الإبادة الجماعية... الجريمة المنهجية في الشرق الأوسط

إن أبعاد هجمات الدولة التركية على شمال وشرق سوريا والهجمات الإسرائيلية على غزة تحدد بكونها تطهير عرقي "إبادة جماعية"، وبالرغم من قبولها لم يتم إجراء أي محاكمة استناداً إلى تلك التهم حتى الآن.

ساريا دنيز

مركز الأخبار ـ إن ما حدث بعد تكثيف الدولة التركية هجماتها على شمال وشرق سوريا في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، والعملية التي شنتها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من الشهر الجاري، مثلت الحد الأخير من نهاية الإنسانية، فبينما تعرضت غزة للدمار إثر الهجمات الإسرائيلية، وقتل آلاف الأطفال والنساء أمام أعين العالم أجمع، وتعرضت المنازل والمدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات للقصف، إن تعريف "جرائم الحرب" في مواجهة الهجمات الإسرائيلية غير كافية أمام ما شهدته المنطقة التي لا تزال تتعرض للقصف.

في الآونة الأخيرة هناك تساؤلات حول كيف وأين ستتطور الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط، الذي وصف بكونه "حقل ألغام"، ولا يمكن توقع أن تصبح الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية جزءً من هذا الصراع وعواقبه، إن الأحداث التي شهدتها غزة من جهة، والقصف والتفجيرات التي نفذتها الدولة التركية في شمال وشرق سوريا من جهة أخرى، قد أعادت تعريفات الإبادة الجماعية وجرائم الحرب إلى جدول الأعمال من جديد، إذاً فما الفائدة من القوانين التي تحدد تعريفات هذه الجرائم وما حدث واضح جداً ومثبتاً لهذه الدرجة؟ كيف وما الذي يمكن أن يمنعه الصمت العميق للمؤسسات الدولية أو تصريحاتها التي لا توضع موضع التنفيذ سوى في الإدانة؟، أم هل بإمكانها أن تمنع ذلك؟ وفي تقريرنا هذا قمنا بسدل الستار عن كل الحقائق الغير مرئية كما يقولها تقريباً كل معلق أو خبير أو بعض المسؤولين وقمنا بالتركيز على ماهية جريمة الإبادة الجماعية.

 

ما هي جريمة الإبادة الجماعية؟

لم يتم استخدام مفهوم "الإبادة الجماعية" بمعناه الحقيقي حتى الحرب العالمية الثانية، حيث وصفت لفترة من الزمن بأنها "جرائم بلا تسميات"، ولم تصبح تسمية هذه الإجراءات ممكنة إلا بعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد إصدار اتفاقية الإبادة الجماعية عام 1948، وقامت بتحديد الأفعال التي تصنف على أنها إبادة الجماعية، وألزمت الدول بتنظيم عمليات تهدف من خلالها إلى القضاء على مجموعات معينة بموجب جريمة الإبادة الجماعية.

عرفت جريمة الإبادة الجماعية وفق الاتفاقية على أنها أفعال ترتكب "بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية"، تشمل الأفعال الإجرامية كقتل أفراد مجموعة ما، أو التسبب في أذى جسدي أو عقلي لهم، أو خلق ظروف مصممة لتدميرهم، أو منع الولادات، أو نقل الأطفال قسراً إلى مجموعات أخرى.

من بين الإبادات الجماعية المعترف بها من قبل المحاكم الدولية، تسبب جماعات منظمة الخمير الحمر الكمبوديين بمقتل 1.7 مليون شخص من عرقية تشام الكمبودية والفيتناميين في السبعينيات، كما ويعد مقتل ٨٠٠ ألف شخص على يد التوتسي في رواندا عام ١٩٩٤، ومقتل حوالي ٨ آلاف مسلم في حرب البوسنة والهرسك في مدينة سربرنيتسا عام ١٩٩٥.

 

كيف يجب إثبات جريمة الإبادة الجماعية؟

لكي تعتبر الجريمة من ضمن الإبادة جماعية، على الضحايا أن يكونوا جزءا من عرق قومي أو إثني أو ديني أو عرقي مختلف، وكثيراً ما يتم تعريف الإبادة الجماعية على أنها جريمة يصعب إثباتها، لكن ما يحدث اليوم في غزة وشمال وشرق سوريا توثقه كافة وسائل الإعلام، وبالطبع تعتبر كل هذه الصور والشهادات بمثابة أدلة وإثباتات على هذه الجريمة المرتكبة في الساحتين، ولكن للأسف، فإن القيام باتخاذ هذه الخطوات لا تحدث بين ليلة وضحاها، على سبيل المثال، لا تزال ممارسات روسيا في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا خاضعة للتدقيق، وعلى الرغم من اكتشاف ارتكاب الآلاف من جرائم الحرب من قبل روسيا، إلا أنه لم يتم إجراء أي محاكمة في هذه التهم حتى الآن.

تقع مسؤولية المحاكمة على جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، حيث يعمل المدعين العامين هنا على التحقيقات في جرائم الحرب، وفي حالة ثبوتها يمكن إصدار أمر بالقبض على مرتكب الجريمة أو مرتكبيها، ومع ذلك، فحتى لو قررت المحاكم الدولية محاكمة الأفراد على التهم الموجهة لهم، فإن توقيف الأفراد واعتقالهم يقع ضمن سلطة دولتهم، فعلى الرغم من الأحداث التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، لم يتم إجراء أي محاكمات على جرائم الإبادة الجماعية ولم يتم إصدار أي عقوبات في المحاكم الجنائية القائمة، تم إصدار قرار الإدانات بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية للأعمال التي تم تنفيذها في يوغوسلافيا السابقة ورواندا خلال سنوات التسعينيات، وكان العشرات من القادة المتطرفين وجميعهم كانوا من جماعة الهوتو، قد أدينوا في السابق بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الأقلية من قبيلة التوتسي، وفي عام ٢٠١٨ توصلت محكمة الأمم المتحدة وكمبوديا إلى إن اثنين من قادة الخمير الحمر في كمبوديا هما المذنبان بارتكاب جرائم الإبادة جماعية، كما حاكمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بعض الشخصيات الرئيسية لدورهم في الإبادة الجماعية في حرل سربرينيتسا وحكمت عليهم بتهمة الإبادة الجماعية.

 

المحاكمات التي لاتزال قيد الانتظار

المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت في وقت سابق مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير بتهمة ارتكابه جرائم الإبادة الجماعية، ولا تزال القضية قيد انتظار القرار، ومن المعروف أن المحكمة تحقق أيضا في ممارسات ميانمار ضد مسلمي الروهينغا وأيضاً فيما شهدته أوكرانيا من أحداث، ويظهر أن الوصول إلى قرار في هذه القضايا قد يستغرق سنوات.

 

الاسم الآخر للإبادة الجماعية

وبالعودة إلى قطاع غزة مرة أخرى، تقصف إسرائيل غزة بالقنابل والمتفجرات وتقتل الجميع بلا استثناءات، كما كانت المدارس والكنائس والمساجد والمستشفيات من بين الأهداف أيضاً، لا توجد كهرباء في المنطقة، إن الافتقار إلى الاحتياجات الأساسية والإمدادات الطبية يفتح الأبواب أمام العديد من الكوارث، وبينما تريد إسرائيل إخلاء غزة، فإن البوابات الحدودية مغلقة والناس عالقون، وبينما يصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي أن ما شهده العالم أجمع هو "مجرد بداية"، يواصل بث الموت في كل خطاب له، وبالإضافة إلى ذلك فأن العواقب المترتبة على العملية البرية المحتملة ستكون أكثر فجعاً بلا أي شك، أن ما يحدث اليوم يتم وصفه بأنه استمرار لحدث "النكبة" كارثة جماعية كبيرة، فقد تم فيها تهجير ٧٥٠ ألف فلسطيني من منازلهم خلال حرب عام ١٩٤٨ التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل، إن نكبة اليوم هي اسم آخر للإبادة الجماعية في العالم في يومنا هذا، تم تحديد ٥ أعمال إجرامية تقع ضمن تعريف الإبادة الجماعية تجري حالياً في قطاع غزة وهي "القتل (العمد) لأفراد مجموعة معينة، وإلحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد مجموعة معينة، والحد المتعمد من الظروف المعيشية التي من شأنها أن تؤدي إلى التدمير الجسدي الكامل أو الجزئي لمجموعة معينة".

 

لم يتخذ أي قرار في التحقيق

بدأت عملية جديدة في عام ٢٠١٤ مع توقيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على نظام روما الأساسي، وهو الاتفاق التأسيسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقررت المحكمة أن لها ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية، ومع هذه التطورات، أصبح الطريق مفتوحاً أمام تحقيقات محتملة في جرائم الحرب المرتكبة في فلسطين، حيث تقدمت الأخيرة بطلب بهذا الشأن، وصدر وفق ذلك قرار بالتحقيق، لكن المحكمة لم تتوصل إلى أي نتيجة حتى الآن، كما وأعلنت إسرائيل والولايات المتحدة بأنهما لا يعترفان بقرار التحقيق الذي أصدرته المحكمة.

 

تم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين

إن الفتور الذي شهده التاريخ الحديث حدثت تجاه للإيزيديين أيضاً، مضت سنوات على هجوم داعش على قضاء شنكال، الذي أدى إلى مقتل الآلاف من الأبرياء، ومن بينهم نساء وأطفال عزل، استهدف داعش النساء على وجه خاص، وقام ببيع المئات من المختطفات كسلع في "أسواق العبيد" لهذا العصر، وأجبر مئات الآلاف من الإيزيديين للخروج من الأراضي التي يعيشون فيها، وفي شباط/فبراير عام ٢٠١٦ اتخذا البرلمان الأوروبي قراراً تاريخياً حيث قام بتعريف هجمات داعش باعتبارها إبادة جماعية "تطهير عرقي"، وورد في القرار "لقد ارتكب التنظيم المسمى بالدولة الإسلامية إبادة جماعية بحق المسيحيين والإيزيديين وغيرهم من الأعراق والأقليات الدينية"، كما ذكر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في تقريره المنشور في حزيران/يونيو عام ٢٠١٦ أن داعش ارتكب إبادة جماعية بحق الإيزيديين والأقليات الأخرى، وفي وقت لاحق، اعترفت سويسرا ولوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا وأرمينيا وألمانيا بالإبادة الجماعية، وفي الآونة الأخيرة في الذكرى التاسعة للمجزرة، أعلنت المملكة المتحدة اعترافها رسمياً بما حدث في شنكال باعتبارها إبادة جماعية، كما تقدم الإيزيديون بطلب إلى المحكمة بشأن الإبادة الجماعية، وتمت إدانة تركيا أيضاً في هذا الصدد، ولكن لم تتم محاكمة أي أحد حتى الآن.

 

يستمر ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في روج آفا

لم تحدث أي تطورات فيما يتعلق بتركيا التي تواصل هجماتها على شمال وشرق سوريا، وتكثفت الهجمات خاصة منذ 4 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، حيث تم استهداف محطات الطاقة ومستودعات المواد الغذائية والبنية التحتية والمدارس والمستشفيات في المنطقة، وبينما فقد العديد من الأشخاص أرواحهم خلال هذه الهجمات، كانت النساء والأطفال هم الجرحى مرة أخرى، منذ عام ٢٠١٢ تم إبلاغ المؤسسات الدولية لمرات عديدة وبشكل متكرر عن الهجمات على المنطقة، حيث تطرق تقرير الأمم المتحدة عن المنطقة إلى انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن النزاعات الأخيرة الجارية، والغارات الجوية التي تشنها تركيا على روج آفا والحرب والجرائم ضد الإنسانية التي لا تزال ترتكب في المناطق المحتلة، كما ورد في التقرير، تم تأكيد وقوع وفيات من بين المدنيين، نتيجة للهجمات التركية، وبشكل خاص في مناطق حلب والحسكة والرقة وعين عيسى وتل تمر، وأكد التقرير على أنه تم استهداف المدنيين أيضاً في الهجمات التي شنتها تركيا على روج آفا في تواريخ مختلفة بواسطة الطائرات المسلحة بدون طيار (سيها)، وورد في التقرير أيضا بأن "الدولة التركية قامت بشن هجمات على المنطقة دون تمييز المدنيين وأخذ البنية التحتية المدنية في عين الاعتبار"، وبالإضافة إلى التفجيرات التي أحدثتها في المنطقة، فقد تم توثيق استخدامها الأسلحة المحظورة أيضاً، ولكن بالرغم من كل هذا لم تتجاوز المؤسسات الدولية موقف الصمت المطبق تجاه ذلك.

إن الأناس الذين يريدون تقرير مصيرهم بيدهم في غزة وشمال وشرق سوريا مستهدفون من قبل الدول المهيمنة، وفي مواجهة كل هذه التطورات، يتم رفع المحاكم التي تم إنشاؤها والقوانين التي صدرت لحماية الحقوق من على الرفوف من جديد واستجوابها.