"مي وملح" آخر طرق نساء غزة في معركتهن مع التجويع
وسط المجاعة والحصار، تخوض نساء غزة يومياً معركة حياة حيث يصبح "المي والملح" رمزاً لصمود بطولي في مواجهة الجوع والتجاهل العالمي، فهن لا ينتظرن فقط الطعام، بل يواجهن أنظمة تهميش قاسية، وسط ألم لا يُكسر فيه الكبرياء.

رفيف اسليم
غزة ـ كأس من الماء ومعلقة من الملح هكذا تتدبر نساء قطاع غزة أمر التجويع الذي تمارسه عليهن وعلى أطفالهن القوات الإسرائيلية، مطلقة بذات الوقت مجموعة من التصريحات والبيانات التي قد توهم المتابع العربي والدولي بانتهاء أمر المجاعة بالأمس في المدينة المحاصرة، لكن الواقع مغاير تماماً فحتى الدقيق لم يتوافر بسعر معقول حتى اللحظة.
حاولت وكالتنا التأكد من الأمر فخرجت للشوارع والمخيمات وقابلت بعض النساء اللواتي أكدن على عدم انخفاض أسعار المواد التموينية حتى، واستمرار الجوع الذي يفتك بالأمعاء الخاوية التي اشتد الخناق عليها، في ظل واقع وردي ترسمه وسائل الإعلام الإسرائيلية.
بين مطرقة "الاحتلال" وسنديان التجار
أفادت ديانا صيام، أن المجاعة في قطاع غزة مستمرة منذ ثمانية أشهر والتي تتفاوت حدتها من وقت لآخر مع تضارب أخبار الهدنة، فعندما تكون إيجابية تنخفض الأسعار، وعندما تنهار المفاوضات ينهار الشعب الفلسطيني من الجوع كونه وقع بين مطرقة الاحتلال وسنديان التجار اليد الأخرى له في شد الخناق وتجويع النساء والأطفال على وجه الخصوص.
لا تنكر أنها بالأمس غفت وهي تشعر بالشبع ليس لأنها تناولت وجبة العشاء، بل لأنها قرأت الأخبار التي تداولتها المواقع الإخبارية المحلية والدولية عن قافلات المساعدات التي ستدخل القطاع، فكانت على أمل أن تستيقظ وتشتري لأطفالها الدقيق فقط لتعجنه وتشبع تلك البطون، لكن ما حدث كان العكس تماماً فقط ثبت تسعيرة الكيلو الواحد من الطحين 30 دولار.
ولم تجد أي نوع من الخضروات أو الفاكهة، أو بعض أنواع اللحوم المعلبة أو الجبن المملح في الأسواق وهي مواد اعتادت الفلسطينية توافرها عند دخول قوافل المساعدات، لافتة إلى أن ذلك ولد لديها ضغط نفسي كونها لم تستطيع توفير الطعام لبناتها اللواتي في فترة المراهقة حالياً ويحتجن لبناء أجسادهن الهزيلة، عدا عن شعورها بالهزل والصداع المستمر وجع بالقدمين والمفاصل الذي لا يفارقوها منذ بدء المجاعة.
تصوم ديانا صيام 18 ساعة متواصلة وفي بعض الأحيان تتجاوز 24 ساعة وتبقى طوال اليوم فقط على شرب المياه أو الماء بالملح كي تمنع المعدة من التعفن والمحافظة على الضغط في جسدها سليماً كما أخبرتنا، فلا بيض ولا خضروات ولا سكر، ولا لحوم، لا شيء سوى العدس، الذي يعتبر باهظ الثمن أيضاً بالنسبة لثمنه في الأيام العادية.
وأضافت أن المعدة أصبحت ترفض تناول الطعام ذاته على مدار ثمانية أشهر، فالعدس بات يسبب لها ولعائلتها مشاكل صحية كالإمساك ووجع المعدة وغيرها من الأمراض التي لربما ستتضح في حال فتحت المشافي أبوابها لإجراء التحليل الطبي الشامل، مشيرة إلى أنها لا تعتقد أن تلك الأمراض التي خلقتها المجاعة في الجسم سوف تشفى فيما إذا دخل الطعام، فتلك الكارثة الإنسانية ستبقى أجساد نساء غزة تذكرهن بها.
وتروي، أنه كثيراً ما أصبحت تتكرر حالات الإغماء، فابنتها الكبرى بالأمس أغمى عليها وهي تمشي متيقنة من السبب إنه الجوع الذي لم يعد جسدها النحيل باستطاعته مقاومته بعد اليوم، وكذلك الحال مع زوجها الذي كان يصطف في طابور المياه وأغمى عليه، فنادوها كي تسعفه بكاس به ماء وبعض الملح.
المرأة في غزة قوية رغم كل المعارك
تحدث ديانا صيام نفسها كل يوم "هل هذا حلم؟"، تفكر بالشروع في البكاء لكنها تخشي فتح موجة بكاء عارمة تشارك بها كافة نساء المخيم الجائعات والمكلومات، فتعود وتشجع نفسها لتبقى قوية في معركتها من الجوع، فهي على الأقل ليست حامل يذوب جسدها كون الجنين يغذى على عظامها وأسنانها، وليست مرضعة يبكي طفلها طوال الليل وتنهار الشتائم عليها ببعض الأحيان لأن من حولها يريدون النوم لتفادي ليل غزة الطويل والمرعب.
وتشتكي من بعض الجمعيات التي تقدم مكمل غذائي للمرضعات والأطفال عن طريق قياس محيط الذراع، لكن الأزمة تكمن عندما يقوموا بقياس محيط الذراع ويبقى نصف بالمائة كي تسجل ضمن حالات سوء للتغذية، متسائلة "هل يجب على الأم أو الطفل التحول لهياكل عظمية حتى يحصلن على كيس مكمل غذائي ليس له أي قيمة، أم عليهن الإجهاض أو الموت للحاق بهن؟"
حرب تجويع تمارس ومنظومة أخلاقية تنهار
وتشدد ديانا صيام على أن الأمر تعدى حدود الإبادة الجماعية، فهناك حرب تجويع تمارس ومنظومة أخلاقية تنهار عندما يذهب الشاب ويقتل ليأخذ كيس دقيق، لافتة إلى أن المرأة التي تسقط بالطريق من سوء التغذية لا مكان لها بالمشفى كونهم يعتبرون حالتها رفاهية، ففقدان الوزن وانخفاض الضغط ليس من أولويات المشافي التي تستقبل مبتوري الأطفال والحالات الخطرة التي تخرج من تحت الركام أو مصابين الطائرات المسيرة.
وتأمل أن تؤمن تلك المساعدات التي ستدخل لقطاع غزة في الأيام المقبلة، كون ما يسمى بالتوزيع الذاتي هو هندسة جديدة للمجاعة فلا أحد سيأكل إذا لم تتولى منظمة الأغذية العالمية توزيعها باستخدام قاعدة البيانات المتوافرة لديهم.