تونسيات في قطاع "البرباشة" تحديات وصعوبات وأضرار بالجملة

في السنوات الأخيرة شهدت تونس تزايد ملحوظ في أعداد النساء اللواتي تعملن في قطاع "البرباشة"، رغم التهميش الذي تواجهنه من حيث الحق في الصحة وعمل لائق والتعرض للعنف بجميع أشكاله.

نزيهة بوسعيدي

تونس ـ قد تكون الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس خلال السنوات الأخيرة سبباً رئيسياً في لجوء النساء للعمل في قطاع البرباشة رغم أنه من الأعمال الهشة بامتياز حيث تتعرض المرأة فيه لشتى أشكال الانتهاكات من استغلال وعنف.

تقتات الآلاف من النساء التونسيات يومياً مما تجود به عليهن القمامة والنفايات المنزلية من قوارير بلاستيك وبقايا أوعية متروكة يتم جمعها وبيعها لاحقاً بدنانير قليلة لا تكف حتى لسد رمقهن.

ابتسام بوزايدي أرملة ولها طفلان هي واحدة من مئات النساء "البرباشة" اللواتي أجبرهن ضنك العيش على النبش في القمامة وفرز ما يمكن أن يصلح لإعادة الاستهلاك من قوارير بلاستيكية ومعادن وخبز وقطع ملابس وغيرها.

تقول ابتسام بوزايدي التي تنطلق رحلة البحث عن قوت يومها ببزوغ الشمس وتنتهي بغروبها، وهي تصارع من أجل جمع أكبر عدد ممكن من القوارير البلاستيكية التي تضعها داخل عربة تجرها  "أعمل منذ عام 2011 على هذه البورويطة، استيقظ في الساعة الرابعة صباحاً لاستقل حافلة منطقة السيجومي إلى العاصمة ثم تنطلق جولتي لجمع القوارير الملقاة على الأرض أو الموجودة في القمامة، أسير مسافات طويلة على قدمي حتى أصل إلى منطقة أريانة وحي الخضراء، حتى أنه أحياناً تصدمني السيارات فأعود إلى المنزل بساقين متورمتين لا تقوى على الوقوف ورغم ذلك يجب أن أعد الطعام لأولادي وأغسل الملابس وأتولى تنظيف المنزل".

ولفتت إلى أن البحث في القمامة عن البلاستيك أدى إلى تورم أصابع يدها مما يتسبب في ارتفاع حرارة جسدها ليلاً فتضطر لتناول أدوية مسكنة للآلام والحرارة.

ومع هذا الجهد اليومي والتعب والتعرض لمخاطر صحية في سبيل النجاة من فرضية الموت جوعاً، تفتقر لبطاقة علاج "عندما كنت أعمل مع المقاولين كانوا يمنحوننا بطاقة علاج مزيفة لأننا لا نعرف الكتابة والقراءة، أي لم يكن بمقدورنا قراءة ما كتب على البطاقة، وعندما كنا نتوجه إلى أي مركز صحي يقولون لنا بأنها مزيفة، فضلاً عن أنهم يستغلون جهدنا ويمنحوننا أجراً".

وأشارت إلى أنها تعمل أحياناً ليلاً نهاراً حتى تحصل على مقابل لا يغطي مصاريف اليوم من طعام وأدوية ومستلزمات دراسة لأبنائها الأيتام "محرومون من الغلال واللحم والأسماك نحن فقط نأكل ما يسد الجوع"، مضيفة أنه مع تقدمها في السن أصبحت تشعر بأن جسدها في حالة إنهاك.

 

 

وهو الحال بالنسبة لـ دليلة شرعبي التي تعمل منذ 25 عاماً في قطاع البرباشة وهو مصطلح يُطلق على الأشخاص الذين جعلوا من النبش في النفايات والتنقيب عما يصلح منها للبيع مهنة لهم.

تعمل دليلة شرعبي في منطقة سيدي حسين تحت حرارة الشمس صيفاً وقساوة البرد شتاءً "استيقظ في الساعة الرابعة والنصف صباحاً لأقوم بجمع البلاستيك وعلب الحليب والخبز الموجود في الأكياس الملقاة بحاويات القمامة وجمع القمامة الموجودة في الشوارع لأجني قوت يومي مع طفلي لتأمين مصاريف دراسته في ظل انفصالي عن والده".

وأشارت إلى أنه في أحد الأيام ارتفع ضغطها وأغمي عليها في الشارع لأن الطقس كان حاراً وهي تشكو من التعب ونقص التغذية باعتبار ظروفها المادية الصعبة ولولا أن الجيران هبّوا لنجدتها لساءت حالتها، لافتةً إلى أن لديها إمكانيات القيام بأعمال أخرى على غرار الفلاحة والطبخ وإعداد العولة والتوابل إلا أنها لجأت لعمل البرباشة لأنه أكثر ضماناً من حيث الحصول على القوت اليومي وإن كان أقل.

وأضافت "إنها مهنة هشة تفتقر فيها إلى التأطير والإحاطة ولكن مؤخراً دعتنا بلدية سيدي حسين إلى فعالية حضرها أخصائيون وأطباء وقاموا بإجراء الفحوصات اللازمة خاصة المتعلقة بسرطان الثدي وقاموا توعيتنا حول كيفية التعامل مع القمامة والنفايات وساعدونا بالمواد التي نستعملها في جمع الفضلات البلاستيكية".

ومع تقدمها في السن أصبح جمع البلاستيك مسألة صعبة حتى أنها لم تعد قادرة على العمل في ظل حر الصيف، مشيرة إلى أنه عندما تهب الرياح تتناثر القوارير فتجد نفسها مجبرة على الجري ورائها لإعادة تجميعها.

وعن الحوادث الخطيرة التي تعرضت لها خلال فترة عملها قالت "بينما كنت منحنية على الحاوية أبحث فيها عن المواد البلاستيكية أقدم كلب سائب على عضي من ساقي فشعرت حينها بآلام مضاعفة نفسية وجسدية، وفي حادثة أخرى اصطدمت بخروج ثعبان من تحت الحاوية ولولا أن تفطنت له لعضني وأودى بحياتي، وفي إحدى المرات تعرضت للسرقة من قبل مجموعة من الشبان".

ومن الحوادث التي لا يمكن أن تنساها دليلة شرعبي، تقول "كنت اجمع البلاستيك والخبز وأضع الكميات المجمعة على سطح جارة لي لأن المنزل الذي اسكنه صغير جداً وفي يوم حار وأنا أسرع في حمل الكميات متجهة نحو مركز التجميع اصطدمت بحديد بناء في سطح المنزل ونزفت ساقي كثيراً ولكني واصلت العمل في ذلك اليوم وفي اليوم التالي ذهبت إلى المستوصف لأخذ حقنة تقيني من تأثيرات الحديد".

وأشارت إلى أن وضعها الاجتماعي المتمثل في الفقر وعدم التزام الزوج بمسؤولياته بمساعدتها على تربية الأبناء أجبرها على مقاومة الظروف التي تمر بها، متمنية تحسين أوضاع النساء البرباشة في تونس لأن عددهن في تزايد.

 

 

بدورها قالت الناشطة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ريم بن عمر "إن ظاهرة البرباشة شهدت نمواً كبيراً في السنوات الأخيرة تزامناً مع استفحال الأزمة المركبة وتفاقم ظواهر البطالة والفقر والهشاشة. وقد صاحب هذا النمو تطوراً ملحوظاً لعدد النساء العاملات في هذا القطاع".

ويستقبل مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف الاقتصادي والاجتماعي بالمنتدى دورياً العديد من النساء اللاتي تمتهن هذه المهنة حيث تلجأن إلى المركز بحثاً عن المساعدة والإسناد في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجههن وبالخصوص المشاكل الصحية.

وتكشف حصص الاستماع والانصات لهن حجم المعاناة التي تعشنها ما دفعهن للبحث عن قوت يومهن في هذه المهنة الشاقة رغم المصاعب التي تواجههن وحالة الاذلال والانهيار النفسي التي تعانينها. والكثير منهن تعرضن في حياتهن إلى انتكاسات ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية مثل الترمل والطلاق والعنف الأسري والطرد التعسفي والاغتصاب والتحايل وغيرها. وراء كل واحدة منهن حكاية تشهد عن عمق الأزمة الاجتماعية التي نعاني منها مجتمعياً خاصة في علاقة بالعنف المسلط على النساء والانتهاك المستمر لحقوقهن في كل المستويات ومراحل العمر.

واعتبرت أن البرباشة مهنة شاقة خاصة أن العاملات فيها تنطلقن في العمل منذ الصباح الباكر للبحث عن أي قارورة بلاستيكية أو علب ألمنيوم وتجبن أحياء المدن على مدار أكثر من 10 ساعات متحديات الصعوبات المناخية ما ينجر عن ذلك صعوبات جسدية تصل حد الإرهاق إذ تقطع بين الأنهج والطرقات يومياً مسافات طويلة لا تقل عن 8 كيلومترات مشياً على الأقدام حاملات ما تم جمعه في أكياس كبيرة على الظهر.

وأشارت الى أن العمل في هذا القطاع يشهد تنافس كبير بين البرباشة خاصة بين النساء والرجال الذين عادة ما يستعينون بعربات ودراجات نارية ويجمعون النصيب الأوفر وهم الأكثر حظاً لجمع أكبر عدد ممكن من المواد القابلة للتدوير مما يدفع النساء لتقضية الكثير من الوقت وبذل المزيد من الجهد في سبيل جمع أكبر عدد من الكيلوغرامات لتوفير قوتهن اليومي، كما تتعرضن إلى الكثير من الحوادث أثناء عملهن خاصة وأن النفايات تشمل مختلف أنواع الفضلات من البلور إلى جميع المواد الخطرة وحتى السامة وهن مفتقدات لجميع وسائل الحماية التي لا تملكن الإمكانيات المادية لتوفيرها لحماية أنفسهن من هذه الأخطار.