سوريا... عام مليء بالمجازر والانتهاكات وحقوق النساء لم تكن أولوية

سوريا التي عاش شعبها عقوداً من الظلم والتهميش والاستغلال سواء من الداخل المتآمر المتمثل بالسلطة والمرتزقة أو الخارج الطامع، لم تكن هدية الصبر لشعبها إلا جماعة جهادية تقتل الاختلاف وتزور التاريخ وتشوه المجتمع المتنوع المنفتح.

سناء العلي

مركز الأخبار ـ شكل تاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 علامة فارقة في التاريخ السوري الحديث، فبعد أن فقد المعارضون قبل الموالون الأمل في سقوط النظام الذي تقوده عائلة الأسد منذ أكثر من 53 عاماً، ارتأت القوى الدولية والإقليمية تغيير حبكة القصة وأدخلت هيئة تحرير الشام كلاعب أساسي فيها.

مر عام على سقوط النظام السوري البعثي وشهدت البلاد خلال الـ 365 يوماً الماضية مجازر لم تشهدها طيلة تاريخها الحديث. بداية السقوط تفاءل الشعب السوري، ورأوا أن السقوط ضرورة مرحلية بعد أن تجمدت الحلول السياسية لسنوات وانهيار الأمن والاقتصاد، لكن اليوم ومع إجبار السوريين على الاحتفال في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام هل يمكن حقاً الاحتفال وبماذا؟

يتهم من يفضح جرائم جهاديي هيئة تحرير الشام اليوم بأنه فلول أو يتباكى على النظام السابق، فبالنسبة لهم أصبحت القاعدة "إما معنا أو ضدنا"، ووفقاً لهذه القاعدة أصبح الشعب الكردي انفصالياً والدرزي عميلاً والعلوي فلولاً والعلمانيين والنسويات كفارا ومتآمرين، منذ توجه الثورة السورية للأصولية وتلقيها الدعم الخارجي على حساب مبادئها اختار هؤلاء الخط الثالث رافضين ممارسات النظام وأيضاً ممارسات ما تسمى بالمعارضة.

 

تلميع صورة جهاديي هيئة تحرير الشام

"هيئة تحرير الشام" هذه الجماعة المعروف تاريخ تأسيسها وأيديولوجيتها للعالم والسوريين، عادت بضغط أمريكي إسرائيلي وبمباركة تركية قطرية سعودية من جديد إلى الساحة السورية، وهذه المرة بوصفها "محررة البلاد"، وبدأ الضخ الإعلامي العربي لتلميع صورة أبو محمد الجولاني ليصبح "أحمد الشرع"، بطل المرحلة.

لا تجهل القوى الدولية والإقليمية ووسائلها الإعلامية الحقيقة لكن عن عمد تم تغيير التاريخ بما يتناسب مع مصالح المرحلة، وما ساعد على ذلك عقلية القطيع "Herd Mentality" التي يُعرفها علم الاجتماع بظاهرة نفسية واجتماعية يميل فيها الأفراد إلى تبني سلوكيات ومعتقدات المجموعة التي ينتمون إليها دون تفكير نقدي، متأثرين بالرغبة في الأمان والقبول الاجتماعي أو الخوف من الاختلاف، مما قد يؤدي إلى قرارات غير عقلانية.

 

نموذج لا يحتذى به

لم يكن الشعب السوري يلتفت إلى إدلب التي سيطرت عليها هيئة تحرير الشام منتصف عام 2017 باعتبارها المنارة والخلاص بل على العكس أجمع السوريين على رفض الأصولية التي تتسم بها هذا الجماعة، لأنها ببساطة لا تشبه المجتمع السوري.

مارست الهيئة بقيادة أبو محمد الجولاني قبل أن يصبح أحمد الشرع في إدلب خلال (2017 ـ 2024) قمع حرية التعبير، والتضييق على حقوق النساء، والفساد الإداري والمالي، وقد أدت هذه السياسات، إلى جانب الأزمات المتفاقمة مثل التضخم الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، إلى انطلاق احتجاجات شعبية متكررة. أهالي إدلب والنازحون في المدينة اشتكوا من الفساد والمحسوبيات والانتهاكات خاصةً بعد إقدام شادي الويسي على إعدام امرأتين عام 2015 في ساحة عامة بمعرة مصرين بريف إدلب، وبدلاً من محاسبته أصبح وزير للعدل في النظام الجديد.

 

إعدام على الهوية... 365 يوماً كتب بدماء السوريين

الواقع الميداني شهد على استمرار الانتهاكات بحق المدنيين، وعودة أنماط العنف الممنهج والجرائم ذات الطابع الانتقامي والطائفي والمناطقي.

وفقاً لتقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يغطي الفترة الممتدة من (8 كانون الأول/ديسمبر 2024 إلى 5 كانون الأول/ديسمبر 2025)، قتل ما لا يقل عن 8835 مدنياً، بينهم 512 طفلاً و676 امرأة وسط غياب شبه تام للمساءلة وضعف مؤسسات العدالة.

شملت الانتهاكات أنماط متعددة من القتل خارج نطاق القانون، والإعدامات الميدانية، وحالات الاختطاف وخاصةً بحق النساء من المكونين العلوي والدرزي، والتعذيب، والاستهداف العشوائي للمدنيين، إلى جانب الهجمات المسلحة والتفجيرات المتكررة في مناطق مختلفة من البلاد التي لم تسلم أيضاً من الاعتداءات الخارجية من قبل الاحتلال التركي الذي استهدف مناطق الإدارة الذاتية في إقليم شمال وشرق سوريا، والقوات الإسرائيلية التي استهدفت الجنوب والعاصمة دمشق.

جهاديي هيئة تحرير الشام المسؤولة عن مقتل المدنيين وهي أكثر من ارتكب المجازر، وتسبب بمقتل السوريين منذ عام، وقد اختلفت ظروف القتل بين رصاص عشوائي واقتتال مباشر، وآليات مفخخة، وتعذيب في السجون سواء سجون مرتزقة تركيا أو "الحكومة المؤقتة"، أو على يد داعش أو القصف الإسرائيلي.

خلال الشهر الأول من سيطرة جهاديي هيئة تحرير الشام قتلت 21 امرأة و34 طفلاً، وفي الشهر الأول من العام 2025 قتلت 146 امرأة و53 طفلاً، وفي شباط/فبراير قتلت 46 امرأة و42 طفلاً، وفي شهر آذار/مارس قتلت 144 امرأة و97 طفلاً، وهو الشهر التي بدأ فيه جهاديي هيئة تحرير الشام هجماتهم على الساحل السوري وعمليات الانتقام من المكون العلوي، وفي نيسان/أبريل قتلت 40 امرأة و25 طفلاً، وفي أيار/مايو قتلت 19 امرأة و49 طفلاً، وفي حزيران قتلت 31 امرأة و25 طفلاً، وفي تموز/يوليو قتلت 89 امرأة و60 طفلاً، وكانت قد بدأت في هذا الشهر الهجمات على مدينة السويداء جنوب سوريا، وارتكب الجهاديون مجازر لا تقل إجراماً عما ارتكبوه في الساحل.

في آب/أغسطس قتلت 80 امرأة و44 طفلاً، وفي أيلول/سبتمبر قتلت 20 امرأة و32 طفلاً، وفي تشرين الأول/أكتوبر قتلت 18 امرأة و18 طفلاً، وفي تشرين الثاني/نوفمبر قتلت 20 امرأة و31 طفلاً، وحتى 5 كانون الأول/ديسمبر قتلت امرأتين وطفلين.

لقد قتل سوريين وسوريات بمجازر الإعدام الميداني، هناك حسب تقرير المرصد 3071 حالة قتل على الهوية والانتماء، من هذا العدد 296 امرأة و48 طفلاً، معظمها خلال أحداث الساحل.

كما كشف تقرير لرويترز صدر في حزيران/يونيو 2025 أن ما لا يقل عن 33 امرأة من الطائفة العلوية من حماة، وحمص، واللاذقية، وطرطوس تتراوح أعمارهن بين (16 ـ 39) عاماً تعرضن للاختطاف خلال الهجوم، منهن نقلن إلى إدلب، وأخريات إلى خارج سوريا، وتم توثيق حالات اغتصاب لنساء، وقاصرات من قبل جهاديي هيئة تحرير الشام، واختطف ما لا يقل عن 105 نساء من المكون الدرزي، ولا يزال 80 منهن في عداد المفقودين، وعدد من اللواتي أُطلق سراحهن غير قادرات على العودة إلى منازلهن خوفاً على سلامتهن، وفيما لا يقل عن ثلاث حالات درزيات تعرضن للاغتصاب قبل أن يتم إعدامهن، كما لا يزال 763 شخصاً، من بينهم نساء، في عداد المفقودين.

 

قتل التنوع واستهداف الاختلاف

خلال عام استهدف جهاديي هيئة تحرير الشام الأماكن الدينية للطوائف والأديان المختلفة، شملت كنائس، ومساجد، ومزارات، ودور عبادة أخرى، ومن أبرز هذه الاعتداءات، الهجوم الإرهابي على كنيسة مار إلياس في دمشق، الذي أسفر عن مقتل 25 من المدنيين، بينهم أطفال، بالإضافة إلى إصابة 63 آخرين.

وتعرضت العديد من المزارات الدينية والرموز الروحية للطائفة العلوية والمكون الدرزي لهجمات مباشرة، شملت الاعتداءات المسلحة، بالإضافة إلى التخريب والنهب، ما أدى إلى تدمير جزء كبير من هذه المواقع وتشويه المعالم الدينية والتاريخية.

 

غياب العدالة الانتقالية

لم تحقق لجنة تقصي الحقائق أي تقدم لصالح المظلومين لارتباطها بالسلطة، بل تزامنت المجازر مع حملات إعلامية لتشويه الحقائق واتهام كل من يعارض ممارسات السلطة الجديدة بقيادة جهاديي هيئة تحرير وزعيمهم أحمد الشرع "الجولاني"، بالعمالة والخيانة والانفصال وهذا ما حدث خلال ارتكاب مجازر السويداء والأسوأ هو توريط العشائر العربية بهذه المجازر، والتملص فيما بعد من الجرائم واتهامهم بارتكابها بشكل منفرد.

الإعلام المحلي التابع للسلطات ينقل الصورة التي تريدها البلدان المستفيدة من وجود السلطة الجديدة في دمشق، وتكرر القول بأن العلويين "فلول للنظام"، والدروز "عملاء لإسرائيل"، والكرد "انفصاليون"، مما يوسع الشرخ بين مكونات الشعب السوري ويؤسس لاقتتال سوري ـ سوري.

بعد مسرحية صيدنايا قد يعتقد السوريين أنه تم تبييض السجون لكن في الحقيقة معتقلات إدلب مليئة بالأبرياء دون محاكمة، في حين لم يُقدَّم من ارتكبوا انتهاكات جسيمة وجرائم حرب بحق السوريين العدالة.

 

مقاومة النساء في الأمس وقود النضال للغد

تقاوم السوريات انتهاكات وممارسات جهاديي هيئة تحرير الشام في منعهن من التعليم والقيود على الحركة والعمل والتشدد والمجازر والانتهاكات على اختلافها.

ولقد تحسست النساء الخطر القادم مع استلام جماعة جهادية مصنفة على لائحة الإرهاب الدولي ومعادية لحقوق المرأة سدة الحكم في سوريا، فشاركن في المظاهرة التي شهدتها ساحة الأمويين وسط العاصمة دمشق، بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2024 رفعن فيها شعارات تُطالب بنظام مدني يضم جميع المكونات، وبمشاركة النساء للحكم، ورفعن شعار "لا وطن حر دون نساء حرائر"، مما يؤكد أن المرأة السورية ليست غافلة عن حقوقها.

لكن هذا لم يكن حال جميع المظاهرات ففي إحدى التظاهرات في دمشق دعا أحد المشاركين إلى عزل النساء عن الرجال أثناء الاحتجاج، مردداً شعارات دينية وسط هتافات التكبير.

كما كانت تصريحات شخصيات محسوبة على السلطة مستفزة وأشعلت الغضب السوري، عندما قال المتحدث باسم "الإدارة السياسة التابعة لفصائل المعارضة السورية"، عبيدة أرناؤط "كينونة المرأة تمنعها من ممارسة بعض المهام مثل تولي منصب وزارة الدفاع"، ومما زاد الطين بلة تصريحات رئيسة ما سمي بـ "مكتب شؤون المرأة"، عائشة الدبس عن مهام المرأة وفطرتها في السكون إلى المنزل بعيداً عن العمل.

ومنذ البداية تصرف أحمد الشرع "الجولاني" بطريقة مريبة بعد أن رفض مصافحة وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، بعيداً عن عرف الدبلوماسية، كما أثار فيديو له طلب من شابة ارتداء الحجاب للتصوير معه الجدل حول إن كان فعلاً يمثل سوريا أم جماعته الجهادية التي لا تمد يدها للسلام على امرأة بل تسبيها.

وفي حلب تمت الدعوة لارتداء النقاب وكذلك في شوارع دمشق، أما النساء العلويات والدرزيات فأجبرن على ارتداء الحجاب لحماية أنفسهن.

لا يمكن الحديث عن النساء فقط كضحايا فمواقف قد يراها البعض بسيطة إلا أنها دليل واضح على مقاومة المرأة، فرغم الترهيب الذي حدث عند الهجوم الوحشي على الساحل لم تصمت زرقة سباهية التي وقفت أمام جثث أولادها وحفيدها تحرسها، عندما ارتكب جهاديي هيئة تحرير الشام مجزرتهم في قرية قبو العوامية بريف اللاذقية، وقفت الأم المكلومة صامدة، تحبس دموعها وبادي عليها القهر والغضب وهي تواجه الجهاديين الذين يتوعدون بالمزيد من المجازر.

كذلك فعلت فوزية الشعراني ابنة مدينة السويداء التي صمدت أمام من استهدفوا منزلها خلال هجوم جهاديي هيئة تحرير الشام للمدينة وحملت بندقيتها، وواجهتهم قبل أن يطالها الرصاص.

اليوم سوريا تمر بنفق مظلم لكن شمس الحقيقة لا يمكن أن تختبأ وأن تلبدت السماء ستمطر في النهاية، ستظهر شمس الحقيقة ساطعة في سماء سوريا تخفف ألم سنوات الحرب والفقدان على السوريين، فحتى وإن زورو التاريخ وشوهوا المجتمع السوري وألغوا دور المرأة، سوريا ستكون كما يستحق شعبها ونساؤها.