الفرمانات الـ 74 تعكس قصة مجتمع لم يرضخ
الإبادة الجماعية في شنكال في ذكراها الحادية عشر قصة ألم وفقد مستمر، وإرادة نسائية للحماية وإنهاء الاستقواء على المجتمع الإيزيدي باتخاذ مبدأ الحماية الذاتية كأساس.

سناء العلي
مركز الأخبار ـ مر 11 عاماً على ارتكاب إحدى أفظع المجازر في القرن العشرين بحق شعب مسالم، ولكن تحقيق العدالة للضحايا وأغلبهم نساء وأطفال لم تتحقق حتى اليوم، بل إن المجازر مستمرة في كل بقاع الشرق الأوسط لنفس السبب وهو (رفض الآخر) وهذا الرفض يصل حد إباحة قتله واغتصاب نساءه وحتى بيعهن في الأسواق كما تباع البضائع، والغريب أن الذرائع والأدوات والذهنية وراء كل هذه الجرائم هي نفسها.
من هو المجتمع الإيزيدي؟
الإيزيدية ديانة قديمة تعود إلى حضارة بلاد ما بين النهرين أي أنها إحدى أقدم الديانات التي عرفتها الإنسانية وتعاليمها فيها احترام وتقدير كبيرين للمرأة والطبيعة، أما الرواية الإيزيدية حول قصة الخلق ونزول آدم وحواء من الجنة فتأخذ مساراً مختلفاً عن بقية الأديان سواء وثنية أو توحيدية.
وهذه الرواية المختلفة دفعت الجهاديين لاعتبار الإيزديين كفاراً، وكأن جميع شعوب العالم يجب أن تكون مسلمة، وبحسب الفكر المتشدد الذي غسل أدمغة هؤلاء المتطرفين به، أبيح قتل واغتصاب ونهب وبيع هذا المجتمع دون أي رادع إنساني، مما شكل جريمة بحق التنوع والتعايش المشترك والحرية العقائدية والدينية في الشرق الأوسط مما يهدد تاريخ وواقع هذه المنطقة.
الفرمانات الـ 74... أوجه التشابه
يسمي المجتمع الإيزيدي حملات الإبادة الجماعية بالفرمان والمجزرة التي ارتكبها داعش حملت الرقم 74، أي أنه قبل هذا الفرمان تم ارتكاب 73 فرمان بحقهم على مر التاريخ، وأبرز هذه الفرمانات فرمان السلطان العثماني سليمان خان القانوني عام (1570)، وفيه صدرت فتوى رسمية بإباحة قتلهم وبيعهم في الأسواق تماماً كما فعل داعش، وفرمان صفوي فارسي بقيادة قارجي قاي خان عام (1630) وفيه قتل آلاف الإيزديين وتم سبي النساء واختطف الأطفال تماماً كما حدث عام 2014. ثم ارتكبت العديد من حملات الإبادة على يد الصفويين تارة وعلى يد العثمانيين تارة أخرى.
وفي القرن الثامن عشر توالت فرمانات الدولة العثمانية على المجتمع الإيزيدي وتبادلت السلطات في بغداد والموصل دور قيادة هذه الحملات مع بعض، واستمرت فرمانات الصفويين حتى بداية القرن التاسع عشر. كما استخدم عدو المجتمع الإيزيدي العرب والكرد كأدوات للقتل كما في الفرمان 19 والذي كان بأمر من والي بغداد سليمان باشا أبي ليلى (1166 ـ 1752)، وضحايا هذا الفرمان معظمهم كبار في السن ونساء وأطفال، وكذلك في فرمان رقم 31 الذي أصدره عبد العزيز الشاري عام 1798 حينها قاموا بسبي النساء والأطفال وحملوا رؤوس المقاتلين الإيزديين إلى بغداد، هذا الحقد على المجتمع الإيزيدي من قبل الدولة العثمانية وأعوانها وصل حد قتلهم بأمر من محمد باشا الجليلي عام 1794 وحمل رؤوسهم إلى الموصل ثم إلى بغداد، وعام 1791 سويت شنكال بالأرض وقتل أهلها.
هذه الفرمانات غيض من فيض لكن ذكرها مهم لمعرفة الأرضية التي دفعت داعش لارتكاب مجزرتهم الأعنف في التاريخ بحق هذا الشعب.
الفرمانات تعكس قصة مجتمع لم يرضخ
قد يعتقد القارئ غير المتعمق بالتاريخ الإيزيدي أن هذا المجتمع مغلوب على أمره، ولم يقم بأي شيء لحماية نفسه، لكن الحقيقية أن جميع الفرمانات ارتكبت لإرضاخ مجتمع لم يقبل بالحكمين العثماني والصفوي، واحتلالهما لأرضه، وبذلك ارتكبت هاتين الدولتين المجازر الانتقامية، منها ما كان أيضاً لرفض الإيزيديين دفع الضرائب للدولة العثمانية، وقد قاتل هذا الشعب بكل بسالة حتى أن المقاتلين بمشاركة زريفا أوسي، وستيا نسران، وخاتونا فخرا انتصروا في كثير من المعارك، كما في الفرمان الـ 40 حينما تم إعداد قوات ضمت آلاف الجنود من قبل الدولة العثمانية، وقد وصل عددهم لأربعين ألفاً من أجل مهاجمة شنكال، ولضخامة هذا العدد وصفه المؤرخون بـ "عساكر تسد الفضاء" لكن وعلى الرغم من كل ذلك التحشيد لم يفلحوا في هزيمة أهالي شنكال.
اليوم المشؤوم
تعد الإبادة أو المجزرة أو "الفرمان 74" كما يسميه أهالي شنكال أحد أكثر الأحداث دموية في القرن الحادي والعشرين، ففي الثالث من آب/أغسطس من عام 2014 بحدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل استفاق أهالي قضاء شنكال على هجوم وحشي من داعش، الذي كان يتمدد بشكل متسارع في كل من العراق وسوريا، وتُرك المجتمع الإيزيدي وحيداً بعد أن انسحبت قوات البيشمركة دون أن تخبر الأهالي الغافلين بقرارها، وهذا ما فعلته قوات الجيش العراقي أيضاً، في نفس الوقت لم يقف الأهالي مكتوفي الأيدي أمام الموت، وساهمت مقاومة "كرزرك" التي قادها أهالي هذه القرية الذين امتلكوا سلاحاً خفيفاً وبعض الذخيرة بتوفير الوقت للعائلات لكي تتوجه نحو جبل شنكال.
انتهاكات بالجملة... إحراق وسبي وتفجير
منذ اليوم الأول وحتى قبل الهجوم هرب 12 ألف مقاتل من البيشمركة التابعين للحزب الديمقراطي الكردستاني، ومهدوا الطريق للإبادة الجماعية، وجراء هذا التخاذل ارتكب مرتزقة داعش مجزرة بحق المجتمع الإيزيدي، فخلال أيام سوداء شهدتها شنكال اختطفت 3,504 امرأة و2,869 رجلاً، وتعرضت آلاف الفتيات لأبشع الانتهاكات بما في ذلك الاستعباد الجنسي والتعذيب وما تزال العديد منهن مختطفات، ووفق إحصائيات رسمية قتل ما يصل إلى 5 آلاف شخص.
والإجرام لم يتوقف على ذلك ففي الموصل خلال شهر حزيران/يونيو 2016، رفضت 19 امرأة إيزيدية كن أسيرات لدى داعش فرض الإسلام عليهن ورفضن اعتناقه، ورداً على ذلك انتقم منهن داعش وأحرقوهن وهن على قيد الحياة بعد احتجازهن في أقفاص.
ربما ضمير الإنسانية كان ما يزال في سبات عندما مات مئات الأطفال الإيزيديين من العطش والجوع خلال الإبادة، وكذلك عندما قتل مئات الأطفال الآخرين، وحتى عندما تم القبض على الأطفال من قبل داعش وفرض الإسلام المتطرف كعقيدة بديلة، هؤلاء الأطفال رغماً عنهم تدربوا ليصبحوا وقوداً للحرب فشقيقان من قرية تل قصب في شنكال، تحت الأسماء المستعارة التي أطلقها عليهما فجّرا نفسيهما في معركة بالموصل بتاريخ 14شباط/فبراير 2017.
وعُرضت النساء في المدن التي تمددت فيها دولة داعش المزعومة (الرقة ـ الموصل) كأي شيء له سعر ربما 10 دولار أو 40، أو أكثر من ذلك، وهذا السعر يتناسب مع مميزات في جسد المرأة ترضي الرجال الذين لا يفكرون بعقولهم، فيأتي عنصر من داعش ويتفحص أجسادهن في إهانة ما بعدها إهانة، ويتم الشراء للاستعباد الجنسي والخدمة في المنزل، وهذه الممارسات تعيد إلى الذاكرة ما حدث قبل أكثر من 1400 عام خلال الغزوات الإسلامية للقبائل لكن العديد من الشيوخ في السنوات الأخيرة حرموا هذه الممارسة وبقيت عليها الجماعات الأصولية.
قبل ذلك ودون ماء أو طعام تحت أشعة الشمس الحارقة في جبل شنكال لجأ مئات آلاف الإيزديين لمدة 18 يوماً، وكاد هؤلاء أن يلقوا حتفهم لو لم يسارع مقاتلو ومقاتلات حزب العمال الكردستاني لتقديم الماء والطعام لهم وحملوا كبار السن العالقين في الوديان على أكتافهم، وفتحت وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة بين شنكال وروج آفا (لم تكن قد تحررت بقية المدن ليعلن عن إقليم شمال وشرق سوريا) ممر إنساني.
تكاتف عابر للحدود
بعد ثلاثة أيام من القتل والسبي والاغتصاب لم يتحرك العالم لنجدة المجتمع الإيزيدي، ولكن الضمير الإنساني لم يمت وهو ما أثبتته حركة التحرر الكردستانية التي أنزلت قواتها من جبال قنديل بتاريخ 6 آب/أغسطس للدفاع عن المجتمع الإيزيدي. كذلك تشكل وعي لدى المجتمع الإيزيدي بضرورة تنظيم نفسه لرد الهجوم واستعادة أرضه وكرامته، وبمساعدة حركة التحرر الكردستانية شكل أبناء وبنات شنكال "وحدات مقاومة شنكال" بعد أيام من المجزرة، ودعمتهم في معاركهم القوات العسكرية في روج آفا المتمثلة بوحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.
وحاربت هذه القوات مجتمعة من خانصور وسنوني وصولاً إلى شلو وسيبا شيخ خدر وتل بنات ورمبوسي ودهولا، بعد أن أطلقت في آذار/مارس عام 2015 حملة التحرير، التي استطاعت بتضافر الجهود القضاء على الوجود الداعشي، وأعلنت النصر بتاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 أي بعد نحو 9 أشهر من القتال والتضحية.
المضحك المبكي في الانتصار أن قوات البيشمركة حاولت الاستيلاء عليه، وادعت أنها هي من حررت شنكال، وخرج رئيس إقليم كردستان آنذاك مسعود برزاني ليعلن نصره المزعوم، وقراره بضم شنكال إلى إقليم كردستان، لكن ذلك الذي لم يقبله من خذلوا من قبل، وتُركوا ليواجهوا القتل والجوع والموت والسبي.
نساء شنكال تنهضن من تحت الرماد
قبل ارتكاب المجزرة بحق المجتمع الإيزيدي، افتقد هذا المجتمع للحماية، سواء من قبل الحكومة العراقية الاتحادية، أو حكومة إقليم كردستان، وكذلك لم يكن أهالي شنكال يعرفون معنى الحماية الذاتية، فالكثير من الأخطاء وقع بها الأهالي لثقتهم بقوى خارجية ممكن أن تدافع عنهم، هذه الأخطاء بشكل أو بآخر تسببت بارتكاب المجزرة.
وتأسست الإدارة الذاتية الديمقراطية لشنكال في كانون الثاني/يناير 2015، واتخذت من الحماية الذاتية وحرية المرأة أساساً لها، فالحماية الذاتية هي الأساس في مجتمعات لطالما كانت مستهدفة، لا تتم حمايتها من قبل جيوش الدولة، بل في كثير من الأحيان تكون هذه الجيوش متواطئة كما حدث في شنكال ومؤخراً في مدينة السويداء السورية، ولذلك أيضاً سارعت نساء وفتيات شنكال في كانون الثاني/يناير 2015، لتأسيس وحدات حماية المرأة في شنكال بعدما تمرسن في قتال المرتزقة، وتحرير المئات من المختطفات، وتعمل المقاتلات على حماية المنطقة والانتقام لمن مورست بحقهن الانتهاكات، وهذا الدور يشمل أيضاً التدريب والتثقيف.
ونشطت الحركة النسائية بتأسيس حركة حرية المرأة الإيزيدية عام 2016، والتي تعمل وفق فلسفة القائد عبد الله أوجلان، ونموذج الكونفيدرالية الديمقراطية، وحرية المرأة، وتحرير ما تبقى من مختطفات أولوية لديها، وقد بذلت هذه الحركة مع شبكة الناجيات الإيزيديات جهوداً للاعتراف بالإبادة.
ولم تفلح هجمات الاحتلال التركي أو الحزب الديمقراطي الكردستاني في القضاء على الإدارة الذاتية في شنكال، رغم ارتكاب الطيران التركي هجمات مباشرة وواضحة منذ التحرير، وقد تجرأ على قصف مقر القيادة العامة لوحدات حماية الشعب في شنكال بتاريخ 25 نيسان/أبريل 2017 وأدى لمقتل 20 مقاتل ومقاتلة، واستمر الاستهداف لشخصيات بارزة من المجتمع الإيزيدي حتى يومنا الراهن.
كل يوم تكتشف جريمة
عمليات البحث المستمرة ترفع الضماد عن الجرح الذي لم يشفى بعد، فبعد التحرير عثر في شنكال وريفها على 93 مقبرة جماعية والعدد من المرجح أن يزيد مع استمرار عمليات البحث، حتى أنه في مقبرة واحدة قرب تل عفر، عُثر على ما بين 1,500 إلى 2,000 جثة، ويزيد عدد الأيتام الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما عن 2,745.
صحيح أنه حتى الآن تم إنقاذ 1,184 امرأة من أصل نحو 2,000 امرأة، ولكن لا يزال 2,900 شخص من الإيزيديين محتجزين لدى داعش، ومصيرهم مجهول، معظمهم من النساء والأطفال، وهؤلاء تم تغيير معتقداتهم ويتم استخدامهم لمصلحة داعش.
ومن خلال عمليات وحدات حماية المرأة وقوات سوريا الديمقراطية ضد داعش، وحملاتها في مخيم الهول تمكنت من تحرير العديد من المختطفات وأعادتهن عن طريق "البيت الإيزيدي"، إلى عوائلهن، وهذه القوات تعمل رغم خطورة مخيم الهول وخاصةً قسم المهاجرات والذي تتواجد فيه المختطفات من أجل إعادتهن جميعاً.
بانتظار الاعتراف
الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم أو جنسيتهم أو دينهم أو أصلهم، هذا هو ما حدث في شنكال في الثالث من آب/أغسطس 2014 تماماً، هذه الجريمة صنفت تحت هذا الاسم منذ أربعينيات القرن الماضي، وقد أعلن فريق تحقيق أممي خاص في أيار/مايو 2021 أنه تم جمع أدلة واضحة ومقنعة على أن داعش ارتكب إبادة بحق المجتمع الإيزيدي.
بالنسبة لاتفاقية "منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" التي صادقت عليها حتى الآن 133 دولة، حول العالم، لم يعترف إلا عدد قليل من البلدان بالإبادة في شنكال، والبلدان التي اعترفت بها هي (بريطانيا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ أستراليا ـ هولندا).
لكن الحكومة العراقية لم تعترف بالإبادة لأن البلاد لا تمتلك قانوناً يغطي "الجرائم الدولية" مثل الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي كالجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية والتعذيب أو الإخفاء القسري. واكتفت بتشريع قانون الناجيات الإيزيديات رقم (8) لعام 2021 الذي يهدف إلى إعادة دمج اللواتي اختطفن ومورست بحقهن كل أشكال الانتهاك من خلال دعمهن مادياً ومعنوياً، ويشمل هذا الدعم اعتماد رواتب شهرية، ويتم بموجب القانون دعم الاطفال أيضاً، وتوفير فرص عمل للناجيات وكذلك فرص استشارية ومعالجة الصحة النفسية.
الاختلاف ليس جريمة بل ميزة، وفي المجتمعات الشرقية التنوع الإثني والطائفي والثقافي كبير جداً، ولكن بدل أن يكون هذا التنوع نقطة لصالح البلاد أصبح لعنة بتكفير "الأغلبية" لـ "الأقلية"، ففتح باب الشرور، ولأن هذه المنطقة هدف للرأسمال والمصالح الدولية فقد تم استغلال كل اختلاف من قبل أصحاب المصالح، والغرب الذي كف يده علناً، ومدها سراً لكل من يريد شراً ببلاده، لتبقى هذه البلدان ضعيفة ومستهلكة، والحل هو نبذ التطرف والقبول بالآخر، وهذا القبول ليس منة بل حق الآخر في الحياة والأمان.
اليوم مع استلام جهاديي هيئة تحرير الشام للسلطة في سوريا عاد الأمل لدى داعش خاصة أن الأساس الفكري الذي انطلقت منه هيئة تحرير الشام وداعش واحد وهو القاعدة، وتأكد ذلك بإعادة نشاطه في مناطق إقليم شمال وشرق سوريا مما ينذر بخطر عودته مع التخاذل الدولي في إنهاء ملف مخيم الهول، وكذلك في عدم ثقة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بتسليم ملف داعش ومخيم الهول للحكومة المؤقتة التي تقودها هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع "الجولاني"، الذي ارتكب جرائم بحق الشعب العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين قبل أكثر من عقدين من الزمن.