ليبيا... المرأة وأزمة الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

لم يعد العنف ضد المرأة في ليبيا مجرد ظاهرة اجتماعية، بل تحوّل إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية وترسيخ التسلسل الهرمي السياسي والاجتماعي. السياسات والقوانين السائدة لا تكتفي بالتغاضي عن هذا العنف، بل تمنحه شرعية ضمنية.

غدير العباس

مركز الأخبار ـ العنف ضد النساء متجذر في المجتمع الليبي، يتجاوز حدود البيت والمجتمع ليجد دعمه في الأيديولوجيا السياسية والمؤسسية التي تقوم على التمييز الجنسي. هذا التمييز أصبح قاعدة لتبرير العنف، فيما أدت الانقسامات العميقة في بنية الدولة إلى نظام قمعي يصعب على النساء الفكاك منه.

القوانين والسياسات المتجزئة، التي تهيمن عليها عقلية ذكورية، أعادت إنتاج ثقافة العنف وأقصت النساء من المجال العام. ومع تصاعد النزعة الدينية والجنسانية، جُرّت النساء إلى حرب ليست حربهن، وتعرضن لأشكال متعددة من العنف، بينما حاصرتهن الدولة بلوائح قانونية تحدّ من وجودهن الاجتماعي والسياسي.

 

دولة مجزئة وخيبات أمل

منذ 2011، غرقت ليبيا في انقسام سياسي وأمني حاد. السلطة موزعة بين حكومات متنافسة، جماعات مسلحة، وجهاز أمني مفكك. في الشرق، يفرض خليفة حفتر نموذجاً عسكرياً صارماً، بينما في الغرب تعمل حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد دبيبة تحت سطوة الميليشات. هذا التشرذم جعل الإفلات من العقاب أمراً مألوفاً، وحوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي وتجاري. في ظل هذه الظروف، أصبح العنف ضد المرأة وسيلة للسيطرة، فيما تُعرّف السياسة القبلية المرأة بالولاء، مما يجعل وصولها إلى العدالة شبه مستحيل. ومن أبرز مظاهر هذا القمع: حظر السفر، وحملات التشهير المنظمة عبر الإنترنت.

 

النساء بين النزوح والمقاومة

تتجلى مأساة النساء في قلب النزاعات والانقسامات. منذ سقوط النظام، واجهت النساء نزوحاً جماعياً من مدن مثل تاورغاء ومرزوق وسبها، حيث عانت آلاف العائلات من فقدان المأوى والأمان. ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، ارتفع عدد النازحين والمهاجرين داخلياً إلى أكثر من 858 ألفاً مطلع 2025، بزيادة عن العام السابق، وتشكل النساء والأطفال حوالي 22% من هذا العدد، ما يبرز هشاشتهم. ورغم ذلك، لم تتراجع النساء؛ فقد شاركن في جهود الوساطة بين القبائل والجماعات المسلحة، وقدمن دعماً نفسياً واجتماعياً للنازحين. واليوم، يرفعن أصواتهن مطالبات بأن يكون حضورهن الفاعل جزءاً أساسياً من أي مشروع للاستقرار الوطني.

 

تصاعد العنف في ليبيا

مع تفكك ليبيا عبر السنوات إلى مناطق نفوذ متنافسة، أصبح العنف القائم على النوع الاجتماعي من أكثر الظواهر تجاهلاً وتفاقماً. ومع اتساع رقعة العنف داخل المنازل والشوارع ومراكز الاحتجاز والمخيمات، تراجعت أولويات الدولة السياسية والأمنية عن معالجة هذه القضية. وفي ظل تغيّر موازين القوى باستمرار، تتحمل النساء والفتيات الكلفة الأكبر لغياب الاستقرار. ويزيد على ذلك غياب أساس دستوري يحمي حقوق المرأة ويعاقب مرتكبي العنف من خطورة الوضع.

تشير الشهادات الميدانية وتقارير حقوق الإنسان إلى أن العنف لم يعد محصوراً في أنماطه التقليدية، بل تجاوز الأعراف الاجتماعية والنزاعات الأسرية ليأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً. انهيار البنية الأمنية، وجرائم الجماعات المسلحة، وضغوط الأزمة الاقتصادية كلها عوامل ساهمت في تفاقم العنف الجسدي والنفسي والجنسي ضد النساء. وغالباً ما تُبرَّر هذه الممارسات بذريعة "خصوصية الأسرة"، فيما تختار كثير من الناجيات الصمت خوفاً من الوصمة الاجتماعية.

 

مؤشرات مقلقة في عام 2025

البيانات الصادرة عن مركز المعلومات والتوثيق التابع لوزارة الداخلية في المنطقة الشرقية تكشف عن مستويات مقلقة من العنف، لا تقتصر على النساء وحدهن، بل تشمل الرجال والأطفال أيضاً. وخلال الأشهر الثلاثة الماضية سُجلت: 28 حالة وفاة غامضة، 127 جريمة قتل عمد، 33 جريمة قتل إضافية، 7 اعتداءات جنسية على أطفال (مُبلّغ عنها فقط)، 26 حالة اختطاف.

كما بلغت حالات "الإيذاء الجسدي الجسيم" 224 حالة، مقابل 161 حالة "إيذاء جسدي بسيط". ورغم طلب توضيحات حول تعريف هذه التصنيفات وإحصاءات منفصلة تخص النساء، رفض المركز الإدلاء بأي تصريح، ما يعكس حالة من الغموض والسرية المحيطة بالبيانات الرسمية.

العنف المتجذر في البنية الأسرية

تتبع الحالات الفردية يكشف أن العنف لا يبدأ دائماً بفعل جسدي مباشر، بل يتجذر في بنية اجتماعية تُعيد إنتاج الأدوار التقليدية وتُشرعن هيمنة الذكور في مختلف مجالات الحياة اليومية. هذا التشابك بين العوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية يجعل مواجهة العنف مهمة معقدة تتطلب إصلاحات شاملة، تشمل: تطوير التشريعات وتفعيلها بصرامة، إطلاق حملات توعية مجتمعية واسعة، تعزيز خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، تمكين المؤسسات القادرة على التعامل مع الجناة باحترافية.

وبحسب تقرير منظمة العفو الدولية المقدم إلى لجنة الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في حزيران/يونيو 2024، فإن انتشار الانتهاكات وغياب الأطر القانونية الفعالة يضع النساء في ليبيا بين أكثر الفئات عرضة للخطر في مختلف المناطق.

 

العنف في مراكز الاحتجاز

تعد ليبيا نقطة عبور رئيسية للمهاجرين وطالبي اللجوء، وكثير منهم يواجهون مخاطر متزايدة من العنف والاستغلال، لا سيما النساء والفتيات، ويتخذ العنف ضد النساء والفتيات اللاجئات شكل الاغتصاب، والاعتداء الجنسي، والإساءة النفسية، والعاطفية، ولا يكون الاعتداء الجنسي في العادة حدثاً واحداً، حيث تتعرض اللاجئات والمهاجرات بشكل متكرر لأشكال متعددة من العنف الجنسي على يد مجموعة من الجناة، ونظراً للطبيعة العابرة لهذه المجموعات، فإن جمع بيانات شاملة عن العنف الذي تتعرض له النساء والفتيات المهاجرات يمكن أن يكون صعباً للغاية.

فوراء جدران مراكز الاحتجاز في ليبيا، تتكشف مآسٍ صامتة. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية وثّقت في عام 2025 وجود جثث تحمل آثار تعذيب في مواقع احتجاز بطرابلس، إضافة إلى أدوات تشير إلى ممارسة منهجية للعنف الجسدي والاختفاء القسري. هذه المآسي والاكتشافات لم تكن مفاجئة، بل جاءت لتؤكد ما رواه شهود عيان وناجون عن ظروف احتجاز غير إنسانية، حيث يُمارس التعذيب كأداة للسيطرة والإذلال، وفي مراكز أخرى، خصوصاً تلك المخصصة للمهاجرين غير النظاميين، تتكرر شهادات عن الاغتصاب والعمل القسري والابتزاز المالي.

 

قوانين دولة الرجل الواحد

تفتقر ليبيا إلى إطار قانوني شامل يتناول العنف القائم على النوع الاجتماعي. ورغم الوعود المتكررة بإصلاح النظام القانوني، فإن التشريعات الحالية لا تزال عاجزة عن حماية النساء، بل تُكرّس التمييز وتُعيق العدالة. فمشروع قانون منع العنف ضد المرأة، الذي طُرح عام 2017، ما زال معلقاً حتى اليوم، فيما تُظهر القوانين السارية ثغرات خطيرة.

يعرف القانون الليبي جريمة الاغتصاب بأنها "اعتداء على الشرف والأخلاق"، وهو تعريف يختزل الجريمة في إطار أخلاقي ضيق، متجاهلاً انتهاكها للحرية الجسدية والكرامة الإنسانية. كما أن القانون لا يعترف بالاغتصاب الزوجي، مما يُشرعن أحد أكثر أشكال العنف شيوعاً داخل الأسرة. والأسوأ أن السماح للجاني بالزواج من الضحية يُتيح له الإفلات من العقاب، ويحوّل القانون إلى أداة لإسكات النساء وإجبارهن على المصالحة القسرية.

هذه الثغرات لا تكشف فقط عن قصور تشريعي، بل تُظهر نظاماً قانونياً يُعطي الأولوية لسمعة الرجل على حساب حقوق المرأة، ويُعرّض النساء لمزيد من العنف. وفي ظل مجتمع يُحمّل النساء مسؤولية ما يتعرضن له، تُجبر كثيرات على الصمت خوفاً من الوصمة الاجتماعية. كما أن مراكز الدعم النسائية شبه غائبة، وآليات المساندة النفسية والقانونية غير واضحة.

العنف ضد المرأة لا يقتصر على المجال الخاص، بل يُمارس علناً وبشكل منهجي عبر وسائل الإعلام الرقمية، حيث تُستخدم حملات التشهير والابتزاز لإرهاب النساء وإخضاعهن. ورغم طرح مشاريع قوانين في المؤتمرات الأكاديمية والندوات البرلمانية، فإن هذه الجهود غالباً ما تبقى حبراً على ورق. فالانقسامات السياسية العميقة تُعيق اعتماد أي لوائح فعلية، بينما يظل الدعم الدولي في كثير من الأحيان استشارياً لا يتجاوز حدود النصائح.

 

التدين وتزايد القيود

لم تقتصر السلطات الدينية والسياسية في ليبيا على تعطيل مسار القوانين التي تكفل حقوق المرأة، بل ذهبت أبعد من ذلك عبر إطلاق حملات تشويه وإصدار فتاوى تقييدية. ومن أبرز هذه الفتاوى ما صدر عن دار الإفتاء عام 2023، حيث جرى تحريم استخدام مصطلح "الجندر" بحجة تعارضه مع القيم الدينية.

تحت ضغط هذه التوجهات، أُلغي التوقيع المزمع على مذكرة تفاهم بين وزارة شؤون المرأة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، والتي كان من المفترض أن تُفعّل أجندة المرأة والسلام والأمن. وهكذا، تحولت الضغوط الدينية والسياسية إلى أداة لإجهاض أي محاولة لإرساء إطار قانوني أو مؤسسي يعزز مشاركة النساء ويحمي حقوقهن، مما عمّق الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيش.

كما أثار قرار وزير الداخلية في حكومة "الوحدة الوطنية" الليبية المؤقتة عماد الطرابلسي في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، جدلاً كبيراً في ليبيا بعد دعوته إلى فرض الحجاب على النساء ومنع الاختلاط بين الجنسين في الأماكن العامة، بحجة "ترسيخ القيم الأخلاقية" في المجتمع الليبي، ومطالبته بتفعيل شرطة الآداب في الشوارع وملاحقة أي محتوى غير لائق على منصات التواصل الافتراضي.

ويعود تاريخ نشأة شرطة الآداب في ليبيا إلى فترة حكم معمر القذافي، وتتمثل في قوة أمنية من الرجال والنساء المكلفين بمراقبة السلوكيات العامة، وضمان التزام الأفراد بالمعايير الاجتماعية والدينية المتعارف عليها. ورغم ضعف هذا الجهاز الأمني وإدارته من قبل شخصيات متعصبة، إلا أن محاولات إنعاشها من قبل الحكومات المتعاقبة مستمرة منذ عدة سنوات.

وتعد هذه القرارات بدون أساس قانوني، وتعد خرقاً لحقوق الإنسان، حيث أن الحريات الأساسية مثل حرية التنقل وحرية اختيار الملبس مكفولة ما دامت لا تتعارض مع النظام العام والآداب العامة، باستثناء الحالات التي ينص فيها القانون بوضوح على زي معين مثل الزي المدرسي أو ملابس المؤسسات الخاصة.

 

انتخابات 2025... ماذا حققت النساء؟

منذ سنوات، ظلّت قضية مشاركة المرأة الليبية في الحياة السياسية محط جدل واسع، خاصة بعد إدراج نظام الكوتا ضمن قانون "نظام الاقتراع" في البرلمان الليبي. القانون نصّ على تخصيص 31 مقعداً للنساء من أصل 200 مقعد، أي بنسبة لا تتجاوز 16%. هذا التراجع من النسبة السابقة (30%) مثّل إجحافاً واضحاً بحق المرأة الليبية، التي كانت تطمح إلى حضور أكبر في صناعة القرار.

فعندما طُرح نظام الكوتا لأول مرة، كان الهدف المعلن هو ضمان مشاركة النساء في البرلمان، لكن تقليص النسبة كشف عن مقاومة داخلية لفكرة تمكين المرأة، وعن رغبة في إبقاء حضورها محدوداً ورمزياً أكثر منه فعلياً. كثير من الناشطات وصفن هذا النظام بأنه انتهاك في حق المرأة، لأنه لم يمنحها فرصة عادلة لتكون شريكًا كاملًا في العملية السياسية.

في الانتخابات التي أجريت عام 2025، حصلت النساء على نسبة مقاعد قريبة من الحد الأدنى الذي فرضته الكوتا، أي حوالي 16% من المقاعد البرلمانية. هذا يعني أن الكوتا كانت العامل الحاسم في ضمان وجود النساء داخل البرلمان، لكنها في الوقت نفسه قيّدت سقف الطموح، إذ لم تسمح بتجاوز هذه النسبة بشكل ملحوظ، وهذا جعل حضور المرأة في البرلمان شكلياً.

وفقًا لتقرير الاتحاد البرلماني الدولي لعام 2025، جاءت ليبيا في المرتبة 139 عالمياً من حيث نسبة النساء في البرلمان، وهي نسبة منخفضة جداً. هذا الترتيب لا يعكس مجرد قصور في المشاركة، بل يفضح إخفاق الدولة المتعمد لإبعاد المرأة سياسياً، وإبقاء حضورها في مواقع القرار شكلياً ومحدوداً بعيداً عن أي تأثير فعلي.

انتخابات 2025 أكدت أن نظام الكوتا في ليبيا، بصيغته الحالية، يمثل نصف خطوة نحو تمكين المرأة، لكنه في الوقت نفسه يكرّس التمييز ويُبقي النساء في موقع أقل من استحقاقاتهن. ما تحتاجه ليبيا ليس مجرد مقاعد محجوزة، بل إرادة سياسية حقيقية تفتح المجال أمام النساء ليكنّ جزءاً أساسياً من صناعة القرار، بما يتناسب مع دورهن في المجتمع وتضحياتهن في مراحل الصراع والتحول.

 

سلطة السلاح تتقدم على القانون

في مطلع عام 2023، فوجئت نساء كثيرات في ليبيا بإجراءات جديدة عند بوابات المطارات. لم يكن الأمر مجرد تفتيش روتيني أو تدقيق في جوازات السفر، بل نموذج خاص يُطلب من كل امرأة تسافر دون "محرم" أن تملأه، موضحة فيه أسباب سفرها منفردة، وعدد المرات التي غادرت فيها البلاد سابقًا. بدا وكأن حرية التنقل التي كفلها الإعلان الدستوري الليبي قد أصبحت مشروطة، ومقيدة بسلسلة من الأسئلة التي لا تُطرح على الرجال.

في مطار معيتيقة بطرابلس، حيث بدأ تطبيق هذه الإجراءات، كانت المشاهد متكررة: ناشطات حقوقيات، صحفيات، وطالبات جامعيات يقفن في صفوف طويلة، يحملن أوراقاً رسمية ويواجهن موظفين يطلبون تفاصيل شخصية لا علاقة لها بالسفر. بعضهن مُنعن من المغادرة، وأخريات اضطررن لتأجيل رحلاتهن أو البحث عن طرق بديلة. ومع اتساع نطاق التطبيق ليشمل مطارات أخرى في الغرب الليبي، تحولت هذه القيود إلى قضية عامة أثارت جدلاً واسعاً في الإعلام المحلي وعلى منصات التواصل الافتراضي.

الناشطات، اللواتي يعتمدن على السفر لحضور مؤتمرات دولية أو المشاركة في برامج تدريبية، وجدن أنفسهن أمام عائق جديد يهدد عملهن المدني. لم يعد الأمر مجرد صعوبة لوجستية، بل أصبح رسالة واضحة بأن وجود المرأة في المجال العام، حتى خارج حدود الوطن، يخضع لرقابة مشددة.

العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وصفت الإجراءات بأنها تمييزية وقمعية، مؤكدة أنها تتعارض مع نصوص الدستور الليبي والالتزامات الدولية التي تضمن حرية التنقل وعدم التمييز. في المقابل، حاولت بعض الجهات الرسمية تبريرها باعتبارها "إجراءات تنظيمية"، لكن هذا التبرير لم يقنع الرأي العام، بل زاد من حدة الغضب الشعبي.

ففي ليبيا، لم تعد حرية التنقل والسفر حقاً مكفولاً بالقانون وحده، بل أصبحت مرهونة بسلطة السلاح والقرارات الأمنية التي تفرضها الأجهزة المسيطرة على الأرض. هذا الواقع يجبر المواطنين، وخصوصاً النساء، أمام ممارسات يومية تقيد حرياتهم وتقمع حقوقهم.

 

استهداف الناشطات… العنف يمتد إلى الفضاء العام

منذ عام 2014، أخذت الهجمات ضد النساء الناشطات في ليبيا منحى أكثر اتساعاً. لم يعد الأمر مجرد تضييق إداري أو اجتماعي، بل تحوّل إلى سلسلة من الانتهاكات الممنهجة التي شملت القتل والاختطاف والتعذيب والتهديد الإلكتروني. هذه الممارسات لم تستهدف النساء العاديات فحسب، بل طالت صحفيات وسياسيات ومدافعات بارزات عن حقوق الإنسان، ما جعل الفضاء العام في ليبيا أكثر خطورة بالنسبة لهن.

القصص كثيرة. ملفات نساء بارزات لا تزال يحيط بها الغموض، مثل قضية النائبة في البرلمان الليبي سهام سرقيوة التي اختفت منذ عام 2019 من منزلها في مدينة بنغازي ولم يُكشف مصيرها حتى اليوم. ورغم مرور ست سنوات، لم تتخذ السلطات في شرق ليبيا أي إجراءات فعالة للكشف عن مصيرها أو محاسبة المسؤولين عن اختفائها، في ظل استمرار الإفلات من العقاب وتعطّل آليات التقاضي الوطنية.

وفي حالات أخرى، قتلت ناشطات وسياسيات في وضح النهار، مثل سلوى بوقعيقيص التي اغتيلت بسبب مواقفها الجريئة، لتصبح رمزاً للتضحية. كما قُتلت في الـ 21 تشرين الثاني/نوفمبر صانعة المحتوى الليبية خنساء مجاهد، إثر تعرضها لإطلاق نار من قبل مسلحين مجهولين أثناء تواجدها داخل سيارتها في منطقة السراج غرب العاصمة طرابلس. لكن التحقيقات الجدية لم تُفتح، وكأن دماء النساء لا تستحق العدالة. هذا الصمت الرسمي، أو التراخي في ملاحقة الجناة، وجه رسالة مفادها أن استهداف النساء في المجال العام يمكن أن يمر بلا عقاب.

ولم يقتصر العنف على الفضاء العام، بل امتد إلى المجال الرقمي. فقد تلقت العديد من الناشطات رسائل تهديد عبر الإنترنت، وتعرضن لحملات تشهير منظمة، أو لاختراق حساباتهن. وهكذا تحولت المنصات الرقمية، التي كانت في السابق مساحة للتعبير، إلى ساحة جديدة للعنف تُستخدم لإسكات النساء وترهيبهن.

أمام هذا الواقع، وجدت كثير من النساء أنفسهن أمام خيارين قاسيين: الانسحاب من المجال العام حفاظاً على حياتهن وسلامة أسرهن، أو الاستمرار في المقاومة رغم المخاطر، وحتى اللجوء إلى المنفى لمواصلة النضال. ونتيجة لهذه السياسات المتعمدة، خلت الساحة السياسية والحقوقية إلى حد كبير من الأصوات النسائية المؤثرة، مما أضعف الديمقراطية وحقوق الإنسان في ليبيا بشكل خطير.

كل حادثة اختفاء أو اغتيال أو تهديد هي ضربة جديدة لحق المرأة في المشاركة، ورسالة بأن الفضاء العام في ليبيا ما زال محفوفاً بالمخاطر. ومع ذلك، فإن إصرار الناشطات على مواصلة النضال، رغم التهديدات، يظل شاهداً على قوة الإرادة النسائية في مواجهة العنف والتمييز.

 

حضور قوي في القطاعات الحيوية

برزت النساء كقوة عاملة أساسية في بعض القطاعات الحيوية، لتثبتن أن حضورهن ليس هامشياً بل جوهرياً في بناء المجتمع. أرقام عام 2025 تكشف عن واقع لافت: 43% من العاملين في قطاع التعليم نساء، بينما تجاوزت نسبة النساء في قطاع الصحة 70%، متقدمة بذلك على الرجال في هذا المجال. هذه النسب لا تعكس مجرد مشاركة، بل تؤكد أن النساء أصبحن العمود الفقري في قطاعات ترتبط مباشرة بحياة الناس اليومية.

في المدارس والجامعات، تشكل النساء حضوراً واسعاً، ليس فقط كمعلمات، بل أيضاً كإداريات وباحثات. هذا الدور يعكس ثقة المجتمع في قدرتهن على قيادة العملية التعليمية، ويبرز مساهمتهن في صياغة مستقبل الأجيال القادمة. ومع ذلك، فإن هذا الحضور لا يقابله دائماً تمكين سياسي أو إداري، إذ تبقى المناصب العليا في التعليم غالباً بيد الرجال.

إن نسب مشاركة النساء الليبيات في التعليم والصحة تعكس قوة كامنة وإرادة صلبة، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن فجوة واضحة بين الحضور الاجتماعي والتمكين السياسي. المرأة الليبية أثبتت أنها قادرة على قيادة القطاعات الحيوية، ويبقى التحدي الأكبر هو ترجمة هذا الحضور إلى تمثيل سياسي وإداري عادل يوازي حجم مساهمتها في المجتمع.

 

محور حرية المرأة... الشرق الأوسط الديمقراطي في مواجهة الدولة الذكورية

تُعد النساء الليبيات من أكثر الفئات تضرراً من القيود القانونية المفروضة تحت ذرائع "الحماية" أو "الرقابة الاجتماعية". وتصف منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية هذه الممارسات بأنها اعتداء مباشر على الحقوق الأساسية، وأداة لإعادة إنتاج الهيمنة الذكورية عبر الأجهزة الأمنية.

حتى المجتمع الدولي لم يسهم في الحد من نفوذ السلاح؛ بل على العكس، خفّف مجلس الأمن مؤخراً بعض القيود على دخول الأسلحة إلى ليبيا، ما أثار مخاوف من تصاعد تسليح الجماعات المتصارعة. هذا القرار يكشف بوضوح أن النهج السائد في ليبيا لا يزال قائمًا على التوازنات الأمنية والعسكرية، بعيداً عن الإصلاحات القانونية أو الاعتبارات الحقوقية.

تشير التجربة الليبية إلى تشابه كبير مع أوضاع النساء في أفغانستان. فإذا كانت المرأة في ليبيا قد تُوقف عند نقطة تفتيش لمجرد مرورها دون رجل، فإن الفتاة في كابول تُجبر على ارتداء البرقع "النقاب" لدخول السوق. ورغم اختلاف المشهدين، إلا أن الرسالة واحدة: جسد المرأة ووجودها تحوّلا إلى ساحة معركة للدولة الذكورية.

هذا التشابه يفضي إلى استنتاج يتجاوز الحدود الوطنية: كراهية النساء ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي أساس الأزمات التي تعصف بالأنظمة. فالدول وهياكل السلطة تحافظ على وجودها عبر تغذية المشاعر المعادية للمرأة في المجتمع. ومن هنا، يصبح من الضروري التأكيد على أن الدولة نفسها هي محور العنف ضد المرأة.

بحلول عام 2025، يتبلور خط نضال المرأة في مواجهة العقلية التي أنتجتها "الدولة الذكورية". ولا يمكن الوصول إلى حل حقيقي إلا عبر بناء مجتمع ديمقراطي، قائم على التعايش الحر والتمثيل المتساوي، يعترف بهوية المرأة ويضمن مشاركتها الفاعلة. إن نظاماً ديمقراطياً يقوده النساء ويقوم على شراكة حقيقية، قادر على تحويل الشرق الأوسط إلى فضاء جديد يُبشر بعهد من حرية المرأة وكرامتها.