فلسطينيات تعرضن حياتهن للخطر لرسم البسمة على وجوه أطفالهن

يعاني المدنيون في قطاع غزة من نقص حاد في المواد الغذائية والمساعدات الأساسية، وتعكس قصص مثل قصة جيهان عبد السلام ونسرين صيام معاناة النساء تحت الحصار، حيث أصبح البحث عن الطعام تحدياً يومياً يتطلب المخاطرة.

رفيف اسليم

غزة ـ بعد ثلاثة أشهر من الحصار المطبق على قطاع غزة، ومنع دخول أي نوع من المساعدات الإنسانية على رأسها الدقيق اضطرت النساء للمخاطرة بأنفسهن من أجل تأمين قوت يومهن وسد جوع أطفالهن.

قصة نسرين صيام وجيهان عبد السلام ليست مجرد سردٍ لمشقة، بل شهادة حية على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى أمل، والكفاح إلى نجاح.

 

زحف الألم والأمل

جيهان عبد السلام تقول إنه لا يوجد ما يأكله الصغار أو حتى نقود لشراء الاحتياجات الأساسية التي لا يمكن لأي أم الاستغناء عنها، مشيرةً إلى أنها تعيش مع خمسة من الصغار قرر والدهم تركهم والذهاب بعيداً ليعيش وحده ويتخلص من مسؤوليتهم.

ولفتت إلى أنه في السابق حين كانت تدخل المساعدات لقطاع غزة كان الوضع أفضل، فوكالة الأونروا صرفت في كل شهر مضى كيس دقيق طارئ لكل عائلة تدبر أمرها عبره، بينما اليوم تجلب كيلو دقيق لا يكفي وجبة واحدة، فتتحايل على الصغار منذ الصباح وحتى العصر، لكن بعد ذلك تصبح الأمور أصعب ولا تقوى أجسادهم النحيلة على الجوع.

تلك الظروف الصعبة أجبرتها على الذهاب لمنطقة المساعدات الأمريكية في رفح، بالمرة الأولى اصطفت مع الحضور وألقي عليهم قنابل وقذائف الدبابة وقد كان هناك عدد من الإصابات والقتلى، لكنها نجت بروحها فقط دون الحصول على الطعام وعادت في اليوم التالي لتصل مدينة رفح ليلاً.

وأضافت أنه في تلك الليلة اضطرت للمبيت في المكان، وفي تمام الساعة الخامسة فجراً سمحت القوات الإسرائيلية للمواطنين بالتحرك زحفاً على البطون متقدمين سطر سطر بانتظام، وخلال تلك الفترة كانت الطائرات والدبابات ترمي طلقات الرصاص لتتأكد أن لا أحد من الحاضرين يستطيع الوقوف.

وحينما وصلت النقطة بعد ساعات من الزحف على بطنها، أخذت القوات الإسرائيلية ترمي القنابل الفسفورية، حينها أغمى عليها كونها مصابة بمرض حساسية الصدر ولم تستفيق سوى بالنقطة الطبية، لكنها حين انتهت عادت للمكان ووجدته فارغ تماماً من المساعدات.

لكنها لم تفقد الأمل، لذلك عندما سمعت عن تواجد الشاحنات على دوار "النابلسي"، ذلك المكان الذي كانت ترتكب به القوات الإسرائيلية أبشع المجازر في شتاء عام 2024، لم تفكر بالأمر ذهبت إلى هناك لعلها تجد فقط ما تسد به جوع أطفالها، مطفأة خيبة الأمل التي تراها في عيونهم بكل مرة ترجع بها لهم بدون الطعام.

وتساءلت لماذا تستقبلهم القوات الإسرائيلية بكل هذا الرعب بداية من فوانيس الإنارة وحتى القنابل والقذائف؟، مشيرة إلى أنها منذ 5 أيام وهي تذهب في كل يوم للمنطقة ولن تكل عن ذلك حتى تحصل على كيس دقيق.

وعن الصعوبات، أوضحت أنه خلال الطريق ينتشر قطاع الطرق الذين يحاولون سلب القادمين أي شيء جلبوه، لافتة إلى أنها طوال مدة وجودها في المكان كانت تتوقع الاعتداء عليها بالسلاح الأبيض أو بأحد الأسلحة التي يمتلكونها، لكن لم يعد الخوف يتملك المرأة كونها أصبحت خلال الحرب كالرجل تنام على بطنها في البرد وتزحف لمسافات طويلة.

بينما عن قدرة المرأة على حمل الطرد، تقول جيهان عبد السلام، إن الجوع والفقر يدفع المرأة لحمل أثقال كي تطعم أطفالها فلا تنسى حين استطاعت نزع كيس دقيق كيف حملته على ظهرها وأوصلته من جنوب القطاع حتى شماله، كما أنها ما زالت تتذكر فرحة أطفالها لذلك لا شيء سيخيفها ستستمر في ذلك حتى تصل المساعدات الإنسانية لعائلات القطاع بكرامة كما كان يحدث قبل الهدنة.

 

 

تحول ركام الحرب إلى وسيلة للبقاء على قيد الحياة

جيهان عبد السلام ليست المرأة الوحيدة التي تخوض معارك يومية بصمت في غزة، فهناك قصص كثيرة لنساء تقفن بوجه الحرب من أجل حماية أبنائهن وتأمين احتياجاتهم، من بينهن نسرين صيام التي لا تمتلك سوى مطرقة وأحجار، لكنها تؤمن بها قوت أطفالها محوّلة العناء إلى مصدر للحياة.

يندهش المارة حينما يرون امرأة تجمع الحجارة من منتصف الطريق وتكسرها، فذلك الوزن الثقيل والملمس الخشن شاق، إلا أن نسرين صيام اعتادت الشقاء وأصبحت لا تأبه بتلك النظرات أو العبارات الفظة، فما يهمها هو إطعام أطفالها الجياع طبق طعام في نهاية اليوم.

تقوم نسرين صيام بجمع الحجارة وتكسيرها لتحصل في نهاية اليوم على ما يقارب 7 دولارات فقط، مبينة أن "هذا المبلغ الزهيد لا يكفي لشراء رغيفان خبز في غزة، لكني أبذل ما بوسعي فقط لإبقاء صغاري على قيد الحياة".

نزحت نسرين صيام من مدينة رفح سيراً على الأقدام تحت زخات الرصاص، موضحة أنه كان لزوجها عربة يستخدمها كوسيلة مواصلات في كل مرة تنزح بها، لكن القوات الإسرائيلية أطلقت نحوها قذيفة حولتها لرماد.

وتعتمد في تغذية أطفالها الأربعة على الدقة والزعتر، الأولى هي عبارة عن مسحوق تراثي فلسطيني يتكون من القمح وبعض التوابل ويؤكل مع زيت الزيتون، لكن الزيت اليوم غير موجود وغالي الثمن فترشه على الخبز، بينما الزعتر هو نبات مطحون يحول لمسحوق ويؤكل بذات الطريقة.

تفرد نسرين صيام، يديها وتقول "انظري كيف أصبحت يداي، بإمكانك ملاحظة الجروح والشقوق التي باتت تعرف جيداً طريقها لكفاي خلال عملي الشاق بتكسير الحجارة"، الأمر لا يقتصر عليها فقط فأطفالها أيضاً يعملون معها لتخفيف العبء إذا يسلك أطفالها مسافات بالكيلو مترات مليئة بالشوك والزجاج والحجارة مشياً على الأقدام.

وتفكر مراراً بتغير ذلك العمل الشاق مستبدلة إياه بفرن على الحطب، لكن الحطب نفذ من قطاع غزة وأصبح شحيح بالكاد يمكن توفيره للطبخ عليه، أو بعمل بسطة صغيرة تبيع عليها البضائع، لكن تلك الفكرة لم تجدي نفعاً أيضاً، فبعد الحصار الخانق الذي فرضته القوات الإسرائيلية على المدينة المنكوبة أصبح المواطن بالكاد يجد الأطعمة الملعبة.

ولفتت إلى أنها تعيل أطفال إخوة زوجها أيضاً الذين فقدوا عائلاتهم خلال الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتركوا لمواجهة الحياة وحدهم دون معيل أو جهة تتولى الإنفاق عليهم.

وتعاني نسرين صيام العديد من الأمراض خاصة الصدرية منها، فهي تجلب تلك الحجارة من ركام المنازل المقصوفة أي المسممة بالمواد الكيمائية المنبعثة من الصواريخ، مستنشقة الغبار الذي ينتج خلال الضرب على الحجر وتكسيره، مشددة أنها تعي مخاطر العمل الذي تقوم به على المدى البعيد لكن ليس لديها بديل أو خيار آخر.

وتنتهي من ذلك العمل لتجد أعمال المنزل تنتظرها فتشعل النار، وتجلب المياه، وتحضر الملابس للغسيل، ومن ثم تعجن الدقيق وتستعد لخبزه، لتخلد إلى النوم وهي تشعر بآلام حادة في جسدها، والكثير من الضغط النفسي الذي تحاول كتمه مع دموع العجز التي تخشى إظهارها لأطفالها.