امرأة مغربية تدير دار للعجزة بقلب الأم وحنكة المسؤولة

في الوقت الذي تعتبر فيه الشيخوخة مرحلة طبيعية من العمر، ما تزال مطروحة أسئلة عميقة حول الكرامة والحق في الرعاية، خاصة في المنطقة التي تتأرجح بين تقاليد الأسرة الممتدة وضعف السياسات العمومية.

حنان حارت

المغرب ـ في دار المسنين بسيدي علال البحراوي، مدينة شمال غرب المغرب على بعد نحو 28 كيلومتراً شمال شرق الرباط، تقود السعدية صنيبة وفريقها رعاية كبار السن، بين العناية اليومية والحياة الاجتماعية.

تتجلى تحديات الشيخوخة في حياة هؤلاء الأفراد، في قصص مليئة بالحنين، العزلة والأمل، وهو ما يعكس نقاشاً أوسع حول حقوق كبار السن وأهمية المبادرات الإنسانية في مواجهة سياسات غير مكتملة.

 

قلوب دافئة خلف جدران دار المسنين

بالنسبة لكثير من المسنين، العيش في دار للرعاية ينظر إليه كعلامة على الهجر أو العقوق، بعض الشهادات تكشف عن ألم صامت. وبين الوجوه داخل الدار، تبرز ميلودة الزكري، امرأة تجاوزت السبعين من عمرها، يعرفها الجميع باسمها الحنون "أمي ميلودة"، تحمل في عينيها صفاء السنين الطويلة التي عاشتها، وفي صوتها نبرة رضا ممزوجة بالحنين.

تروي بهدوء وهي ترتب وشاحها الأبيض "تزوجت وأنا في السادسة عشرة من عمري، لكنني لم أنجب، وبعد وفاة زوجي، وجدت نفسي وحيدة بلا معيل، فاضطررت للقدوم إلى دار العجزة".

ورغم ما في كلماتها من وجع، إلا أن ملامحها لا تدل على الحزن، بل تعكس نوعاً من السكينة والتصالح مع الحياة، تقول بابتسامة "كثيرون يظنون أن دار المسنين مكان للعزلة، لكنني هنا وجدت حياة عادية. نضحك ونتحدث ونتقاسم الأوقات كعائلة صغيرة".

ومن بين نزيلات الدار أيضاً هناك عائشة شليحات، امرأة هادئة الملامح من مواليد مدينة خنيفرة، تجاوزت الستين من عمرها، وتحمل في ذاكرتها حكاية عمر طويل من الكفاح والصبر.

تروي بصوت خافت "كنت الابنة الوحيدة لأبي وأمي، رحلا عن الدنيا وأنا في الخامسة والعشرين من عمري. لم يكن لي إخوة أو أقارب قريبون، فانتقلت إلى مدينة الخميسات لأعيش مع أقارب بعيدين. هناك وجدت نفسي أعمل في بيتهم، أرعى أطفالهم وأهتم بكل تفاصيل المنزل، بكل حبٍ وصبر. كنت أراهم عائلتي، وقلبي كان يبتسم كلما ضحك الأطفال أو حققوا نجاحاً صغيراً".

تضيف بأن السنوات مرت سريعاً، ولم تشعر بعزلة حتى بدأ جسدها يضعف ولم تعد قادرة على العمل كما في السابق، فاتخذت قراراً صعباً بشجاعة نادرة "قلت لهم لا أريد أن أكون عبئاً على أحد.. أريد أن أذهب إلى دار العجزة، هناك سأرتاح، ولن أكون سبب تعب لأحد".

اليوم، تجلس في ركنها الهادئ، وتبتسم عندما يمر أحد، كأنها أم للجميع، تقول "الراحة ليست في المكان، بل في القلوب التي حولك، هنا وجدت قلوباً رحيمة ودفئاً كنت أفتقده منذ زمن".

 

يوميات امرأة في معركة الرعاية

بين أروقة الدار، تنعكس صورة امرأة لا تكتفي بالإدارة، بل تتنقل بين الغرف للاطمئنان على كبار السن، تبتسم لهم وتحاول أن تشعرهم أن العزلة ليست قدراً محتوماً.

عن بداية انخراطها في العمل الجمعوي والخيري ورعاية المسنين، تقول السعدية صنيبة "ورثت حب العمل الخيري من والدتي، وقد أثار انتباهي مشهد مسنين متخلى عنهم ينامون في العراء ببلدتي الصغيرة، فكان ذلك دافعاً لي للنضال من أجل تأسيس هذا المشروع، تم تلقيبي بـ ''أم المسنين'' رغم أنني أصغرهم سناً لأنهم وجدوا في هذه الدار الحنان الذي افتقدوه والتكافل والأمان".

وتصف السعدية صنيبة هذا الرابط الإنساني بالقول "المستفيدون هنا يعتبرونني بمثابة الأم، وقد عشت معهم حكايات لن أنساها، مثل لقاء أب بابنه بعد 38 عام من الفراق، أو رجل آخر التقى أسرته بعد 34 عام ولم يمكث معهم سوى شهر واحد قبل أن يرحل... هذه القصص تجعلني أقول دائماً لماذا نتخلى عن والدينا؟".

ولفتت إلى أن أغلب النزلاء والنزيلات يعانون من أمراض مزمنة ونفسية، من بينها الزهايمر، ما يجعل رعايتهم تحتاج إلى متابعة دقيقة ومناخ صحي خاص "نوفر لهم الأدوية، ونرافقهم للمستشفيات، لكن الصعوبات المادية لا تنتهي. التعامل معهم يحتاج صبراً وحساسية لأنهم مثل الأطفال في مشاعرهم".

ورغم المسؤولية الكبيرة التي تتحملها، ترى أن المرأة في المجتمع ما تزال تواجه عراقيل حتى عندما تصل إلى مراكز القرار "في مجتمعاتنا ما زالت بعض العقليات تهيمن عليها النزعة الذكورية. كل امرأة استطاعت أن تصل، فهي امرأة ناضلت وكسرت القيود لتشق طريقها".

 

سياسات غائبة أم حضور شكلي؟

تكشف الأرقام الرسمية حجم التحدي الذي يواجه المغرب في مجال الشيخوخة السكانية، بحيث ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تجاوزوا 60 سنة من 9.4% عام 2014 إلى 13.8% عام 2024، أي نحو 5 ملايين شخص، ويتوقع أن يصل العدد إلى أكثر من 10 ملايين بحلول 2050، أي حوالي 23% من مجموع السكان. هذه الأرقام، وفق تقارير المندوبية السامية للتخطيط وصندوق الأمم المتحدة للسكان، تعكس الحاجة الماسة إلى سياسات وبرامج فعالة لدعم كبار السن وضمان حقوقهم ورفاههم.

ورغم هذا التحول الديموغرافي، تبقى السياسة العمومية الموجهة للمسنين مجزأة وضعيفة التمويل، وهو ما ينعكس يومياً على واقع دور الرعاية مثل المركز الذي تديره السعدية صنيبة، إذ تقول "نحن نتلقى دعماً سنوياً من بعض الجهات، لكنه لا يغطي سوى نصف الاحتياجات، تكاليف الأدوية وحدها مكلفة جداً، ناهيك عن الحفاضات والتنقل للمستشفيات، كما نواجه صعوبات إدارية حقيقية، مثل ضياع البطاقة الوطنية، مما يعقد مسار العلاج".

وأوضحت أنه من أكبر التحديات التي تواجهها الدار هو التعامل مع حالات المسنين الذين لا يتوفرون على بطاقات تعريف وطنية أو أقارب يتكفلون بهم في كثير من الأحيان، حين يتوفى أحد النزلاء، نواجه عراقيل إدارية تحول دون دفنه بسرعة، لدينا مسن ومسنة توفيا منذ شهور، وما زلنا ننتظر استكمال الإجراءات، وهذا أمر موجع".

 

شيخوخة المجتمعات... نقاش إقليمي

التحولات الديموغرافية في شمال إفريقيا تتجاوز المغرب، لتشمل الجزائر وليبيا وموريتانيا، حيث تواجه غالبية الفئات المسنة تحديات كبيرة نتيجة ضعف التغطية الاجتماعية ونقص المراكز الصحية المتخصصة، ما يجعلهم يعتمدون بشكل أساسي على الأسرة والمبادرات الفردية أو الجمعوية.

وتشير بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان الصادرة في 2024 أن عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاماً في المغرب بلغ نحو 5 ملايين شخص عام 2024، ومن المتوقع أن يتضاعف العدد ليصل إلى نحو 10.7 ملايين شخص بحلول عام 2050، أي حوالي 23% من مجموع السكان، وتشكل النساء الأغلبية ضمن هذه الفئة، ما يزيد من هشاشتهن في ظل ضعف التغطية الاجتماعية وعدم استفادة كثيرات منهن من معاشات التقاعد.

وفي ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى مبادرات إنسانية ومؤسسية قادرة على سد الفجوات، وهو ما يجعل العمل الذي تقوده السعدية صنيبة وفريقها محوراً أساسياً في توفير الرعاية لكبار السن.

وفي ختام حديثها تقول السعدية صنيبة "لا يمكن اختصار المسنين في يوم واحد للاحتفال بهم، بل هم أب وأم ورمز العائلة، لذلك أناشد مؤسسات الحكومة أن تولي اهتماماً أكبر بهذه الفئة. أما المجتمع، فعليه أن يتذكر أن التكافل مع كبار السن ليس إحساناً فقط، بل واجب علينا جميعاً".