"حجر الرحى" ذاكرة شعبية تواجه النسيان
حجر الرحى، أداة تقليدية استُخدمت لعقود في طحن الحبوب وتحضير القوت اليومي، واليوم لم تعد الرحى مجرد وسيلة إنتاج منزلي، بل تحوّلت إلى رمز حي للهوية الثقافية وذاكرة جمعية تتناقلها الأجيال.
					زينب خليف
دير الزور ـ تحولات معيشية اجتاحت الريف السوري، إلا أن حجر الرحى ظل حاضراً في حياة الكثير من العائلات في مقاطعة دير الزور بإقليم شمال وشرق سوريا، وخاصة في القرى والبلدات الشرقية.
تؤدي النساء دوراً بارزاً في صون حجر الرحى من الاندثار، ليس فقط من خلال الاحتفاظ به، بل عبر استخدامه بشكل مستمر.
وتقول الخمسينية عمشة العبد من ريف دير الزور الشرقي أن حجر الرحى مكوَّن من حجرين دائريين يدور أحدهما فوق الآخر "كان في الماضي جزءاً لا يتجزأ من كل بيت ريفي، ومع تطور الأدوات الحديثة، تراجعت أهميته في بعض المناطق، لكنه بقي حاضراً في دير الزور بفضل إصرار النساء على حفظ هذا الموروث، باعتباره أكثر من أداة عمل، بل مدرسة في الصبر والعمل والذوق"، كما تصفه العديد من النساء.
والرحى من الأدوات التراثية المهمة "استخدمناها لطحن كل أنواع الحبوب، وما زلت أحتفظ بها لأنها تمثل جزءاً من ذاكرتنا وهويتنا. كنا نجتمع يومياً، كل اثنتين منا تتقابلان على حجر الرحى، والثالثة تغربل الطحين، ونواصل الطحن حتى نحصل على دقيق ناعم".
أداة عمل ومركز للتفاعل الاجتماعي
ولم تكن الرحى مجرد وسيلة للإنتاج الغذائي، بل كانت أيضاً مركزاً للتفاعل الاجتماعي بين نساء الحي حيث كن يجتمعن حولها في جلسات عمل مشتركة، يتبادلن الأحاديث، ويغنين الأهازيج والموشحات الشعبية لتخفيف عناء الطحن "رغم أن العمل على الرحى متعب، إلا أنه كان ممتعاً وله نكهته الخاصة. الخبز كان له طعمه المختلف، وكانت الرحى جزءاً من يومنا وروحنا. كنا نعمل ونتحدث ونضحك ونغني. كانت لحظات بسيطة لكنها مليئة بالحياة".
ويُصنع حجر الرحى عادة من الحجر الأسود القاسي، ويُجهّز يدوياً بعناية فائقة، يحتوي على فتحة في المنتصف لإدخال الحبوب، وقطعة خشبية تُعرف بـ "جبّ الرحى" لتثبيت الدوران، بالإضافة إلى مقبض علوي لتحريكه يدوياً.
ورغم تراجع صناعته، لا يزال بعض الحرفيين في القرى السورية يصنعونه حسب الطلب، لتلبية رغبة العائلات في الاحتفاظ به، إما لاستخدامه أو لعرضه كجزء من موروث منزلي أصيل.
تراث لا تسرقه الحداثة
رغم انتشار المطاحن الحديثة والمخابز الصناعية، لا تزال الرحى حاضرة في بيوت كثيرة في دير الزور، فهي ليست مجرد قطعة تراثية للعرض، بل أداة تُستخدم في المناسبات، وتُعرض في الفعاليات الثقافية، وتُعلَّم ضمن مبادرات محلية تهدف إلى توثيق التراث غير المادي.
تقول عمشة العبد "ورثناها من الجدات، ونورّثها للأحفاد. هذا تراثنا، ويجب أن نحافظ عليه. الرحى تطحن كل شيء الشعير، العدس، السمسم، وحتى الخبز إذا تعفن. الطعام الطبيعي أحسن، ونتعلم كيف نعمل بيدينا ونبدع".
تفاصيل بسيطة وهوية عظيمة
تمثل الرحى نموذجاً حقيقياً لكيفية مقاومة النسيان من خلال تفاصيل الحياة اليومية، وفي وجه الحداثة المتسارعة، تبرز كرمز لصمود الذاكرة، وكحجر أساس يحفظ ما تبقى من ملامح التراث الشعبي السوري، بفضل نساء ما زلن يحملن هذه المسؤولية بكل حب ووعي.
ما زالت نساء دير الزور يُدِرن هذا الحجر بثبات، وكأنهن يُدرن الزمن إلى الوراء، ليحفظن للأحفاد قصة وطن تُروى بيدين مغبرتين، لكنهما مملوءتان بالحياة. فبين كل دورة من الرحى، تُطحن الحبوب… وتُصان الهوية.