ما هي العوامل التي أدت لارتكاب إبادة جماعية بحق الأرمن؟
تداخلت العوامل الدينية والقومية والتطرف السياسي في زمن الحرب، لتشكّل خلفية دامية لأحداث الإبادة الجماعية بحق الأرمن قبل قرن وعقد من الزمن.

زينب خليف
دير الزور ـ شكّلت الإبادة الأرمنية عام 1915، التي نفذتها الدولة العثمانية، فاجعةً إنسانية مروعة، لم تقتصر هذه الإبادة على القتل والتهجير، بل تجاوزتها إلى أشكال أخرى من الوحشية، وكانت النساء، كعادتهن في الحروب، من أكثر المتضررين.
بالإضافة إلى المعاناة المشتركة مع الرجال من فقدان الأهل والأوطان، تحملت النساء ويلاتٍ مضاعفة، واستُخدمن كأدوات حرب، وتعرضن للاغتصاب والاستعباد الجنسي والزواج القسري؛ ما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وفقدان الهوية.
وأجبرت الكثيرات على اعتناق الإسلام وتربية أطفالهن بعيداً عن ثقافتهن وتراثهن، كما تحملن مسؤولية رعاية الأطفال والمسنين خلال مسيرات الموت الشاقة، وواجهن بصبر الجوع والعطش والأمراض.
ورغم هذه المآسي، أظهرت الأرمنيات قوةً استثنائية، حافظن على هويتهن، وربين أجيالاً جديدة، وساهمن في بناء مجتمعات جديدة في الشتات، مُخلدات بذلك ذكرى الضحايا ومُطالبات بالاعتراف بالإبادة وتحقيق العدالة.
ولمعرفة الأحداث التي سبقت ارتكاب الإبادة بحق الأرمن، قالت الرئيسة المشتركة لاتحاد الأرمن في مقاطعة دير الزور نوشيك سركيس إن المرأة الأرمنية كان لها النصيب الأكبر من المآسي والمعاناة في المجازر، التي حصلت بحق شعبها، ولكن مع تأسيس النظام الديمقراطي في إقليم شمال وشرق سوريا بعد ثورة روج آفا عام 2012 نهضت من جديد لتحمي ذاتها وهويتها.
وبينت أنه رغم مرور 110 سنوات على الإبادة، إلا أنه لا بد من التطرق إلى الأسباب المعقدة والمتعددة التي أدت إلى وقوع هذه المأساة، موضحةً أنه تداخلت العوامل الدينية والقومية والتطرف السياسي في زمن الحرب، لتشكّل خلفية دامية لأحداث الإبادة.
وأضافت أن السلطات العثمانية، التي خضعت في تلك المرحلة لسيطرة جمعية الاتحاد والترقي خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني، سعت لفرض هيمنة تركية - إسلامية على مناطق الأناضول الوسطى والشرقية، وهو ما تجلى في محاولاتها القضاء على الوجود الأرمني هناك.
وترى نوشيك سركيس أن استهداف الأرمن بهذا الشكل الوحشي جاء انتقاماً "برز الأرمن في تلك الفترة بتفوقهم الثقافي والتنظيمي، حيث قاموا بترجمة الأدب إلى لغتهم، وأنشأوا مؤسسات أهلية تنظم شؤونهم الداخلية، بما في ذلك تسجيل الولادات والوفيات، وهو ما أثار مخاوف الدولة العثمانية، التي رأت في هذا التنظيم مؤشراً على نزعة انفصالية تهدد وحدة الإمبراطورية".
وأوضحت أنه "إذا أمعنا النظر في الجغرافيا التي توزع فيها الأرمن داخل الدولة العثمانية، لوجدنا أنهم كانوا منتشرون في مختلف أنحاء الأناضول، دون أن يكون لهم إقليم موحد خاص بهم، ولذلك، فإن فكرة الانفصال كانت آنذاك غير منطقية من الناحية العملية، بالنظر إلى هذا التشتت الجغرافي وتداخلهم مع مكونات سكانية أخرى مثل الكرد والأتراك".
وأشارت إلى أنه مع تراكم هذه العوامل، تصاعدت مشاعر العداء والريبة لدى الدولة العثمانية تجاه الأرمن، مؤكدةً أن هذا "ما دفعها إلى غض الطرف عن المظالم التي تعرضوا لها من قبل الإقطاعيين والباشوات، الذين استغلوا سلطاتهم في فرض الضرائب القهرية، مثل ضريبة الكفر، وارتكاب صنوف من الانتهاكات بحق الأرمن".
وتعتقد نوشيك سركيس أن الأرمن آنذاك لم تكن تطلعاتهم تتجاوز رفع الظلم عنهم وضمان الحد الأدنى من العدالة والكرامة، معتبرةً أن "الدولة العثمانية لم تسعَ إلى كسب ولائهم، بل عملت على تأليب باقي المكونات ضدهم، متذرعة بديانتهم المسيحية، ووصمتهم بالكفر، ما مهّد لارتكاب مجازر عدة بحقهم قبل وقوع الإبادة الكبرى عام 1915".
وذكّرت بعدة مجازر قبل وقوع المجزرة الكبرى "في شهر آب عام 1894 وقعت مجزرة ساسون، وتلتها مجزرة أخرى في إسطنبول في أيلول عام 1895 راح ضحيتها نحو 15,500 أرمني، كما شهدت مدينة آمد في العام نفسه مجزرة أخرى راح ضحيتها أكثر من 3,000 شخص، إلى جانب مجازر أخرى في مناطق متفرقة مثل مرعش".
واعتبرت نوشيك سركيس أن "كل تلك المجازر كانت تمهيداً لما سيُعرف لاحقاً بالإبادة الأرمنية الكبرى، التي مرت بمرحلتين رئيسيتين، بدأت المرحلة الأولى في عام 1910، خلال اجتماع جمعية الاتحاد والترقي في سالونيك، حيث تم اتخاذ قرار بانتهاج سياسة قومية متطرفة تقوم على تتريك السكان، وإزالة اللغات غير التركية، ولو بالقوة إن اقتضى الأمر، أما المرحلة الثانية، فتمثلت في الاجتماع السري الذي عقد في إسطنبول عام 1914، والذي تم فيه التخطيط التفصيلي لتنفيذ سياسة الإبادة بحق الأرمن".
وفي 24 نيسان/أبريل عام 1915، بدأت الإبادة الكبرى باعتقال المثقفين ورجال الدين الأرمن في إسطنبول، وإعدامهم في الساحات العامة، وترافقت هذه الحملة مع إطلاق فتاوى تحرض على قتل الأرمن ونهب ممتلكاتهم، ما أدى إلى مشاركة فئات من الشعب في تنفيذ هذه الإبادة الجماعية، بحسب ما أكدته نوشيك سركيس.
تعتبر الإبادات الجماعية بحق الأقليات من أبشع الجرائم التي قد تحدث في تاريخ البشرية، ولها العديد من الأسباب المعقدة والمتشابكة، من بينها التمييز العرقي أو الديني، والسلطة السياسية حيث تسعى الأنظمة الحاكمة إلى تعزيز سلطتها من خلال قمع الأقليات وإبادة معارضيهم لضمان استمرارية الحكم، فضلاً عن انتهاج بعض الجماعات أو الأنظمة أيديولوجيات متطرفة تقود إلى اعتبار مجموعات معينة تهديداً يجب القضاء عليها، بالإضافة إلى انهيار القانون والنظام حيث تؤدي الفوضى إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية دون محاسبة.