التعليم في إقليم كردستان بين الانهيار الطبقي وصمود المعلمين
'أثرت الأزمة المالية التي يعيشها إقليم كردستان بشدة على التعليم، حيث تأخرت الرواتب وتفاقمت معاناة الأسر في تأمين احتياجات الدراسة، وهو ما يعمق الفجوة الطبقية ويهدد مستقبل آلاف الطلاب بالإضرابات المتكررة.

شيا كويي
كويه ـ منذ أكثر من اثني عشر عاماً يرزح إقليم كردستان تحت وطأة أزمة مالية مزمنة، تتجلى في تأخر صرف الرواتب وفقدان المعلمين والموظفين لعدة أشهر من مستحقاتهم سنوياً، وفي العام الحالي، ومع حلول نهاية شهر أيلول/سبتمبر الجاري، لم تصرف بعد رواتب شهري تموز وآب، مما فاقم الأعباء الاقتصادية على الأسر، وأثار قلقاً متزايداً لدى أولياء الأمور، لا سيما من لديهم أطفال في المراحل الابتدائية، خوفاً من انقطاعهم عن التعليم نتيجة الإضرابات المتكررة.
مرة أخرى، يلوح الطلاب بمقاطعة الدراسة في حين يؤكد المعلمون أن استمرارهم في أداء واجبهم كان بدافع من ضميرهم المهني إلا أن هذا الالتزام له حدود ولا يمكن أن يستمر في ظل غياب الدعم المالي والاستقرار الوظيفي.
الأمهات في قلق دائم بشأن تعليم أطفالهن
وعبرت ريزان بكر وهي معلمة اللغة الكردية في إحدى مدارس مدينة كويه منذ عام 1986، عن قلقها العميق تجاه مستقبل الطلاب في ظل أزمة الرواتب المستمرة، مشيرةً إلى أن الأمهات تعشن حالة من التوتر والخوف على تعليم أطفالهن بسبب الإضرابات المتكررة وعدم انتظام صرف المستحقات المالية.
وأوضحت أن أزمة الرواتب بدأت منذ عام 2014 وما زالت مستمرة حتى عام 2025، وقد لا تنتهي قريباً، مؤكدةً أن التعليم والصحة يشكلان ركيزتين أساسيتين لأي نهضة وطنية، وأن المساس بهما يضع البلاد بأكملها في مأزق خطير "نواجه يومياً اتصالات من أمهات يقلن إن أطفالهن قد يحرمون من التعليم هذا العام أيضاً، كما حدث في الأعوام السابقة وأنا لا أملك جواباً سوى أن الرواتب غير متوفرة، وقد شهدنا كيف تسببت الإضرابات في توقف الدراسة مراراً".
وأشارت إلى أن العديد من الأسر لم تعد قادرة على توفير أبسط احتياجات أطفالها من ملابس وحقائب مدرسية، مما يعمق الأزمة ويزيد من آثارها السلبية على المجتمع بأسره.
"عدم انتظام الرواتب خلق طبقية اجتماعية"
ولفتت إلى إن الأزمة المالية في إقليم كردستان لم تعد ظرفاً مؤقتاً، بل تحولت إلى واقع دائم منذ عام 2014، حيث تصرف الرواتب بشكل غير منتظم إما بتأخير طويل أو تحت مسميات مثل الادخار أو الاقتطاع، ما ترك أثراً بالغاً على حياة المعلمين "المعلم كأي فرد في المجتمع لديه التزامات معيشية ولا يمكنه الاستمرار دون دخل ثابت".
وأضافت "هذا الوضع لم يخلق فقط ضغوطاً اقتصادية بل أدى إلى كارثة اجتماعية أعمق تمثلت في نشوء طبقية تعليمية واضحة؛ فالعائلات الميسورة استطاعت إرسال أطفالها إلى المدارس الخاصة، بينما حرم الفقراء ومن بينهم المعلمون أنفسهم من هذا الخيار، ومع استمرار تأخر الرواتب تتسع هذه الفجوة ويترسخ التمييز الطبقي في قلب المنظومة التعليمية في إقليم كردستان".
ودعت ريزان بكر الجهات المعنية إلى الالتفات لمعاناة المواطنين، والعمل على إيجاد حل جذري للأزمة المالية بما يضمن الحقوق الأساسية للجميع، مؤكدةً أن "المعلم كأي عامل يستحق راتبه الشهري دون تأخير أو مماطلة".
وتابعت "درسنا ونحن نحمل حقائب فارغة" في إشارة إلى حجم التضحية التي يقدمها المعلمون، محذرةً من أن هذا العطاء لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية خاصة في ظل واقع معقد يثقل كاهلهم بالأمراض والإيجارات والاحتياجات اليومية.
"نحن محاطون بالأعداء ولا نريد أن ينهار إقليم كردستان"
وعبرت ريزان بكر عن استيائها من تجاهل حقوق المعلمين "سمعت مؤخراً أحد المسؤولين يصف التعليم بأنه مهنة نبيلة ويزعم أنه لا يحق للمعلم المطالبة براتبه، فأجبته: إن مسؤوليتكم أثقل من مسؤوليتنا، فأنتم تملكون الموارد، فامنحوها لشعبكم".
وأضافت "أنا أُدرس منذ عامين دون أن أتقاضى راتباً وما قدمته كان بدافع من ضميري ولم أتغيب عن مدرستي يوماً لكن الضمير وحده لا يكفي نحن محاطون بالأعداء من كل جانب ولا نريد لوضع إقليم كردستان أن ينهار، ومع ذلك، فإن هذا الاستقرار الذي نتمسك به له حدود"، مختتمة حديثها بالقول "نحن نؤدي واجبنا بإخلاص، وحان الوقت أن يؤدي المسؤولون واجباتهم".
"تقدم الأوطان يبدأ من المدارس"
من جانبها تحدثت بيخال محمد صاحبة مكتبة عن الواقع الصعب الذي يعيشه الطلاب في ظل رغبتهم في مواصلة التعليم، مقابل القلق المتزايد الناتج عن الإضرابات وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، مشيرةً إلى أن عدم انتظام صرف الرواتب أدى إلى انقسام واضح؛ فالعائلات الميسورة استطاعت تسجيل أبنائها في المدارس الأهلية، بينما عجزت الأسر الفقيرة عن ذلك مما يهدد مستقبل آلاف الأطفال.
وطالبت حكومة الإقليم بإعطاء الأولوية لرواتب المعلمين والموظفين لضمان استمرار العام الدراسي وعدم ضياعه على الطلاب، لافتةً إلى أن الأزمة المالية أثرت بعمق على حياة الناس فهناك من لم يعد قادراً حتى على إرسال أطفاله إلى المدارس الحكومية بسبب عدم القدرة على توفير المستلزمات الأساسية في وقت تعاني فيه هذه المدارس من نقص حاد في الموارد.
وأكدت في ختام حديثها على ضرورة تحسين جودة التعليم في المدارس الحكومية رغم الظروف الصعبة، وتقليص الفجوة بينها وبين التعليم الأهلي، حتى لا يتحول الطفل الفقير إلى ضحية لواقع غير عادل، فالتعليم، كما شددت هو حجر الأساس لأي تقدم وطني.