"كأن الأرض ابتلعتنا" شابة تروي مشهد الموت في مجزرة حيّ الدرج
تروي خولة حمدان تفاصيل ليلة تحوّلت فيها المدرسة التي احتمت بها إلى كتلة من النار، وأحالت أجساد النازحين إلى رماد.

نغم كراجة
غزة ـ لم تكن خولة حمدان، الشابة الفلسطينية ذات السبعة عشر ربيعاً، تتوقع أن تكون ليلة السادس والعشرين من أيار/مايو الجاري، آخر ما تراه عيناها من عالمٍ اعتاد الفقد، قبل أن تغمرها النيران من كل صوب، وتحول مأواها المؤقت إلى موقد موت جماعي.
في تمام الساعة العاشرة مساءً يوم الـ 26 أيار/مايو، أوت خولة حمدان إلى غرفة في الطابق الأرضي من مدرسة "فهمي الجرجاوي" الواقعة وسط حيّ الدرج بمدينة غزة، تلك المدرسة التي تحوّلت منذ أشهر إلى مركز إيواء مكتظ بمئات النازحين، كانت الغرفة تؤوي أكثر من عشرين فرداً من عائلتها، جلّهم من النساء والأطفال، لم تكن خيماً، ولا أرضاً مفتوحة، بل أربعة جدران وسقفٌ متآكل، كانوا يرونه آنذاك ملاذاً نسبياً من القصف والموت العشوائي.
لكن عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، دوّى انفجار هائل في محيط المدرسة، أعقبه دويّ ثانٍ وثالث، فاهتزت الجدران وتصدّعت الأرض، وانهمر الغبار والدخان والنار في اللحظة ذاتها. تصف خولة تلك اللحظة بقولها "كنت نائمة ولكنّ صوت الانفجار الأول أيقظني كصفعة، بدا لي وكأنّ باطن الأرض انشقّ فجأة، واندفع غضبه نحو الأعلى، لم أكن أدرك حينها ما الذي وقع، فتحت عينيّ على عتمة يلفّها اللهب، وصوت جدران تنهار، وصراخ مرعب يملأ المكان".
تقول إنها وجدت نفسها محاصرة داخل الغرفة التي اشتعل نصفها في لحظات، فيما تراكم الركام في النصف الآخر، لم يكن بالإمكان الخروج، إذ إن الباب الخشبي قد ذاب تحت تأثير الحرارة، أما الباب الحديدي فقد التصق بإطار الجدار، ولم يعد قابلاً للفتح "بدأت أصرخ بأعلى صوتي: ما الذي جرى؟! ما الذي يحدث؟ كنت أسمع صراخ إخوتي وأبناء عمومتي، وكان المشهد يتجاوز كل خيال، النيران التهمت أطراف الغرفة، والدخان الأسود يخنق أنفاسي، والغبار يطمس ملامح الوجوه من حولي".
تحاول خولة حمدان أن تستجمع تفاصيل اللحظة، لكن التتابع السريع للأحداث يجعل ذاكرتها مثقلة بمزيج من الصور المتقطعة "كل شيء انهار بسرعة، الركام سقط فوق من كانوا نائمين إلى جواري، رأيت ألسنة اللهب تقفز بين الفرشات والبطانيات، وتعلو حتى السقف، وشاهدت إحدى بنات عمّي وهي تحاول سحب ابنها الصغير، لكن النار كانت أسرع".
وأضافت "الغرفة كانت مصيدة موت، لا نوافذ ولا منفذ للنجاة، ولولا أن مجموعة من الشبّان من خارج المدرسة سمعوا الصرخات، وجاءوا يركضون، لما خرج أحدٌ منا حياً، لقد قاموا بتحطيم أحد جدران الغرفة بالحجارة وأيديهم العارية، وفتحوا فجوة صغيرة بدأوا يسحبون منها المصابين، واحداً تلو الآخر، كنت أسمعهم يصرخون: أسرعوا! النار ستبتلع الجميع".
ورغم الحروق التي أصابتها، لم تخرج خولة حمدان من الغرفة بحثاً عن العلاج بل بقيت في الداخل تبحث عن والدتها وأفراد أسرتها "كنت أنظر في الوجوه المحترقة ولا أميّز أحداً، أمي كانت تصرخ، إصابتها خطيرة، ووجهها عليه كدمات وجروح، وأحد إخوتي كان ممدداً لا يتحرّك، وآخر يحاول جرّ ابن أخي الذي اشتعل جسده أمامي ولم ينجُ، رأيت الطفل وهو يحترق حيّاً، كان يصرخ ويمدّ يديه، ولم يكن بوسع أحد إنقاذه".
عندما وصل طاقم الإسعاف، كان الوقت قد تأخر، والكثير من المصابين قد فارقوا الحياة، نُقلت خولة حمدان إلى مستشفى "المعمداني" في مدينة غزة، وهناك فقط أدركت حجم إصابتها "أخبروني أن الحروق طالت يدي اليمنى وجزءً من وجهي من الدرجة الثانية، وربما تحتاج إلى تدخلات لاحقة لكن الألم الجسدي لا يُقارن بما رأيته وسمعته، أصوات أولئك الذين احترقوا لا تغادر رأسي، أسمعهم حتى وأنا أحاول النوم".
وتروي أن النيران لم تقتصر على غرف المدرسة بل امتدت خارج أسوارها، والتهمت خيام النازحين المنصوبة بجوار المبنى، فاشتعلت الواحدة تلو الأخرى كأنها هشيم يابِس "حتى الذين كانوا خارج المدرسة من النازحين الذين افترشوا الأرض ونصبوا خياماً في الساحة المجاورة، لم ينجوا من ألسنة اللهب، سمعت صراخهم يتصاعد، ثم ما لبث أن خمد فجأة، كانت النار قد وصلت إليهم وأحرقت الخيام ومن فيها، رأيت أجساداً تذوب كما تذوب الشموع، ولم يكن أحد قادراً على الاقتراب أو النجدة".
ما زاد من وقع الفاجعة في نفس خولة حمدان هو صدمة فقدان أربعة من أفراد أسرتها دفعة واحدة، واحتراق أجساد البقية بإصابات بالغة، أغلبهم من النساء والأطفال، تقول "أربع جنازات خرجت من الغرفة نفسها، كانوا معي قبل دقائق فقط، نتحدث، نتقاسم الخبز اليابس، وننتظر صباحاً جديداً لا يحمل قصفاً، لم أتخيّل أن صباح السادس والعشرين من أيار سيبدأ بسحب الجثث المتفحمة من بين الركام".
ورغم هول الفاجعة، لم تغادر خولة حمدان محيط مدرسة "فهمي الجرجاوي"، إذ لم يبقَ لها مأوى آخر تلجأ إليه، فكل ما تملكه احترق في الغرفة الثياب، الأغطية، حتى وثائق العائلة. وجدت نفسها في العراء، بلا متاع ولا مكان يؤويها، فاضطرت إلى نصب خيمة صغيرة وسط ساحة المدرسة، وأوضحت "أنا لم أبقَ هنا لأنني أريد بل لأنه لم يعد لديّ خيار، خسرنا كل شيء، لم تبقَ لدينا ثياب نرتديها، ولا فراش نحتمي به، والديّ مصابين، إخوتي بين مصاب ومفقود، ولا جهة عرضت علينا مكاناً بديلاً".