في خندق المعاناة والألم... نساء غزة تصنعن الأمل

تواجه المرأة الفلسطينية في غزة أقسى التحديات على رأسها الموت والخوف لإنقاذ أسرتها وأداء واجباتها الإنسانية وسط حرب مستمرة واجتياحات إسرائيلية مفاجئة تخلف وراءها الدمار والمآسي.

نغم كراجة

غزة ـ تسير الحياة في غزة تحت وطأة الحصار والقصف المتواصل، حيث شهد حي الشجاعية اجتياحاً برياً مفاجئاً من قبل القوات الإسرائيلية ولم يسبقه أي تحذير للسكان، تحولت الشوارع إلى ساحات معارك، هرب السكان تاركين بيوتهم ومقتنياتهم، كان هدفهم الوحيد النجاة بأرواحهم وسط مشاهد الدمار والجثث المنتشرة.

في حي الشجاعية، على أطراف غزة، كانت الحياة تسير كما اعتادت منذ زمن بعيد تحت وطأة الحصار والقصف المتكرر، لكن ليلة من أواخر شهر حزيران/يونيو الماضي، تغيرت فيها كل نمطية الحرب المعتادة حين اجتاحت القوات الإسرائيلية الحي بشكل مفاجئ، دون أي سابق إنذار، حيث بدأت الجرافات والدبابات بهدم كل ما في طريقها، مصحوبة بقصف مدفعي وجوي عنيف في دقائق معدودة، تحولت شوارع الحي إلى ساحات معارك واندفعت عائلات بأكملها يركضون نحو المجهول تاركين خلفهم كل ما يملكون لم يكن لديهم الفرصة حتى بالتفكير في مصير ما تركوه خلفهم، كان النجاة من هذه المجزرة الهدف الوحيد لكل من بقي على قيد الحياة.

آية العجلة، ممرضة تقطن في حي الشجاعية وجدت نفسها في خضم هذه الفوضى، حين سمعت عن اجتياح الحي كانت تعمل في نقطة طبية أقيمت داخل إحدى المدارس التي تحولت إلى ملاذ مؤقت لجرحى القصف المتواصل، وعلى الرغم من أن منزلها يبعد خطوات قليلة عن مكان تواجدها، إلا أنها لم تستطع ترك المصابين الذين كانت تعالجهم، حيث قالت آية العجلة "أصريت على إتمام واجبي الإنساني، متحدية الخوف، رغم أن أطفالي الثلاثة كانوا بمفردهم في المنزل، الذي أصبح مجاوراً لآليات القوات الإسرائيلية المتقدمة، أصوات القذائف والانفجارات تقترب، ومع دوي كل قذيفة كنت أشعر بالقلق ينهش قلبي كأم، لكن مهنتي وواجبي كانا أكبر من كل مخاوفي".

أثناء عملها في النقطة الطبية، كانت تحاول الاتصال بعائلتها، وعندما تمكنت أخيراً من التواصل معهم، أخبروها بأن المنطقة قد اجتاحتها القوات الإسرائيلية بالكامل، وأن الطريق إلى منزلها بات خطراً جداً، لذلك توسلت إليها عائلتها أن تبقى في مكانها على أمل أن تنسحب القوات بعد ساعات "شعور الأمومة كان أقوى من أي نصيحة أو تحذير، غلبني خوفي على أطفالي فقررت المغامرة والذهاب إليهم".

وأضافت أنها ارتدت زيها الطبي الملطخ بدماء المصابين، وسارت نحو بيتها في صورة أقرب إلى كابوس، وفي طريقها إلى المنزل شاهدت الدبابات الإسرائيلية وهي تجوب الشوارع لتملأها بالجثث والدمار، والخوف والقلق كان رفيق كل خطوة تخطوها لكنها واصلت المسير، ملتفة في الشوارع الفرعية في محاولة لتجنب قناصات القوات الإسرائيلية التي كانت تنتظر أي حركة في الشوارع الرئيسية لتقنصها، وكانت مدركةً أنها قد لا تصل إلى أطفالها، لكن لم يكن أمامها سوى الاستمرار في هذا الطريق الذي بدا وكأنه طريق النهاية؛ بحسب ما روته.

عندما اقتربت من منزلها، وجدت الحي قد تحول إلى أكوام من الركام، كأن زلزالاً ضربه، فلم يبقَ منه شيء سليم، تصاعدت سحب الدخان من بين الأنقاض، والأرض مبللة بالدماء، والدبابات متوقفة على مشارف الشوارع، كأنها تنتظر من تبقى لتقتله، ارتعش قلبها خوفاً عندما سمعت صوت قذيفة جديدة تنفجر في مكان قريب لكنها لم تتوقف، بل واصلت المسير بشجاعة، تسرع الخطى نحو البيت الذي كان يوماً ما مكاناً آمناً.

وأضافت "وصلت أخيراً إلى المنزل بيد مرتجفة دفعت الباب، لأجد أطفالي في ركن صغير مختبئين تحت طاولة خشبية قديمة، وعيونهم تترقب أي صوت أو حركة، كانت وجوههم شاحبة، والدموع قد جفت على وجوههم، لكنهم كانوا سالمين، وهذا كل ما كنت أتمنى، ضميتهم بقوة، شعرت لأول مرة منذ بداية الاجتياح ببعض الطمأنينة لكونهم سالمين".

لكن الوقت لم يكن للراحة أو لالتقاط بعض الانفاس، فما زال الخطر يحيط بهم من كل جانب "حملت أطفالي وخرجت بهم إلى الشوارع التي دمرت معالمها، وكنت أسير بخطى سريعة لا أفكر إلا في الوصول إلى مكان آمن، لم آخذ معي شيئاً من البيت لا طعام ولا ملابس فقط أرواح أطفالي كانت أثمن من أي شيء آخر، ومع ذلك شعرت بامتنان عميق لأنني استطعت إخراجهم بسلام".

عندما وصلت إلى أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة، كان المكان مكتظاً بالعائلات التي نزحت من مناطق أخرى، والوجوه التي تراها هناك تحمل نفس علامات الألم والخوف، وكل واحد منهم لديه قصة دمار تشبه قصتها، وأخبرت آية العجلة أطفالها أن كل شيء سيكون على ما يرام لكنها تعلم جيداً أن الحياة التي عرفوها قد انتهت، وأن العودة إلى ما كان عليه الحال سابقاً لن تكون سهلة، إن كانت ممكنة أصلاً.

وبعد أيام من الانتظار في مركز الإيواء، انسحبت القوات الإسرائيلية من الحي، وتمكنت من العودة إلى منزلها لتفقده، كان المشهد أكثر مما يمكن تحمله أو تخيله، بيتها قد دُمر بالكامل، لم يبقَ منه سوى جدران متفحمة وأنقاض متناثرة، وكل ما صنعته خلال سنوات طويلة من العمل والكفاح قد تحول إلى رماد، فقدت كل شيء حتى الذكريات التي كانت تحتفظ بها لأطفالها لم تعد هناك أي فرصة للعودة إلى الحياة التي كانت؛ روت آية العجلة ذلك بأسى وحزن شديدين.

في هذه اللحظة، أدركت أنه بات عليها أن ترضى بما حصل، فليس باليد حيلة، الحرب قد سلبتها كل شيء لكنها لم تستطع أن تسلب منها عزيمتها وإرادتها على البقاء، كان الأمل بانتهاء الحرب كل ما تبقى لديها، وأن يعود كل شيء إلى طبيعته على الرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك، ومع مرور الأيام، أيقنت أن ما فقدته لا يمكن تعويضه بسهولة ولكنها لم تستسلم، وتستمد قوتها من أطفالها، وإيمانها بأن العدالة ستتحقق يوماً ما، وأنها ستبني حياتها من جديد مهما كانت الصعوبات.