الناجية والشاهدة ضحى الصيفي… صراع ما بين الفقد والإصابة البالغة

تواجه النساء الفلسطينيات أهوال الفقد والإصابة بصبرٍ نادر، وتنهض كل واحدة منهن من تحت الركام شاهدةً على وجع لا ينكسر.

نغم كراجة

غزة ـ لم تكن تدرك الصحفية ضحى الصيفي وهي تستعد لمغادرة منزلها في أول أيام عيد الفطر لعام 2025 أن اللحظات القليلة التي جمعتها بأطفالها ستكون آخر عهدها بهم، الرحلة التي خُطط لها كفسحة عيدية خفيفة تحولت إلى واحدة من أبشع المآسي التي خلفتها الحرب بحق العائلات الفلسطينية تحديداً داخل أسوار مدرسة "دار الأرقم" حيث كانت تبحث عن بهجة مؤقتة لأبنائها في حضن خالتهم.

تروي ضحى الصيفي الوقائع بصوت خافت "كنت أعلم أن الأوضاع الأمنية ليست مستقرة لكن الرغبة في إسعاد أبنائي طغت على مخاوفي، كنت أردد في داخلي: لو أن هناك احتمالاً ضئيلاً للفرح فليكن من نصيبهم، ولو لمرة واحدة هذا العام".

استعدّت العائلة الصغيرة على طريقتها المتواضعة أن تذهب لتُحيي هذه الشعائر تحت القصف والنار، وحرصت على اصطحاب دراجة طفلها الأصغر أسامة، رغم التردد الذي راودها في اللحظة الأخيرة "الطريق لم يكن سهلاً… كنت على وشك التراجع لكن نظرات الترقب في أعينهم جعلتني أستسلم لرغبتهم ظناً أن الأمنيات الصغيرة لا تُغتال".

وصلت برفقة أطفالها الأربعة إلى المدرسة التي لجأت إليها شقيقتها، استقبلتهم بترحاب داخل أحد الفصول التي حولتها العائلات إلى مأوى مؤقت، وبالرغم من ضيق المكان وظروف النزوح القاسية، حاولوا جميعاً التمسك بطقوس العيد، لعب الأطفال في ساحة المدرسة، تبادلوا الضحكات، وتلقت ضحى الصيفي شكوى من ابنها نور بأن طفلاً كسر زجاج السيارة، ردّت بابتسامة، وأعطت الطفل بعض النقود قائلة له "أنت ذكي لكن لا تعبث بالمركبات، فالفرحة لا تكتمل بالأذى".

كانت تلك اللحظات، على قصرها، آخر مشهد تراه الأم لأبنائها وهم يركضون في فسحة المدرسة، وميض مفاجئ قطع المشهد، تلاه صوت انفجار هائل ثم انقطع كل شيء "شعرت وكأن شيئاً ما انتزعني من مكاني دون أن أشعر بوزني… لم أسمع الانفجار، لم أحسّ بالألم كأن الملائكة حملتني وأنا بين الغياب واللاوعي".

استهدف القصف الإسرائيلي المباشر المدرسة، مخلّفاً مجزرة أُدرجت تفاصيلها لاحقاً في بيانات منظمات حقوق الإنسان ولكنها بالنسبة لضحى الصيفي كانت كارثة شخصية تمحو سبعة من أقرب الناس إلى قلبها وهم أطفالها الثلاثة ريتال (13 عاماً)، نور (10 أعوام)، وأسامة (4 أعوام)، إلى جانب شقيقتها وبناتها الثلاث.

لم يكن بمقدورها في تلك اللحظة إدراك حجم المصيبة، عندما استيقظت من غيبوبة استمرت أكثر من عشرين يوماً في مشفى "المعمداني" في غزة، وجدت نفسها بين الحياة والموت، فاقدة القدرة على النطق، مشوّهة الوجه، وفكها السفلي قد أُزيل بالكامل، كانت الأصوات من حولها خافتة، والكلمات الموجهة لها تأتي على شكل همسات دامعة "اتشاهدي يا ضحى… سامحينا".

تمكّنت بصعوبة من تحريك يدها، وكتبت على لوح صغير سؤالها الأول "أطفالي بخير؟"، فجاءها الرد المختصر المؤلم "عصافير بالجنة" حينها، اكتفت بعبارة واحدة "راضية" بما حصل.

خرجت ضحى الصيفي من عداد القتلى بأعجوبة، إذ وُضعت في البداية ضمن قائمة الضحايا، أصرّ زوجها وعائلتها على بقائها تحت العناية المركزة رغم التشخيص المتشائم للأطباء الذين أبلغوا الأسرة بأنها لن تستعيد وعيها، ولن تتحدث مجدداً ومع ذلك وبعد 25 يوماً استعادت صوتها لتبدأ رحلة العلاج الممتدة والمعقدة.

تعرضت ضحى الصيفي لإصابات بالغة شملت فقدان السمع الجزئي، تهتكاً في يدها اليسرى، وكسوراً متعددة في العظام، وخضعت لعدة عمليات جراحية بينها زراعة رقعة جلدية من البطن إلى اليد، وتركيب شريحة معدنية في الفك بالإضافة إلى العلاج الطبيعي المستمر، لا تزال حالتها الصحية تتطلب علاجاً خارجياً يشمل زراعة عظام وأسنان، وترميماً وظيفياً وتجميلاً للوجه واليد.

تقول في وصف تجربتها "النجاة لم تكن راحة، وإنما أمانة ثقيلة، بقيت على قيد الحياة لأروي حكاية أبنائي، ولأقول إنهم لم يكونوا أرقاماً في نشرة أخبار بل أرواحاً تنبض بالحياة، وتحمل طموحات تفوق أعمارهم".

من بين أبنائها، نجا سيف الحق (12 عاماً) من المجزرة بأعجوبة نادرة، كان في ساحة المدرسة مع ابن خالته حين وقعت الغارة، أصيب مرافقاه بجروح خطيرة فيما خرج هو برضوض بسيطة، لم تتمكن ضحى الصيفي حتى اللحظة من محو مشهد نعش أسامة، الذي دُفن دون رأس أو نسيان أن كل ما تبقى من جسد ريتال كان جزءاً من يدها اليمنى.

تقول بأسى "لم يكن أطفالنا يحلمون بالكثير… بعض اللعب والأمان وربما فسحة يختبرون فيها المعنى الحقيقي للعيد، كانت حياتهم بسيطة لكن القصف الإسرائيلي صادر منهم حتى حق الحلم".

اليوم، لا تنظر ضحى الصيفي إلى صورتها في المرآة إلا لتتذكر واجبها، تعتبر أن ما تبقى من صوتها هو "أداة مقاومة" لإيصال حقيقة ما جرى، وللدفاع عن رواية شعبها بعيداً عن لغة الأرقام الباردة التي تُجرّد الضحايا من إنسانيتهم.

في الحروب، لا تتصدر النساء الصفحات الأولى لكنهن يتحملن العبء الأثقل في صمتٍ يفيض بالوجع بين نساء فقدن أبناءهن، وأخريات خسرن أطرافهن أو سُلبت منهن ملامح وجوههن، تتجلى مأساة لا توثقها الإحصاءات ولا تنقلها الكاميرات، الأم التي تُنقل إلى المشفى محمولة على نقالة، لا تسأل عن إصابتها بل عن أطفالها: من بقي؟ من رحل؟ ومن لم يُعثر عليه بعد؟ تلك التي أُصيبت بشظايا في جسدها تحمل في داخلها شظايا أكبر في روحها لا يراها الأطباء.

المصابات لا تنتظرن علاجاً فحسب إنما تبحثن عن تفسير لفقدان بيتٍ، وأسرةٍ، ومستقبلٍ اختُصر في لحظة واحدة من القصف، تقول كثيرات منهن "لم نُخلق لنوثق الفقد أيضاً فُرض علينا أن نحفظ أسماء الراحلين ونبني من أنقاضنا ما يُشبه الحياة"، إن النساء في غزة يقفن على حافة الموت يومياً، وهن ممزقات بين الحداد والصبر، بين الإعاقة الجسدية والتمسك بكرامة لا تندثر تحت الركام.