الصمت المُمنهج... كيف تُنتج السلطة نساءً بلا صوت

شيلان سقزي

في المجتمعات غير المتكافئة والمهيمنة، لا يُعدّ صمت النساء، وخاصةً في المناطق المهمشة مجرد رد فعل فردي، بل هو نتاج عملية قمع وإقصاء ممنهجة، يتحول هذا الصمت تدريجياً إلى فعل قسري نوع من السياسة الحيوية الخفية التي تُجبر أجساد النساء وعقولهن على الصمت، فالتقاليد والدين والهياكل الأبوية ومؤسسات السلطة من خلال آليات معقدة ومتشابكة تتحكم في لغة النساء وتُفقد أصواتهن فعاليتها، ونتيجةً لذلك لا تكتفي النساء بعدم التحدث بل تعتقدن أنه لا ينبغي لهن التحدث أو لا تستطعن ​​ذلك، إن عملية الإسكات هذه بحد ذاتها نوع من العنف المستمر هادئ ظاهرياً ولكنه تخريبي في داخله.

 

 

يسعى هذا التقرير إلى دراسةٍ نقديةٍ للطبقات الخفية والبنيوية لقمع المرأة في المجتمعات الهامشية، بدءاً من آليات الإسكات الممنهج وصولاً إلى التمثيلات المهينة في المؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام والمنظمات الخيرية، الهدف ليس مجرد سرد الألم، بل دراسة الجذور السياسية والاقتصادية والثقافية لهذا الوضع بحيث يمكن استخدام الصمت المفروض لفتح المجال أمام حوارٍ تحرريٍّ وناشط.

 

النساء المهمشات وسياسة الصمت

 لا يُمكن اعتبار صمت المرأة أمراً طبيعياً أو فردياً، بل هو نتاج نظام قوي يجعله التزاماً اجتماعياً وسياسياً، في البُنى الاستبدادية لا تُمنع النساء من الكلام فحسب، بل يُصبح صمتهن جزءاً من سياستهن الحيوية، نوعاً من التربية على الطاعة والصمت والموافقة المصطنعة.

في المجتمعات المهمشة (سواءً كانت ريفية، أو مدناً محرومة، أو قوميات مهمشة، أو أقليات عرقية وأثنية، أو مهاجرة)، يُدرّب جسد الأنثى منذ الطفولة بحيث يخضع دائماً للمُراقب الأبوي، الصمت في وجه العنف المنزلي، أو الاغتصاب، أو الإذلال أو التمييز ليس خياراً فحسب، بل يُصبح استراتيجية بقاء، هذا الصمت عملٌ غير مدفوع الأجر يستفيد منه النظام مجتمع هادئ، ونساءٌ متواضعات، وسيطرةٌ ناعمة دون الحاجة إلى قمعٍ صارم.

هذه السياسة القائمة على عدم الكلام لا تؤثر على اللغة فحسب، بل على الجسد ايضاً الصوت المرتجف، والنظرة الخافتة، والعيون المليئة بالخوف، وإنكار الذات، والشفقة على الذات، كلها أمثلة على الصمت الذي اخترق جسد هذه المجموعة من النساء.

تُقدّس أنظمة السلطة، من وسائل الإعلام الحكومية إلى الهياكل الدينية هذا الصمت، المرأة الصالحة هي التي "تتحمل" و"تغفر" و"تغفر" ولا تفتح فمها، ونتيجةً لذلك لا تُطبّق سياسات الصمت بشكلٍ سلبي بل بشكلٍ فعّال، فيصبح الصمت واجباً أنثوياً وليس غياباً مؤقتاً، في الوقت نفسه حتى النساء اللواتي ترغبن في التعبير لا تجدن صدىً في الفراغ الإعلامي، والعجز الرقمي، والأمية السياسية، يُحرمن ليس فقط من منبرٍ بل من إمكانية إيصال أصواتهن.

في نهاية المطاف، يُغطي هذا الصمت القسري، كحجاب الكلام، جسد الأنثى ليس خجلاً، بل خارجاً عن السيطرة إنها سياسةٌ للصمت أي مجزرة الكلمات قبل أن تولد، وكما ذُكر فإن صمت المرأة في بُنى السلطة الاستبدادية ليس عرضياً، بل هو نتيجة مجموعة من الآليات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية المترابطة التي تُرشدها، منذ ولادتها إلى مسارٍ لا يُفقدها صوتها فحسب بل يجعلها أيضاً ترى الصمت فضيلة، هذه العملية ليست سلبية بل مُصممة ومُستدامة بنشاط ومنهجية.

 

هيمنة القمع العائلي

منذ الطفولة تكبر الفتيات في الأسر التقليدية مع العار المكتسب والذي يلقي بظلاله ليس فقط على الجسد، ولكن أيضاً على الرغبة والقول وحتى التفكير، يتم إضفاء الطابع المؤسسي على هذا العار بأشكال مختلفة، العار الجنسي حيث يكون جسد المرأة "منطقة محظورة" بدلاً من الاعتراف به يجب عليها أن تخشى جسدها، العار الاقتصادي حيث حتى لو امتلكت المرأة شيئاً فإنها تسميه على اسم والدها أو زوجها، في إيران تُعد النساء اللائي تتركن ميراثهن للرجال خوفاً من حكم الأسرة مثالاً رئيسياً على العار المؤسسي، عار الاحتجاج هو نوع آخر من العار، حيث يتم تصوير المرأة التي تحتج على أنها وقحة، شخص ليس لديه شرف وغير متعلم ويعطل "سلام الأسرة " .

الأسرة الأبوية هي أول مؤسسة تمارس الصمت منذ الصغر، يأمر الأخ أخته ويمنعها، ويتحكم الأب بـ"الشرف"، والأم وهي امرأة تراقب نفسها بنفسها، وكل هذا يعيد إنتاج نمط الصمت والطاعة، وفي هذه الدورة تُدفن المرأة، إن كان لها صوت داخل الأسرة.

في المناطق المحرومة، تُعدّ فرص حصول النساء على التعليم وموارد التوعية والمساحات التشاركية محدودة للغاية، وحتى مع التحاق النساء بالمدرسة لا يُتاح لهن التثقيف بشأن النوع الاجتماعي أو الحقوق أو السياسة وكثيراَ ما تُمارس وسائل الإعلام المحلية والوطنية الرقابة على أصوات النساء أو تُقلّل من شأنها، والنتيجة هي أن النساء لا تعرفن أن لديهن الحق في الكلام أو كيفية التعبير عنه.

العنف المنزلي، والاغتصاب، والزواج القسري، والحرمان من الرعاية الصحية النفسية والجسدية، كلها أدوات مادية لإسكات النساء، المرأة التي تتعرض للضرب باستمرار تتعلم الصمت، والمرأة التي لا تملك حق امتلاك جسدها تصبح أداة للتكاثر، أو الفتاة التي عانت من الخوف مرات عديدة في حياتها تفقد شجاعتها على التعبير.

صمت النساء

في جمهورية إيران الإسلامية يُستخدم الدين كأداة لتبرير صمت المرأة، تُرسّخ مفاهيم مثل هيمنة الرجل، ووجوب الطاعة وحرمة صوت المرأة في الخطب الدينية ووسائل الإعلام والتعليم الرسمي، على سبيل المثال المرأة الصالحة صامتة فإذا تكلمت يجب أن يكون ذلك بأسلوب أموميّ أو دينيّ، وقد أدّى الاستخدام الفعّال للفقه لاستبعاد المرأة من المجال العام، وخاصةً في القرى والمدن الصغيرة، إلى تحويل الصمت إلى واجب ديني.

في هيكل جمهورية إيران الإسلامية، تُستبعد المرأة من السلطة من خلال قوانين تمييزية وسياسات أبوية، يُحرم النساء من المشاركة السياسية، ويقلّ مشاركتهن في سوق العمل، وتخضعن للرقابة على وسائل الإعلام، وتحرمن من الحق في تولي وظائف أو مناصب معينة وغيرها، هذا الاستبعاد الهيكلي لا يحرم المرأة من فرصة التعبير عن رأيها فحسب بل يُغرقها أيضاً في صمت مُمنهج.

في مجتمع استبدادي، تُكتم النساء ليس فقط بالحظر بل أيضاً بمزيج من العار والخوف والفقر والعنف والتقاليد والدين والقانون، هذا الصمت جزء من السياسة الحيوية للدولة، وللأجساد الخاضعة وللأصوات المكبوتة، وللمواطنين الذين يجعلون من أنفسهم أدواتٍ لإخضاعهم، لكن هذا الصمت يحمل في طياته إمكانية الثورة.

 

تمثيل ربات البيوت

في وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية، يُعاد إنتاج صورة نمطية ضيقة لربات البيوت، تُظهرهن كنساء "تابعات، عاطفيات، يائسات، غير منخرطات اجتماعياً، عاجزات، ومحرومات من حق اتخاذ القرار" هذا التمثيل لا يقتصر على التلفزيون والسينما، بل يتغلغل في الخطاب الإعلامي العام، حيث تُصوَّر ربة البيت على أنها غير قادرة على التواصل الفعّال مع المجتمع أو الاستجابة للظروف المحيطة بها، حتى عندما تكون ربة البيت متعلمة أو منخرطة في النشاط الاجتماعي فأن هذه الجوانب تُهمَّش أو تُغفل عمداً، مما يُكرّس صورة المرأة "العاجزة" في المجال المنزلي.

هذا التمثيل الإعلامي لا يكتفي بتجاهل التنوع الحقيقي في حياة ربات البيوت بل يذهب أبعد من ذلك حيث يقارنهن بالنساء العاملات بطريقة غير عادلة حيث تقدم المرأة العاملة على أنها أكثر صحة وسعادة ونشاط، في مقابل تصوير ربة البيت كخيار "ضعيف" أو "متخلّف"، بذلك يُمارَس نوع من التشويه الرمزي الذي يُقوّض مكانة ربات البيوت ويُهمّش دورهن، ويُرسّخ تصورات اجتماعية تفتقر إلى العدالة والواقعية.

عندما تُصوّر وسائل الإعلام الحكومية ربة منزل بلا صوت، ولا مطالب، ولا انتقادات، فإنها تُصوّر صمتها على أنه حالة "طبيعية" يُعرَض هذا الصمت ويعتاده الجمهور، على المرأة أن تلتزم الصمت وتتحمل وتمضي قدماً في حياتها.

بدلاً من إظهار تمكين ربات البيوت أو مرونتهن، تُحصرهن هذه التمثيلات في هوية مُصممة مُسبقاً ومُهينة، ربة البيت ليست كائناً لها حرية الاختيار والفعل، بل هي رمز ثابت لا يتغير. عندما لا تتناول وسائل الإعلام الصعوبات الحقيقية التي تواجهها ربات البيوت، كالضغوط الاقتصادية، وصعوبة الحصول على الخدمات العامة، وعدم المساواة بين الجنسين في القانون، فإنها لا تتطرق حتى إلى مسألة السلطة، ونتيجةً لذلك تُصوَّر المشاكل على أنها فردية وليست نتيجة نظام هيكلي ظالم.

إن الصمت الداخلي لدى المرأة، والانعكاس المستمر لمثل هذه الصور، يمكن أن يدفع المرأة نفسها إلى تعلم أنه من الأفضل أن تبقى صامتة، حتى لو كان لديها احتجاج في قلبها، ولكن بسبب الإذلال الاجتماعي والموضوعي، فإنها تسامح نفسها لأنها لم تجرؤ على التعبير عنه أو تقنع نفسها بأن "الصمت" واجب.

تظهر هذه الأمثلة كيف تعمل وسائل الإعلام والسلطة معاً ليس فقط لفرض الصمت، بل أيضاً لجعله جزءاً من وجود المرأة وطبقاتها الداخلية، وهي سياسة الصمت التي يتم إعادة إنتاجها على المستوى الفردي.

في نظام سياسي قمعي، تُعدّ هذه الأنماط البيولوجية للصمت مرغوبة للغاية، لأنها لا تمنع الاحتجاج فحسب، بل تُلغي أيضاً إمكانية الوعي الجماعي والتنظيم والتحرر، وهنا يُصبح الصمت استراتيجية وقوة تُلغي أصوات النساء دون الحاجة إلى الشرطة، ودون سفك دماء أو ربط حبال، المرأة الصامتة هي النموذج الأمثل للحكم الاستبدادي قابلة للسيطرة، مُتساهلة، وعاجزة.

يتطلب التصدي لهذا الوضع إعادة بناء لغة المرأة، وإعادة تفسير دور التقاليد والدين وتسييس تجاربها المعيشية حينها فقط سيتحول الصمت من عمل قسري إلى مقاومة واعية، وحتى ذلك الحين سيبقى صمت المرأة صدى لصرخة أمة مكبوتة.

في نهاية المطاف يمكن القول، إن الصمت المفروض على النساء خاصةً المهمشات، ليس حالة طبيعية أو خياراً شخصياً، بل هو نتاج مباشر ومُخطط له من قِبل هياكل السلطة، هياكل تُرسّخ من خلال تشابك التقاليد والدين والفقر ونقص التعليم وعدم المساواة بين الجنسين والقمع السياسي، عملية تدريجية ولكنها عميقة لإلغاء الصوت غالباً ما تتعلم المرأة المهمشة منذ الطفولة أن لغتها خطيرة، وأن صوتها عار، وأن صمتها علامة على العفة والشرف، لا تأتي هذه الرسائل من الآباء أو رجال الدين أو المعلمين فحسب بل تُعززها سياسات السلطة، ووسائل الإعلام الرسمية، والبرامج التعليمية، والقوانين الجائرة التي حوّلت النساء إلى مواطنات من الدرجة الثانية.

في مثل هذا الإطار لا يصبح الصمت علامة ضعف فحسب، بل وسيلةً لإعادة إنتاج الهيمنة، فالمرأة التي لا تتحدث عن تراثها، والمرأة التي لا تتحدث عن العنف الأسري، والمرأة التي لا تكتفي بـ"الصمود" في وجه الضغوط النفسية والاقتصادية هي في الواقع حاملة للعنف الذي بدلًا من الصراخ تمتصه في جسدها وروحها، الصمت هنا شكل من أشكال العمل العاطفي والنفسي والطاقة التي تبذلها المرأة في كبت الغضب، وتجاهل الظلم، وقمع الاحتجاج.