك فيصل، أول مدرسة سعودية لتعليم الفتيات باسم "دار الحنان" عام 1955، ولكن لأن التعليم غير إلزامياً، لم تتعدى نسبة محو الأمية بين الإناث 2 بالمئة عام 1970، وتأسست أول كلية للتربية في الرياض عام 1970، وتبعها افتتاح عدة مؤسسات في مكة وجدة والدمام وغيرها.
لكن أحداثاً داخلية وإقليمية أدت إلى تراجع مجدداً، حيث نشطت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبرزت فتاوى تُكبل المرأة، بعد اغتيال الملك فيصل عام 1975، استعادت المؤسسة الدينية نفوذها وتشددت أكثر، وألقت حادثة استيلاء جهيمان العتيبي و200 مسلح على الحرم المكي، بظلها على مستوى الحرية وبالتالي تأثرت حياة المرأة.
كما برز تيار الصحوة عام 1979، الذي له جذور في الإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى السعودية بعد ملاحقتهم من قبل حكومات مصر وسوريا، وكان الملك عبد العزيز آل سعود داعماً لهم في مصر.
واحتكر فقهاء نجد فتاوى وتشريعات المجلس الأعلى للعلماء، الذي تأسس عام ،1971 وأصبح إصدار الفتاوى المتعلقة بحركات النساء وحقوقهن شغلهم الشاغل، غلبت ميولهم الذكورية على كثير من الفتاوى، التي تم إدراجها في المناهج الدراسية، وأجازت تعدد الزوجات، وعززت نظام الولاية، ومنعت المنح الدراسية، والسفر دون محرم، كما أن الثروة النفطية وفرت المال الكافي لتنفيذ مشاريع تحافظ على الفصل الحاد بين الجنسين.
نشاط نسوي مستمر
تنقسم الناشطات السعوديات إلى إسلاميات يتطلعن للدولة لمنحهن المزيد من الحقوق مع التعهد بالتزامهن بالتقاليد الإسلامية، والليبراليات اللواتي تطالبن الدولة بالتحرك السريع لوضع حد للآراء الدينية الإقصائية وتنفيذ الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المرأة.
والفرق بين الليبراليات والإسلاميات يكمن في تفسير جذور المشكلة والحلول المقترحة، إذ ترى الليبراليات أن الوهابية هي السبب في تدني وضع المرأة، بينما تلقي الإسلاميات باللوم على العصبية القبلية التي تعيق التحرر، مع اعتبارهن أن الإسلام منح المرأة حقوقاً، لكن الفتاوى هي تطبيق خاطئ للدين.
مع ذلك،عدد الناشطات قليل جداً، وحتى اللواتي تحملن أفكاراً نسوية لا تجرؤن على التعبير عما يجول في خاطرهن، كما تم إلهاء المجتمع عن قضاياه الحقيقية بالكثير من المال، ففي السبعينيات عاش المجتمع السعودي رفاهية بفضل الثروة النفطية، فتناسى قضايا الحقوق وبالأخص حقوق المرأة، وتم استدراج النساء كمستفيدات من الفوائد التي تتلقاها عوائلهن، ما أدى إلى التغاضي المقصود وغير المقصود من المجتمع والدولة عن تراجع التعليم وسلب الحقوق.
وعوضاً عن ذلك، منحت الحرية للنساء من الخدمات المنزلية باستقدام خادمات أجنبيات، وزرع خطاب الدولة والمجتمع، بدعم من الإعلام، فكرة أن النساء جواهر لا يجوز دفعهن للعمل، في حين اكتفت الأميرات بإنشاء الجمعيات الخيرية ودور الإيتام.
من الزاوية الأخرى تحملت النساء اللواتي لم تحظين بعائدات من النفط مسؤولية العائلة بعد تخلي الرجال عن التزاماتهم، وفي ظل عدم منحهن فرصة للعمل بقين على هامش المجتمع يعشن على الصدقات والرعاية الاجتماعية.
ومع ازدياد العمالة الأجنبية في السعودية، بما في ذلك زوجات المغتربين والعازبات اللواتي قدمن كطبيبات وممرضات ومعلمات، ازدادت الفتاوى التي لم تترك لا صغيرة ولا كبيرة أو حتى أصغر منها إلا وأصدرت فيها تحريماً.
لكن النساء أوجدن طرقاً مختلفة للمقاومة، ومنها الأدب فكتبن أعمالاً حملت إسقاطات على الواقع، وعكست آمال المرأة السعودية والكبت المفروض عليها، وسلطت الضوء على الخطاب الديني المنحاز للرجل، وناقشت سلبيات البنية المجتمعية والتغيير الطفيف في المجتمع السعودي نتيجة توافد العمالة الأجنبية، وكل ذلك تحت أسماء مستعارة.
سيداو لإرضاء المجتمع الدولي لا أكثر
لم يغير توقيع السعودية على اتفاقية سيداو عام 2000 من واقع الحال شيئاً، فقد تحفظت السعودية على جميع البنود التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وفي عام 2023 سمحت بمنح الجنسية لأطفال السعوديات المتزوجات من غير سعودي، لكن بشروط كثيرة.
وركزت النساء نشاطهن خلال أكثر من ربع قرن على حقهن في قيادة سيارتهن الخاصة، وكسر الحظر المفروض منذ عام 1957، وعلى هذا نظمن أربع حملات بدأت منذ عام 1990 وازدادت كثافتها منذ عام 2011 وكان آخرها عام 2014، ورغم ردود السلطات العنيفة، لكنهن في 24 حزيران/يونيو 2018، ظفرنَّ بهذا الحق.
وتحدين نظام الولاية وساهمت التحركات النسائية التي اتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي منبراً لها، في إصدار قرار في آب/أغسطس 2019 يسمح للنساء فوق 21 عاماً بالحصول على جواز سفر والسفر دون موافقة الولي، كما شملت التعديلات الأحوال المدنية تسجيل المواليد وسكن الزوجة، واستخراج الوثائق الرسمية والوصاية عن الأبناء القُصر.
وأعادت البلاد منح الفتيات فرص الدراسة في الخارج "المنح الدراسية"، ابتداءً من العام 2010، وكانت نسبة المنح المخصصة لهن 25 بالمئة من مجموع المنح.
الإصلاح وحقيقته
سجلت السعودية نسبة مرتفعة من حالات العنف الأسري، ويعد العنف النفسي من أكثر الأشكال المنتشرة في البلاد، بحسب دراسات مختلفة وهو ما أسس لفكرة هرب الفتاة من أسرتها واللجوء إلى الدولة، لكن غالباً ما ينقلب الموقف إجمالاً ضد الفتاة التي يتهمها والدها (وهو غالباً المعنف) بالعقوق وتوضع في دار الرعاية.
عدم ضمان الدولة الأمان للفتاة بعد هربها من أسرتها أدى لانتشار ظاهرة هرب الفتيات إلى دول الخارج وطلب اللجوء، حيث بلغ عدد الهاربات نحو 3 آلاف شابة في السنوات الأخيرة.
لكن وتيرة الإصلاحات بدأت تتسارع، وسحبت العائلة المالكة من المؤسسة الدينية جميع الصلاحيات وأحكمت قبضتها على جميع مفاصل الحياة، وأطلقت العديد من الخطط لخلق مجتمع سعودي جديد، فتضمنت "خطة 2005" الهادفة لخلق فرص جديدة للنساء، برامج لتدريب المطلقات والأرامل، وحثت الخطة القطاع الخاص على توظيف عدد أكبر من النساء، وضبط الفتاوى العشوائية والمتناقضة بمرسوم ملكي، وإجبار الشيوخ على بث خطاب مغاير لما اعتادوا عليه خلال عقود مضت.
وشملت خطة ولي العهد محمد بن سلمان التي أطلقها في 25 نيسان/أبريل 2016، تعزيز وجود المرأة في المجتمع وزيادة مشاركة النساء في سوق العمل من 22 بالمئة حتى 30 بالمئة، بحلول عام 2030، والعودة إلى "الإسلام الوسطي".
وفي آب/أغسطس 2019 سمح للمرأة بالسفر دون أذن من الولي، وتضمنت التعديلات الجديدة إعطاء النساء مساحة من الحقوق المدنية مثل تسجيل عقود الزواج، والطلاق، والمواليد الجدد، والحصول على سجلات أسرية، كذلك تم منح المرأة حق الوصاية على ابنائها القصر.
وفي عام 2015 منحت السعوديات حق التصويت في الانتخابات البلدية، وتم تعيين 30 امرأة في مجلس الشورى عام 2013، وتزامناً مع اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة لعام 2019 قررت السلطات إغلاق دور الرعاية، والتي تعد سجن للنساء توضع فيه الفتاة من قبل ولي الأمر.
وفي نيسان/أبريل 2019 أصبحت السعودية عضو في المجلس التنفيذي لجهاز الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، وهي عضو في منظمة تنمية المرأة بمنظمة التعاون الإسلامي.
ولكن رغم السماح للمرأة بقيادة السيارة، وخطة الانفتاح تحت أسم "رؤية 2030"، لا توجد معلومات عن تاريخ الإفراج عن العديد من المعتقلات، وكانت تقارير قد كشفت تعرضهن لانتهاكات جسيمة، وهن أيضاً تحدثن عن ذلك في جلسة المحاكمة.
بدأت تظهر صورة معاكسة لما كان موجود في المملكة، ولكن يبقى السؤال: ما مدى جدية هذه الإصلاحات، بينما لا تزال العديد من الناشطات في السجون تتعرضن لانتهاكات جسيمة بسبب مطالبهن السلمية والمحقة للنهوض بالمرأة السعودية؟