بين الفقد والخيمة... قصة طفلة تتحمل عبء الأمومة القاسية
تحولت طفولة رهف بدر ذات الثلاثة عشر عاماً إلى عبء أمومة قاسية بعدما فقدت والديها، داخل خيمة لا تحتمل الرياح ولا تقي من الجوع والألم.
نغم كراجة
غزة ـ يعيش أطفال غزة واقعاً قاسياً يتجاوز أعمارهم، إذ تحرمهم الحرب من أبسط حقوقهم في التعليم، الصحة، والأمان. كثير منهم يواجهون فقدان الوالدين أو أفراد الأسرة، ويضطرون لتحمل مسؤوليات لا تناسب طفولتهم، في ظل نزوح متكرر وظروف معيشية صعبة داخل خيام لا تصلح للحياة.
لم تكن الطفلة رهف يوسف بدر ذات الثلاثة عشر عاماً، تدرك أنّ وصية أمها الأخيرة "انتبهي لإخوتك إن غبت"، كانت حقيقة قادمة لا مهرب منها، ظنت أن والدتها تمازحها أو تبالغ في التخوف لكن المرض والحرب تآمرا على حياتها الصغيرة وسحبا منها الطفولة دفعة واحدة، لتصبح أمّاً قبل أوانها وحيدة في خيمة لا تحتمل الريح، مسؤولة عن ثلاثة شقيقات ينتظرن منها الحماية والغذاء والحنان.
تحمل عبء أسرة كاملة
اكتشفت رهف بدر أثناء رحلة نزوحها من شمال القطاع إلى جنوبه إصابة والدتها بسرطان الثدي، صمدت عاماً كاملاً وهي تقاوم المرض لكن الموت كان أسرع من العلاج، رحلت وتركت خلفها طفلة تحمل عبء أسرة كاملة.
وفي الشهر ذاته حاول والدها العودة إلى المنزل المدمر في الشمال لجلب بعض الاحتياجات، لكن تم قصف المنزل وسقط قتيلاً داخله، لم يستطع أحد انتشال جثمانه لخطورة المكان، بذلك حُرمت رهف بدر من وداع أبيها، وقذفت بلا مقدمة إلى قلب المسؤوليات التي لا تناسب عمرها.
تجلس رهف بدر في خيمتها المهترئة شمال القطاع مع شقيقتيها اللواتي ينظرن إليها كأم، وتقول بصوت خافت "وجدت نفسي أمّاً بلا اختيار أصبحت أطبخ وأغسل، وأهدهد لأخواتي ليلاً بعد أن كنت أكتب واجباتي المدرسية، فكيف سأحميهن وأنا طفلة مثلهن؟".
كان من المفترض أن تكون في المدرسة، لكنها لم تستطيع مغادرة الخيمة وترك إخوتها بلا رعاية "حين أرى صديقاتي يذهبن إلى المدرسة، أشعر أنني أنتمي إلى عالم آخر، تمنيت لو كنت معهن لكن من سيهتم بالصغيرات ويحمل عني هذا الحمل؟".
ورغم أن الأسرة تعتمد على ما يصلها من مساعدات إغاثية قليلة، فإن هذه المساعدات بالكاد تكفي لإطعام الطفلات، ويحاول أحد أقارب العائلة منذ شهور استخراج كفالة أيتام لهن، لكن الأبواب مغلقة والمؤسسات المعنية عاجزة، وهكذا تجد رهف بدر نفسها أمام مسؤولية ثلاثة أطفال دون أي دعم مالي أو مؤسساتي.
معاناة يومية في خيمة لا تصلح للحياة
في إحدى زوايا الخيمة تجلس تغريد بدر الأخت الصغرى ذات الأربعة أعوام، وكلما حاولت رهف تمشيط شعرها تتمتم باسم والدتها بصوت مرتعش "حين أمشط شعر تغريد أتذكر يد أمي كانت تفعل ذلك برفق، ولكن لا أستطيع تقليدها، حينها أشعر بأنني أفشل وبأن أشياء كثيرة أكبر مني".
لكن المعاناة الأشد تطال إسراء بدر الأخت البالغة من العمر عشر سنوات، والتي اخترقت الشظايا قدمها اليسرى أثناء وقوفها على ناصية الشارع، احتاجت قدمها إلى تثبيت ببلاتين حديدي، لم يفارقها الألم خصوصاً في خيمة لا يوجد فيها فراش مناسب ولا أدوية، تقول إسراء وهي تكتم دموعها "قدمي تؤلمني طوال الوقت، ويبكيني الليل لأنني لا أستطيع النوم، قال الأطباء إنني قد لا أعيش وإن العملية خطيرة، لكنني بقيت أقاوم هذا الألم من دون دواء، ولا أعلم لماذا لا تتوافر لي أبسط حقوقي كطفلة".
لم تتلق إسراء بدر أي نوع من الرعاية الطبية بعد العملية، كل ما تملكه رهف بدر هو قطعة قماش مبلولة تبرد بها جرح إسراء حين يشتد الألم "أحياناً أبكي سراً حتى لا تراني الصغيرات، أخاف أن يناموا جائعين، وأن يتألموا ولا أستطيع مساعدتهم وحدي، ولا أحد يفهم كيف لطفلة أن تتحمل كل هذا؟".
أما مأساة الخيمة فتصنع قيداً جديداً رغم كل الأعباء، فالخيمة المفتوحة من جوانبها تمتلئ بالغبار ويتسرب إليها المياه، وتتحول إلى غرفة خانقة صيفاً، وتنهار أطرافها أثناء هبوب الرياح مع ذلك ليس أمام الأسرة مكان آخر "أخاف أن تسقط الخيمة فوق رؤوسنا في الليل، أو أن تمرضن أخواتي بسبب البرد أو الجرذان أو الماء الملوث، نحن نعيش في مكان لا يصلح للحياة، لكن ليس لدينا بديل".
إخلال صارخ بالواجبات القانونية
وعن حرمانهن من الكفالات قالت "لو كانت هناك كفالة واحدة فقط، كنا سنأكل جيداً ونشتري دواءً لإسراء، ونجلب دفاتر وملابس لشقيقاتي الصغيرات، لماذا تترك طفلات مثلنا بلا أي مساعدة؟".
حالة رهف بدر وشقيقاتها تمثل انتهاكاً واضحاً لحقوق الطفل كما نصت الاتفاقية الدولية، والتي تلزم المجتمع الدولي بحماية الأطفال في مناطق النزاع وضمان حصولهم على الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والمسكن الآمن. ما تعيشه تلك الأسرة لا يليق بالكرامة الإنسانية هو إخلال صارخ بالواجبات القانونية والأخلاقية تجاه الأطفال الأكثر هشاشة في الحروب.
وسط هذا الركام الإنساني لا تزال رهف بدر تقاوم متحديةً هشاشة عمرها، كأنها تحمل العالم على كتفيها تنام آخر واحدة وتصحو أول واحدة، هي ليست أمّاً لكن الحرب أجبرتها أن تكون كذلك وأن تجر وراءها طفولتها كظل فقد لونه.
وفي النهاية تمنت أن يساعدها أحد وأن تستمر حياتها بلا خوف "إننا لا نطلب الكثير نريد فقط أن نعيش، ونكمل حياتنا مثل باقي الأطفال، أريد أن أعود إلى المدرسة وأن تشفى إسراء، وأن تنام شقيقاتي الصغيرات بلا خوف هل هذا كثير؟".
وهكذا تستمر حياة هذه العائلة الصغيرة معلقة بين الفقد والخيمة، بين الألم والصبر وبين طفلة تحاول أن تكون أمّاً. ثلاث شقيقات لا يملكن سوى أيدي بعضهن لمواجهة عالم انهار فوقهن مبكراً.