لا أثق بالقانون حين يُطبق بيد ذكورية

بصفتي امرأة تعيش في مجتمع يُعيد إنتاج الذكورة بكل تفاصيله، لا أستطيع أن أرى في القانون ملاذاً آمناً، القانون الذي يُطالبني بإثبات "حسن النية" قبل أن يُصدق ألمي، ليس قانوناً للحماية، بل قانون يُدينني بصيغة أخرى.

مقال بقلم مالفا محمد

في زاوية من زوايا المحكمة، تجلس امرأة ترتجف ليس من البرد، بل من ثقل ما تحمله، خلفها سنوات من الصمت، من التنازلات ومن محاولات التكيف مع واقع لا يعترف بألمها، أمامها قانونٌ كُتب ليحميها، لكنه لا يعرفها ولا يعرف تفاصيل خوفها، ولا كيف تُقاس الكرامة حين تُهان يوماً بعد يوم.

هذا المشهد يتكرر، ليس فقط في المحاكم، بل في المنازل، في الشوارع، في المؤسسات، النساء تُجبرن على اللجوء إلى القانون لا لأنهن تثقن فيه بل لأنهن لا تجدن غيره، القانون يصبح آخر ملاذ وليس أول خيار للحماية.

تلجأ النساء إلى القانون غالباً بعد استنفاد كل أشكال الحماية المجتمعية الأسرة، الجيران، المؤسسات الدينية أو العشائرية. لكن هذا اللجوء لا ينبع من الثقة بالقانون، بل من غياب البدائل فحين تُمارس السلطة بطريقة انتقائية، تُحابي المعتدي وتُشكك في الضحية، يصبح القانون سيفاً ذا حد واحد. النساء لا تلجأن إلى القانون لأنهن تؤمن به، بل لأنهن لا تجدن غيره، هو خيار اضطراري، لا اختياري حين تُغلق الأبواب، وتُخنق الأصوات، يصبح القانون هو المساحة الوحيدة التي يمكن أن تُسمع فيها شكواهن، ولو جزئياً.

في الكثير من الحالات، تُجبر النساء على إثبات "النية الطيبة" أو "البراءة الأخلاقية" قبل أن يُنظر في شكواهن. تُسأل المرأة عن لباسها، سلوكها، وحتى نواياها، وكأنها هي المتهمة، هذا ليس خللاً في القانون ذاته بل فيمن يُطبقه، وفي الذهنية التي تضعه، لا تشتكي النساء من غياب النص، بل من غياب الإرادة، من قاضٍ يُشكك في روايتهن، من شرطي يُطالبهن بإثبات وجود الألم، من مجتمع يُحملهن مسؤولية ما تعرضن له. القانون هنا لا يُنصف، بل يُعيد إنتاج الظلم بطريقة أكثر تهذيباً.

القانون، حين يُطبق في بيئة لا تؤمن بالمساواة، يتحول إلى أداة قمع ناعمة، لا تريد النساء قانوناً يُجمل صورة النظام، بل قانوناً يُعيد لهن كرامتهن دون شروط، لا تردن أن تُعاملن كضحايا يجب أن تُثبتن براءتهن، بل كإنسان يستحق الحماية لمجرد أنها إنسانة.

لقد سئمت النساء من النصوص الجميلة التي تعلق على الجدران، بينما تُفرغ من معناها في المحاكم ومراكز الشرطة، سئمن من قاضٍ يحدق في ملابسهن أكثر من أن يُنصت إلى شهادتهن، ومن مجتمع يُطالبهن بالصمت حفاظاً على "سمعة الأسرة"، بينما يبرر للمعتدي بأنه "أخطأ مرة".

حين تُسن القوانين لحماية النساء من العنف، يُظن أن المشكلة قد حُلت، لكن الحقيقة أن القانون مهما كان متقدماً، لا يغير الواقع إن لم تتغير الذهنية التي تُطبقه، في الكثير من الحالات يُستخدم القانون كأداة لإسكات النقد، لا لحماية الضحايا، يُقال "لدينا قانون، فلماذا تشتكين؟"

 

هل هذا هو العدل الذي نفاخر به؟

لا يمكنني أن أصف شعوري حين أرى امرأة تُجبر على الوقوف أمام قاضٍ لتُثبت أنها ضحية، بينما يُعامل المعتدي كصاحب حق، هذا ليس عدلاً، بل إعادة إنتاج للظلم بلغة قانونية، القانون الذي يُفترض أن يكون أداة للإنصاف، يتحول إلى ساحة اختبار أخلاقي للنساء، وكأن الحماية مشروطة بـ "السلوك المقبول"، المرأة التي تُقدم شكوى على عنفٍ منزلي، تُسأل عن نواياها، عن سلوكها، عن ماضيها، تُعامل كمتهمة، القانون هنا لا يُنصف، بل يُعيد إنتاج الشك، ويُطالب المرأة بإثبات إنسانيتها في كل خطوة، تخيل أن تكون في مكانها، تُحاسب على ألمك بدل أن تُحمى منه.

لقد آن الأوان لنكف عن تمجيد النصوص القانونية التي لا تُطبق، وعن التفاخر بوجود قوانين لا تؤمن بها السلطة التي تُنفذها، العدالة لا تُقاس بعدد البنود، بل بمدى شعور النساء بالأمان، وبمدى تصديق روايتهن دون تشكيك أو إهانة.

 

العدالة تبدأ من الاعتراف

الذهنية الذكورية ليست حكراً على الرجال، بل هي منظومة تُدرس، وتُكرس، وتُمارَس يومياً، حين تُربى الفتيات على الطاعة، ويُربى الفتيان على السيطرة، فإننا نُعيد إنتاج الخلل من الطفولة، حين تُقصى النساء من الإعلام، من المناهج، من مواقع القرار، فإننا نُكرس قانوناً لا يعرفهن، ولا يعترف بهن.

هل نُربي أبناءنا على الاحترام، أم على السيطرة؟  هل نُريد حماية حقيقية، أم واجهة تُجمل الواقع؟ أنا لا أطالب فقط بتعديل القوانين، بل بتعديل مناهج التفكير، لا أطالب فقط بحماية النساء، بل بإعادة تعريف القوة، والسلطة، والعدالة، لا أريد أن أُعامل ككائن هش يحتاج إلى إنقاذ، بل كإنسانة كاملة الحقوق، تستحق الاحترام لا الشفقة.

أن الخطوة الأولى نحو العدالة هي الاعتراف بأن النساء لا تُعاملن على قدم المساواة، لا في القانون، ولا في المجتمع، والاعتراف بأن الذكورة ليست مجرد سلوك فردي، بل نظام متكامل يُقصي النساء ويُكافئ السيطرة وكذلك الاعتراف بأن القانون، حين يُطبق بيد غير مؤمنة بالمساواة، يتحول إلى أداة قمع ناعمة، ما أطالب به ليس مستحيلاً، أطالب بقضاء يُصدق النساء، بإعلام يُعيد الاعتبار لقصصهن، بتربية تُعلم الأطفال أن الاحترام لا يُمنح حسب الجنس، وبسلطة تُعيد تعريف العدالة كحق، لا كمنحة.

في النهاية، لا يكفي أن نُطالب بالقانون، بل يجب أن نُطالب بسلطة عادلة، بخطاب إنساني، وبمجتمع يُعيد تعريف القوة على أنها رعاية، لا سيطرة، والنساء لا تحتجن إلى قوانين تُنقذهن، بل إلى مجتمعات لا تُعرضهن للخطر أصلاً، في النهاية، لا أريد أن أُجبر على اللجوء إلى القانون كقارب نجاة، أريد أن أعيش في مجتمع لا يُعرضني للخطر، أريد قانوناً يُحميني دون شروط، وسلطة تُنصفني دون مساومة، وعدالة تُعاملني كإنسانة، لا كاستثناء.