موسم تقطير ماء الزهر… موروث ثقافي تصونه النساء

تعد زهرية مراكش أو موسم تقطير ماء الزهر مناسبة مواتية أو حدث ثقافي تربط أهالي المغرب بتاريخه العميق، من خلال جمالها وفوائدها الروحية والاجتماعية والاقتصادية.

رجاء خيرات

المغرب ـ مع حلول فصل الربيع تستعد نساء مدينة مراكش لإحياء مراسم تقطير ماء الزهر، هذا الموروث الثقافي الذي حافظن عليه لعقود يعد تقليداً سنوياً دأبت النساء على إحيائه، احتفاء بالشذى الفواح لزهرة "النرانج" التي تملأ شوارع المدينة الحمراء و فضاءاتها الخضراء.

نظمت جمعية "منية" للثقافة و التراث، أمس السبت 22 آذار/ مارس في عرصة مولاي عبد السلام بمراكش، الدورة 13 لزهرية مراكش تحت شعار " الزهر اللي ترجى تلقاه في مراكش البهجة" (أي الزهر الذي تتمناه تجده في مراكش البهجة)، احتفالاً بموسم تقطير ماء الزهر.

‪وذكر المنظمون أن اختيار عرصة مولاي عبد السلام لاحتضان إحدى فقرات برنامج الزهرية التي تتواصل فعالياتها إلى غاية 14 نيسان /ابريل المقبل، جاء نظراً لهذا الفضاء التاريخي من مكانة في المدينة، والتي سميت إنشائها إلى القرن الثامن عشر،بالأمير مولاي عبد السلام الذي كان أديباً و شاعراً و سفيراً كما تمتد الحديقة على وتبلغ مساحتها 8 هكتارات، و تتوفر على مسرح صغير في الهواء الطلق، فضلاً عن "متحف الاتصالات" الموجود عند مدخل الحديقة و نباتات نادرة يعود تاريخها إلى قرون. 

وأضافوا إن تقطير الزهر يعود كل سنة للاحتفال بالربيع بين الأسر المراكشية، خاصة النساء اللواتي أخذن على عاتقهن تحمل هذا الطقس الحضري الذي يمتد لعقود من تاريخ المدينة، و تتوارثنه، معتبرين أن  هذه المراسم العطرة المحتفية بالزهرة البيضاء الشذية لشجرة النارنج، تصونها النساء بمحبة و شغف منذ أزمنة طويلة.

وعلى هامش الأحتفالية قالت مليكة العبادي المسؤولة عن عملية التقطير، "إن موسم تقطير ماء الزهر يبدأ مع حلول فصل الربيع بمراكش، حيث تكون الطبيعة زاهية ورائحة زهرة النرانج تفوح في كل أرجاء المدينة".

و أشارت إلى أن هذا التقليد السنوي هو موروث ثقافي يمتد لعقود، حيث دأبت نساء مراكش على إحيائه، معتبرة أن جمعية "منية" أسهمت إلى حد كبير في صيانته و التعريف به وبما يمثله بالنسبة للمدينة، خاصة بعد أن لاحظت أنه أصبح يتلاشى و يضيع، و لم تعد له تلك المكانة التي كانت في السابق.

و لفتت إلى أن "الفاعلين أو الفاعلات في الجمعية وفي الحقل الثقافي ارتؤا أن يخرجوا هذا الطقس من الفضاءات المغلقة إلى فضاءات أوسع وأرحب من أجل التعريف به وحث الأجيال الناشئة على إحيائه، باعتباره تقليداً حافظت عليه النساء عبر العصور".

و أوضحت أن "هذا الموسم أو هذه الزهرية في دورتها 13 تتميز بالاحتفال بهذا الموروث داخل العديد من الفضاءات الثقافية المتنوعة بالمدينة،  كالحدائق والأنشطة الرياضية والمؤسسات التعليمية، كما تم إشراك عدد من الجمعيات النسائية، لاستثمار واحد من فنون العيش و جعله مشروعاً ينتج دخلاً للعديد من النساء اللواتي يعانين من الهشاشة والفقر".

و تابعت "العديد من الجمعيات تتوفر على تعاونيات نسائية في الصناعة التقليدية والحرف اليدوية، لكننا قمنا في إدخال تقطير ماء الزهر كنوع من الانشطة المدرة للدخل التي يمكن أن تسهم في التمكين الاقتصادي للنساء".

و أبرزت أنه "بما أن الموسم هو موسم تقطير الزهر، فيمكن أن يشمل كذلك كل النباتات العطرية كالزعتر والورود والشيح وغيرها من النباتات، حيث من المعروف أن كل نبتة لها خصائص معينة و يتم تقطيرها بكميات معينة، فكيلوغرام مثلاً من زهر النرانج يعطي تقريباً لترين من ماء الزهر، أما الورد فيتطلب كميات كبيرة من أجل الحصول على نسبة ضعيفة من ماء الورد".

واستعرضت مليكة العبادي أمام الحاضرين كيفية تقطير ماء الزهر، حيث أكدت أن هذه العملية يسبقها جني وجمع أزهار النرانج التي تزرع داخل البساتين والحدائق المتواجدة في المدينة، و يتم بيع المحصول داخل سوق العطارين بالمدينة العتيقة، كما أن العديد من المراكشيين يجمعونه خلال نزهاتهم الربيعية في ضواحي المدينة.

وعن كيفية عملية التقطير قالت "نبدأ أولاً بفرز الزهور و إزالة الشوائب منها، قبل وضعها و تجميعها في قماش نظيف لمدة يومين أو اكثر وانتظار أن تذبل قليلاً لتفقد كمية من المياه ولتكون عملية التقطير ناجحة، و حتى يمكن استخراج الزيوت الأساسية منها التي يتم تقطيرها بواسطة أنابيب التقطير". 

و أبرزت أن "جهاز التقطير يتكون من ثلاثة أجزاء مصنوعة من النحاس الأحمر، حيث يسمى الجزء السفلي بالطنجرة، و توضع به كمية من الماء المغلي، ثم الجزء الأوسط و هو عبارة عن كسكاس (إناء به ثقوب كثيرة)، توضع فيه الأزهار المجففة، ثم الجزء العلوي و يتكون من صنبورين، واحد لتفريغ المياه الساخنة، و آخر لوضع المياه الباردة، حيث تعمل الثقوب على تمرير البخار المتصاعد من الإناء السفلي مباشرة إلى الأزهار، حتى إذا ما بلغت الجزء العلوي البارد تحولت إلى ماء زهر مقطر، يتم تحويله مباشرة إلى قنينات أو آنية تكون معقمة"، وهذه العملية تصاحبها زغاريد النساء.

و عن تاريخ هذا الطقس وحضوره البارز في الذاكرة النسوية المراكشية، أشار المنظمون إلى أنه لم يكن يخلو بيت من هذا التقليد كلما حل فصل الربيع وفاحت رائحة الأزهار في كل مكان من فضاءات المدينة الخضراء، حيث تخرج النساء قطاراتهن من مستويات البيوت، استعداداً لموسم التقطير في أجواء تتسم بالاحتفالية والتحضيرات المسبقة لها، و إقامة الولائم من خلال التجمعات العائلية، كما أنها تتم أحياناً بشكل جماعي في أجواء عائلية، و يتم توزيع قناني الزهر على المدعوين. 

و أوضحوا أن الأسرة، صغاراً وكباراً، تجتمع حول الشذى الساحر لزهرة النارنج والرحيق الذي يقطر والسعادة الهائلة التي يتيحها، كما تحافظ الزهرية على ذاكرة ثقافية بهية متجذرة في المدنية، باعتبارها تربط الساكنة بتاريخها العريق، من خلال جمالها وفوائدها الروحية والاجتماعية والاقتصادية، مؤكدة على الوجه المشرق للثقافة المغربية التي تستحق أقصى قدر من الاهتمام.

وتشارك نساء مراكش في عملية التقطير في منازلهن أو في التعاونيات، أو بمبادرات من الجمعيات التراثية أو المنظمات الثقافية، بما في ذلك المتاحف وغيرها من المؤسسات ذات الصلة بالصناعات الثقافية والعمل السياحي.

و قد بادرت جمعية "منية" بمراكش باستنباط هذا الموروث، كما تسعى إلى توسيع دائرة المهتمين به، من خلال دعوة المدينة والمجتمع المدني لتبني هذا الموسم رسمياً، كما عملت الجمعية على تطوير هندسة ثقافية مبتكرة تحول هذا الاحتفال العائلي والخاص إلى حدث ثقافي واحتفالي كبير يعز شأن المدينة.