"في غزة نجا من مات ومات من نجا" كتاب يوثق أصوات النساء خلال الحرب

في كتابها، تنسج آية أبو نصر حكايات الفقد والنجاة، موثقة أصوات نساء فلسطينيات يكابدن الحرب والتهجير، لتجعل من الكتابة وسيلة مقاومة تحفظ الذاكرة وتكشف عمق الألم والأمل.

رفيف اسليم

غزة ـ نجت الكاتبة آية أبو نصر، من موت محقق إثر استهداف الطائرات الإسرائيلية لمنزل العائلة المكون من خمس طوابق في بلدة بيت لاهيا والذي أسفر عنه مقتل 150 فرد من عائلتها فأبت إلا أن توثق تلك الحادثة من خلال كتابها الذي يحمل عنوان "في غزة نجا من مات ومات من نجا" مضيفة لتلك القصة تفاصيل مختلفة عن حياة النساء خلال الإبادة.

 

نجاة من الموت غير مكتملة

أوضحت الكاتبة آية أبو نصر، بأن موهبة الكتابة ظهرت لديها في مرحلة المراهقة عندما عاشت الفقد لأول مرة برحيل والدها ولجأت إلى الكلمات للتعبير عما يلج في صدرها، ثم سعت إلى تنمية تلك الموهبة من خلال دورات في الكتابة ومطالعة عشرات الكتب إلى أن استطاع كتابها اليوم رؤية النور.

لقد كان الفقد الدافع الذي أعادها للمرة الثانية إلى ضفة الكتابة لتجد فيها الأمان "ليس من السهل أن تفقدي 150 فرداً من عائلتك دفعة واحدة، ما بين أخ وأخت وعم وخالة وأبنائهم الصغار. ربما حتى اليوم لا أستطيع تقبل تلك الفكرة"، مشيرةً إلى أنهم طوال فترة الحرب اتفقوا كعائلة على البقاء في منزل واحد، كي يرحلوا جميعهم معاً إذا حدث لهم مكروه، فنالوا بذلك ما رجوا.

 

الصدفة قد تمنحك حياة جديدة

وعن نجاتها من الموت، تقول إن الصدفة لعبت دوراً كبيراً في ذلك، قبل ساعات من قصف الطائرات الإسرائيلية للمنزل، جاءهم اتصال يُنبئ بمقتل ابن شقيقتها الكبرى، فتوجهت هي ووالدتها لتقديم واجب العزاء ومشاطرة الأخت. أما البقية فكانوا يستعدون لأداء ذلك الدور الروتيني في حرب الإبادة، الذي يقمون به في كل يوم، لكن الصاروخ كان أسرع منهم فأرقدهم في مكانهم، وبقيت هي ووالدتها وشقيقتها يكابدن آلام الفقد والفراق لكل من رحل.

الفقد، الاشتياق، الحنين للماضي وللأهل، الخوف، التجويع، المرض، جميعها مشاعر دفعتها في البداية لتدوين يومياتها، وكذلك يوميات عشرات النساء اللواتي تكابدن النزوح والقتل، ويعيشن أصوات الموت والقذائف من كل جانب، للتخفيف من وطأة ليالي الإبادة الجماعية التي لا تنهي، ولعل العالم يدرك حجم الظلم والقهر الذي يقع عليهن، قائلة إن "الحكايات التي لا تكتب تنسى، فقررت أن تكون هي وعاء يحفظ كل ما عاشته وما سمعت عنه أيضاً".

 

طالما أن النساء يتحدثن لن تنتهي الحكاية

وأضافت آية أبو نصر، أنها كانت تعتمد على المقابلات والرواية الشفهية لسماع القصص من النساء والفتيات ومن ثم كتابتها وتوثيقها بالتاريخ والزمان والمكان لتعطي القصة حقها من المصداقية، ذاكرة أنها في يوم كانت على موعد مع توثيق تفاصيل العرس الفلسطيني خلال الإبادة، لكن العروس اتصلت بها ولغت الموعد والسبب العريس قتل في أحد الغارات الإسرائيلية ولم يعد هناك حفل أو مراسم للكتابة عنها.

وأشارت إلى أن لكل امرأة فلسطينية قصتها المنفردة وألمها الذي عايشته وحدها، فالفقد لم يكن مقتصراً على الأرواح فقط، بل شمل الحجر الذي أفنين عمرهن في بنائه، لينهار في ثانية، والشجر الذي زرعن بأيديهن وكن معتادات على الأكل من خيراته كل عام، وربما ما زلن يتنظرن حتى الآن قطف أولى ثماره، لذلك كان من المهم تضمين جميع تلك التفاصيل وأكثر، التي لن تدركها سوى امرأة كادت أن تكافح للحصول على حياة كريمة.

 

كتاب واحد لا يكفي

وأكدت أن كتاب واحد لا يكفي لجمع مئات القصص لنساء فلسطينيات سمعت منهن وقابلتهن، ولا يتسع لبشاعة وهول تفاصيل الجرائم المرتكبة بحقهن، ففي مرة التقت بامرأة وهي تحاول استخراج شهادة وفاة شقيقها ولفت انتباهها بعض ما روته فسألتها عن التفاصيل لتجيب "لقد فقدت في كل مدينة أحد أبنائي فواحدة من تلك الجثث في جباليا، والأخرى ببيت لاهيا، وثالثة في مدينة غزة، بينما جثة زوجي في الجنوب والآن أحاول اثبات ذلك واستخراج شهادة الوفاة لأربعتهم".

كان الألم غالب على تفاصيل تلك القصص التي ترويها النساء، لكنهن كن يحاولن وسط لحظات الزواج أو قدوم طفل جديد سرقة ضحكة أو فرحة، لتكون القوة التي تعينهن على مواصلة تلك الحياة المليئة بالعقبات، كونهن مجبرات على المواصلة ولا يمتلكن رفاهية الانهيار التي قد تفقدهم المتبقي من عائلتهن، فالمرأة هي عمود الخيمة التي نزحت وعاشت بها لأكثر من عامين.

 

الكتابة دون قلم وورقة

وعن الصعوبات التي واجهتها آية أبو نصر خلال إصدار كتابها، عدم امتلاكها قلم أو رقة خلال الإبادة فمع التجويع من سيحمل قلم أو يقوى على ممارسة أي نشاط فكري، لذلك كانت تدون على هاتفها الذكي الذي سرعان ما ينفذ شحنه حتى قبل أن تنهي النص المزمع ولادته فتستمر بترديد الفكرة حتى تكتبها في اليوم التالي، كون الشحن على الطاقة الشمسية ولا نقاط للتزويد بالخدمة قبيل غياب الشمس.

كتبت آية أبو نصر على هوامش الكتب، كراتين المساعدات مستخدمة أي أداة غير القلم ممكن أن تترك أثر للفكرة فقط، فكانت الكتابة متقطعة وصعبة، مستغرقة وقت طويل أيام طوال وربما شهر، لافتة إلى أن دار النشر وجدتها من خلال الاستعانة بصديقة وقد فرحت عندما لاقى كتابها القبول خاصة أنه نشر لأول مرة مع خبر وقف إطلاق النار فكانت الفرحة مضاعفة ومازالت العزيمة قوية لإنتاج جزء آخر.