ميار أبو العوف... إبداع من رحم الحرب وحلم مؤجل على مقاعد الجامعة
تُجبر الحرب فتيات غزة على التخلي عن أحلامهن التعليمية مؤقتاً، والبحث عن سبل بديلة للبقاء وسط الدمار والنزوح.

نغم كراجة
غزة ـ في زمنٍ تتكاثف فيه الخسارات على تفاصيل الحياة اليومية، تبدو قصة ميار أبو العوف (19 عاماً) مرآة صافية لطبقات من التصدع الذي أصاب تعليم الفتيات في غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين تحولت القاعات الدراسية إلى أطلال، وتبددت الخطط الأكاديمية تحت ضغط النزوح والفقر وفقدان المأوى.
ما إن وجدت نفسها مضطرة للتخلي عن دراستها الجامعية حتى بحثت عن نافذة رزق تصون بها أسرتها، فحولت رُكناً متفحّم الجدران في منزل متضرر إلى ورشة للأعمال اليدوية، وقد اتخذت من الصبر خيطاً ومن الأمل إبرةً لتضمد شروخ الأيام.
نزحت ميار أبو العوف مع عائلتها من مدينة غزة إلى الجنوب في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، تاركةً وراءها بيتاً ومستقبلاً بتفاصيله الصغيرة التي خطتها على مقاعد الجامعة الافتراضية خلال فصلين دراسيين حققت فيهما المرتبة الأولى على دفعتها، الطريق إلى الجنوب لم يكن نجاةً بل كان استبدالاً لوضع قاسٍ نظراً لشح المياه والغذاء، عوزٌ في الدواء، ازدحامٌ في مراكز الإيواء، وانعدامٌ للخصوصية.
حاولت أن تواصل التعليم عن بُعد لكن انقطاع الشبكات، وحظر الحركة، وضيق الحال، جعلت من الفكرة مجرد حلم معلق، تقول "لم يكن الانسحاب من مقاعد العلم قراراً طوعياً بل اضطراراً فرضته ظروف أقسى من قدرة فتاة في الواحد والعشرين على الاحتمال، ومع ذلك كنت أقول لنفسي كل صباح إذا سُدّت الأبواب، يمكن أن نصنع نافذةً بأيدينا".
مع نهاية كانون الثاني/يناير 2025 عاد أفراد الأسرة إلى المدينة، فوجدوا المنزل ركاماً وباباً يفتح على خواءٍ موحش، بحثوا عن بديل ولو مؤقتاً فاستأجروا مكاناً متضرراً بعض غرفه محترق من القصف. هناك قررت ميار أبو العوف أن تبدأ من جديد عبر مشروعٍ صغير في ركنٍ داخل البيت: أساور، عقود، حُليّ من الخيوط والخرز، وأغطيةٌ يدوية الصنع تسوقها عبر صفحاتها الشخصية تحت شعار "إبداع من رحم الحرب".
وأضافت "لم أذهب إلى هذا المسار لأنني تخليت عن طموحي الجامعي، بل لأن الحياة اليومية تريدنا أن نؤمن الخبز أولاً ثم نفكر في الكتب، أرباحي محدودة لكنها تكفينا لنستمر، وتمنحني إحساساً بأنني فاعلة تحاول أن توازن ما أمكن بين المسؤوليات والآمال".
قصة ميار أبو العوف ليست استثناءً في قطاع تمزق نسيجه التعليمي، حيث أظهرت تقارير أممية حديثة حجم الدمار الذي طال البنية التحتية للمدارس والجامعات، الأمم المتحدة نقلت هذا الأسبوع أن 97% من المنشآت التعليمية في غزة تضررت وتحتاج إلى إعادة تأهيل أو إعادة بناء، وهي نسبةٌ شبه كلية تُفسر الانقطاع الواسع للتعليم وانهيار البيئة الآمنة للتعلم، كما وثقت اليونسكو والجهات الشريكة تعرض مئات المدارس لأضرار جسيمة، وتحقق مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة من تضرر عشرات الجامعات بينما ذكر تقرير أممي أن التدمير أو التلف طال منشآتٍ عليا مؤثرة، ما انعكس مباشرة على عشرات الآلاف من الطلبة الجامعيين.
هذه الأرقام تُحيل مأساة الأفراد إلى صورةٍ كلية تُبيّن أن خسارة الفتيات والفتيان في العمر الجامعي ليست فرديةً ولا طارئة بل نتيجة مسارٍ عنيفٍ طال المؤسسة التعليمية بأكملها.
في موازاة ذلك، يدفع الاقتصاد المتهالك مزيداً من الشابات إلى سوق هش، كثيرٌ منه غير منظم، تقديرات أممية ومؤسسات دولية تُشير إلى مستويات بطالة غير مسبوقة في غزة مع نسب كارثية بين الشباب تقارب ثمانية من كل عشرة، أمام هذا الواقع تتحول المبادرات المنزلية الصغيرة كالأعمال اليدوية والخياطة وإعادة التدوير إلى طوق نجاة اجتماعي يساعد الأسر على البقاء في ظل غياب مصادر دخل ثابتة، ويمنح الفتيات هامشاً من الاستقلالية ضمن محيط خانق.
وترى ميار أبو العوف أن هذه المشاريع "ليست بديلاً عن الجامعة لكنها جسرٌ مؤقت يعصم الروح من الانكسار، ويعيد تعريف القوة كقدرة على الاستمرار لا على الادعاء".
قانونياً، الحق في التعليم حق أصيل لا يسقط زمن النزاعات، فالإطار الدولي لحقوق الإنسان ومن ضمنه العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يُلزم السلطات بحماية إمكانية التعلم وضمان الوصول إليه دون تمييز، حتى خلال الطوارئ، وفي القانون الدولي الإنساني تُعدّ المنشآت التعليمية أعياناً مدنية ينبغي صونها من الاستهداف، ويُحظر تحويل المدارس والجامعات إلى مواقع عسكرية.
إدماج هذه المرجعيات في أي مسار للمساءلة ضرورة لحماية حقّ الطالبات، ولإعادة بناء الثقة في أن الجامعة ليست حلماً مؤجّلاً إلى أجل غير مسمى.
تستعيد ميار أبو العوف تفاصيل الأيام الأولى في ركنها الصغير داخل البيت المحترق "كنتُ أبدأ نهاري بجمع ما تبقّى من خيوطٍ وخرز، أرتّب الأدوات على طاولة خشبية نجت من النيران ثم أعمل لساعاتٍ طويلة وأنا أستمع إلى ضجيج الطائرات، كل قطعة أنهيها كانت تشبه لفتة حياة، كأنني أزرع زهرة ملونة في أرض أُنهكت بالقصف، كنتُ أقول لنفسي إن لم نستطع أن نطفئ الحريق في الخارج، فلنطفئ ما يلتهمنا في الداخل بإصرار صغير يتكرر كل يوم".
كان التسويق على مواقع التواصل الافتراضي صعباً بسبب انقطاع الشبكات وتذبذب الكهرباء، لكنها تمكنت من الظهور عبر صور بسيطة توضح المنتج وتروي حكايته.
ومع أن قصة ميار أبو العوف مغموسة في الخسارات، فإنها لا تخفي شغفها بالعودة إلى الجامعة فور توفر شروطٍ ممكنة "أريد أن أستكمل مساري الأكاديمي حتى النهاية، لا أقبل بنصفِ حلم، ولن أرضى بتعريف مبتور لطموحي، حين أستعيد مقعدي، سأحمل معي هذا الاختبار القاسي كخبرة تمنحني رشداً مبكراً وفهماً أعمق لمعنى المسؤولية".
في سياق أوسع، تُظهر شهادات الطالبات في غزة أن الانقطاع القسري عن التعليم لم يكن مجرد فراغٍ في السيرة الأكاديمية بل فجوةٌ نفسية واجتماعية واقتصادية، انعدام الاستقرار يحرم الشابات من شبكات الدعم التي توفرها الجامعة، ويؤجل تكوين المهارات، ويزيد الاعتماد على دخلٍ هش، لذلك تبدو برامج المنح البديلة، والدعم النفسي، والتحويلات النقدية الطارئة، وتوفير منصات تعلم مرنة قليلة الاستهلاك للبيانات، خطوات عملية يجب أن تتبناها المؤسسات الدولية والجامعات الشريكة، بالتوازي مع واجب قانوني وأخلاقي لحماية الحرم الجامعي وإعادة تأهيله كأولوية إنسانية لا ترفاً تنموياً.
تُلخص ميار أبو العوف رسالتها للفتيات اللواتي وجدن أنفسهن في المسار ذاته "رسالتي إلى كل من تجبر على التعليق المؤقت لحلمها لا تُسلمي نفسك لفكرة النهاية، فالفواصل لا تعني إسدال الستار، ابحثي عن مساحةٍ صغيرة تُقيمين فيها مشروعاً يليق بكرامتكِ، تعلمي ما تيسر من مهارات تتاح في الظروف الصعبة، واصنعي من اليوم خطوةً أولى نحو الغد، لا تخجلي من البدايات المتواضعة، المهم أن تمسكي بخيطك ولا تتركيه ينقطع".