هاتاي بعد الزلزال... أكثر من ثلاثون شهراً من الأزمات المستمرة

رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على الزلزال، أكدت عالمة الاجتماع زينب كريكايا، على أن النساء في ولاية هاتاي لا زلن تواجهن أزمات يومية تمس حياتهن وصحتهن بشكل مباشر.

بنفش ستيرك

هاتاي ـ تُعد مدينة هاتاي من أكثر المناطق التي تأثرت بكارثة الزلزال بشكل واضح. وفي هذا السياق، يقدّم تقرير "الشهر الثلاثون بعد الزلزال"، الصادر عن فرع هاتاي لنقابة عمال الصحة والخدمات الاجتماعية (SES)، تقييماً شاملاً للتحديات المستمرة التي تواجه المدينة.

يشير تقرير "الشهر الثلاثون بعد الزلزال"، إلى استمرار الأزمات الخطيرة في هاتاي، من بينها ارتفاع ملحوظ في نسبة تعاطي المخدرات بين الأطفال، والتي تضاعفت تقريباً. كما يكشف أن العديد من المرافق الحيوية، مثل دور رعاية المسنين، مراكز إعادة التأهيل، مراكز دعم الأطفال، ودور إيواءهم، لم تستأنف نشاطها حتى بعد مرور عامين على الكارثة، ما يعكس حجم التعطّل في الخدمات الاجتماعية الأساسية.

وأوضح التقرير أن المراكز المجتمعية للصحة النفسية، التي تُعد أساسية في متابعة وعلاج الاضطرابات النفسية المزمنة، لا تزال غير قادرة على استئناف عملها منذ وقوع الزلزال. كما يشير إلى أن العديد من المؤسسات المهنية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في المنطقة اضطرت إلى تعليق أنشطتها بسبب التحديات المالية والعوائق الإدارية، مثل متطلبات الاعتماد.

وبحسب التقرير فإن نحو 45 ألف شخص من مجتمعات الدوم، والعبدل، والروم المقيمين في أنطاكيا ما زالوا بلا مأوى، ويعيشون في حالة من الضياع دون معرفة ما يجب عليهم فعله. كما أن تعثّر إعادة الإعمار وتوفير الخدمات الأساسية يفاقم من الأزمات الصحية، خاصة فيما يتعلق بصحة النساء.

فالنظام السكني الحالي في المناطق المتضررة من الزلزال، بما يشمله من مساكن مؤقتة، ونقص في البنية التحتية الأساسية كالمياه والكهرباء والغاز الطبيعي، إضافة إلى تلوث الهواء الناتج عن أعمال البناء، وغياب المرافق الاجتماعية، كلها عوامل تترك أثراً سلبياً مباشراً على الصحة النفسية والجسدية للنساء في تلك المناطق.

ساهمت بعض العادات الاجتماعية التقليدية، مثل الزواج المبكر القسري، إلى جانب الظروف الصعبة التي خلفها الزلزال، في تفاقم العديد من المشكلات الصحية في المنطقة، بدءاً من الصحة الإنجابية والإنتاجية وصولاً إلى الصحة النفسية.

في هاتاي، أدى نقل المخيمات بعد الزلزال من مراكز المدن إلى المناطق الريفية إلى ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد صعوبة الوصول إلى الغذاء الأساسي، مما دفع السكان إلى الاعتماد بشكل أكبر على الزراعة المنزلية في الحدائق والبساتين لتلبية احتياجاتهم اليومية. وقد لوحظ أن النساء يشاركن في هذه الأنشطة الإنتاجية رغم التحديات، نظراً لدورهن المحوري في دعم الاقتصاد الأسري.

وفي ظل غياب فرص العمل والتعليم، يُطلب من النساء أيضاً تولي مهام إنتاج الأدوات المنزلية، مما يزيد من الأعباء الملقاة على عاتقهن ويعكس حجم الضغط الاجتماعي والاقتصادي الذي يتحملنه في ظل هذه الظروف القاسية.

 

الحرمان من الخدمات الصحية

شاركت عالمة الاجتماع زينب كيريكايا، وهي السكرتيرة القانونية لفرع نقابة عمال الصحة والخدمات الاجتماعية في هاتاي (SES)، تجربتها حول التحديات التي ظهرت بعد الزلزال وما تزال مستمرة حتى اليوم. حيث تعمل في المدينة منذ ما يقارب 11 عاماً، وكانت تقيم فيها قبل وقوع الزلزال، واستمرت في أداء مهامها بعد الكارثة دون انقطاع.

وأكدت على أهمية العمل في مجال الخدمات الاجتماعية، مشيرةً إلى أن هذا المجال يمنحها فرصة للتواصل المباشر مع عدد كبير من الأفراد، مما يتيح لها فهم احتياجاتهم عن قرب والمساهمة في دعمهم، وهو ما يمنح عملها بُعداً إنسانياً عميقاً.

وسلّطت زينب كريكايا الضوء على التحديات التي تواجهها النساء في مرحلة ما بعد الزلزال، مشيرةً إلى أنهن يعانين من ضغوط كبيرة في مختلف جوانب الحياة، سواء داخل المنزل أو خارجه، وحتى في المجال الاجتماعي "لقد دخلنا الشهر الثاني والثلاثين أو الثالث والثلاثين بعد الزلزال، لكن كما رأينا خلال جولتنا اليوم، لا تزال العديد من المشكلات قائمة في المدينة. من إعادة التوطين إلى الوصول إلى الخدمات الصحية، ومن التنقل إلى البنية التحتية، هناك الكثير من الأزمات المستمرة".

وأضافت أن النساء إلى جانب هذه التحديات، يُجبرن على تحمل مسؤوليات إضافية داخل المنزل، تشمل رعاية الأطفال، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة، مما يزيد من العبء النفسي والجسدي عليهن في ظل غياب الدعم الكافي.

وأشارت زينب كريكايا إلى أن الظروف الراهنة دفعت النساء إلى الانعزال عن الحياة الاجتماعية، وأجبرتهن على البقاء داخل المنازل وتحمل أعباء إضافية "هذا الواقع يخلق ضغوطاً متزايدة على النساء. بعد الزلزال، تقلّصت فرص العمل بشكل كبير، وأصبح العثور على وظيفة والحفاظ عليها خاصة بالنسبة للنساء، أمراً بالغ الصعوبة. وغالباً ما تكون الأعمال المتاحة غير مستقرة، مما يضطر النساء إلى تولي مسؤوليات رعاية الأطفال، والمرضى، وكبار السن داخل المنزل".

ومن منظور الخدمات الاجتماعية، أوضحت أن عدد النساء اللواتي يلجأن إلى طلب الدعم الاجتماعي قد ارتفع بشكل ملحوظ "بعد الزلزال، ازداد توجه النساء نحو طلب المساعدة الاجتماعية. ورغم أن هذه المساعدات تبدو وكأنها دعم مالي، إلا أنهن لا يستفدن منها بشكل مباشر، إذ تُنفق غالباً على احتياجات المنزل الأساسية، وليس على تلبية احتياجاتهن الشخصية. فهن لا يجدن مساحة لاستخدام هذه المساعدات لأنفسهن، مما يجعلهن يشعرن بأنهن محاصرات في واقع لا يمنحهن فرصة للتحرر أو الاستقلالية".

وأضحت زينب كريكايا أن المسؤوليات المنزلية تقع بشكل كبير على عاتق النساء، حيث يتحملن أعباء رعاية الأطفال وكبار السن، مما يجعلهن مرتبطات بالكامل بالمنزل "بتن معزولات تماماً عن الحياة الاجتماعية. فبسبب ظروف المدينة، أصبح الخروج والمشاركة المجتمعية أمراً بالغ الصعوبة. لا توجد وسائل نقل عامة فعالة، وبعد الساعة المحددة مساءً، يصبح التنقل تحدياً حقيقياً، خاصة مع وجود العديد من الشوارع غير الآمنة. في ظل هذه الظروف، تضطر النساء للبقاء داخل منازلهن، ويجدن أنفسهن في دائرة مغلقة من الضغط النفسي والاجتماعي".

وأضافت أن العديد من النساء بدأن في طلب الدعم النفسي نتيجة لهذا الضغط المتراكم، مشيرةً إلى أن الوصول إلى خدمات الدعم لا يزال صعباً، وأن آليات تقديم هذه الخدمات لهن تواجه تحديات كبيرة "رغم مرور أكثر من 32 شهراً على الزلزال، لا تزال المشكلات قائمة، خاصة بالنسبة للنساء. حتى قبل الكارثة، لم تكن منظومة النقل العام في هاتاي فعالة، وكان مجرد رؤية حافلة بعد الساعة المحددة مساءً يُعد أمراً نادراً، أما بعد الزلزال، فقد أصبح خروج النساء شبه مستحيل بسبب إغلاق الطرق، وظهور مسارات غير آمنة، مما زاد من تعقيد الوضع وصعّوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية".

 

آثار الزلزال تتجاوز البنية التحتية

عند التجوّل في مركز مدينة هاتاي، تبرز مشاريع البناء التابعة لمؤسسة الإسكان التركية (TOKİ) تحت الجسور وفي مناطق متعددة، حيث يصعب تجاهل تأثير الغبار والدخان الناتج عنها على صحة السكان. ويزداد الوضع سوءاً مع الانقطاعات المتكررة للكهرباء، مما يفاقم من تدهور الظروف المعيشية.

وفي هذا السياق، أشارت زينب كريكايا إلى أنه "تضطر النساء إلى العودة لمنازلهن قبل حلول الظلام، إذ لا توجد وسيلة نقل عامة فعالة. كما أن مشاريع البناء تسببت في إغلاق العديد من الطرق بشكل كامل، مما زاد من عزلة السكان وصعّب عليهم التنقل والوصول إلى الخدمات الأساسية".

وتطرقت للتحديات الصحية التي تواجه النساء في هاتاي، مشيرةً إلى أن بقاءهن داخل المنازل نتيجة الظروف الصعبة يزيد من صعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية. وأن العزلة التي فرضتها جائحة كورونا، تلتها كارثة الزلزال بعد عام واحد فقط، عمّقت هذه الأزمة الصحية بشكل كبير.

وأضافت أن العديد من النساء غير قادرات على إجراء الفحوصات الطبية الدورية "في المدينة كانت اختبارات الكشف المبكر عن سرطان عنق الرحم وفيروس الورم الحليمي البشري محدودة للغاية. مركز KETEM يستغرق وقتاً طويلاً لتوفير هذه الخدمات، ورغم توفرها منذ عام تقريباً، إلا أنها لم تُفعّل بشكل فعّال. حالياً، يجري قسم الطب دراسة حول هذا الموضوع، لكن البيانات الميدانية تشير إلى تزايد حالات الإصابة، خاصة بسرطان عنق الرحم".

وشددت على ضرورة تحمّل الحكومة التركية لمسؤولياتها "لكي تتمكن هذه المنطقة من التعافي بشكل فعّال وسريع، يجب على الجهات الرسمية أن تبادر بتوفير الخدمات الصحية الأساسية، وأن تضمن وصول النساء إليها دون عوائق".

 

"أملنا كبير رغم الإرهاق وقصص الصمود كثيرة"

وأكدت زينب كريكايا أنه رغم مرور ثلاث سنوات على الزلزال، لا تزال آثار مشاريع البناء، السلبية تلقي بظلالها على الحياة اليومية في هاتاي، مشيرةً إلى أن عدداً محدوداً فقط من المشكلات تم التعامل معه حتى الآن "ما زلنا نواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بإعادة التوطين. الطرق لا تزال غير مكتملة، بعضها لم يُمهد بعد، وبعضها الآخر مغلق تماماً بسبب أعمال البناء. في ظل هذه الظروف، من الضروري أن تعود الحياة إلى طبيعتها في أقرب وقت ممكن. لقد مرت ثلاث سنوات، ولا نعلم إلى متى سيستمر هذا الوضع".

وأضافت "لكي تعود الحياة إلى طبيعتها، يجب أن تستعيد المدينة بنيتها التحتية بشكل فعلي وملموس. فطالما أن المدينة لم تتعافى، لن يتمكن الناس من التعافي أيضاً. وإذا استمر هذا الجمود، سيظل السكان يواجهون نفس المشكلات النفسية والاجتماعية، ونفس مشاعر الاكتئاب. لذلك من الضروري معالجة هذه الأوضاع بجدية، والانطلاق في إعادة بناء الحياة من جديد، بدءاً من الأساسيات".

وعبّرت زينب كريكايا عن شعورها بالإرهاق من تكرار عبارة "آمل أن تُحل هذه المشكلة قريباً"، لكنها لا تزال متمسكة بالأمل في أن تجد هذه القضايا حلولاً حقيقية "نبذل كل ما في وسعنا. نحاول تسليط الضوء على المشكلات التي تؤثر على العاملين في قطاعي الصحة والخدمات الاجتماعية، وكذلك على الرأي العام، قدر الإمكان. فالجميع، من الموظفين إلى المستفيدين من الخدمات، يواجهون هذه التحديات يومياً".

وأوضحت "هذه ليست مشكلات تخص الفئات المهمشة فقط، بل تطال الجميع، من موظفي الدولة إلى العمال. لذلك، نسعى جاهدين لجعل هذه الأزمات مرئية وملموسة على أرض الواقع، بما يتناسب مع حجمها الحقيقي. آمل أن تؤتي جهودنا ثمارها، وأن تسهم في دفع عجلة التغيير نحو الأفضل".

وأفادت زينب كريكايا أن النساء من مختلف أنحاء تركيا قدّمن دعماً كبيراً لمدينة هاتاي بعد الزلزال، مشيرةً إلى أن العديد من الخيام أُنشئت لتقديم الطعام والمساعدة. وذكرت أن زميلاتها في الميدان لاحظن حاجة ملحّة لدى النساء لتوفير خيمة خاصة بهن، تُلبّي احتياجاتهن الشخصية "في المراحل الأولى بعد الزلزال، كانت بعض النساء يشعرن بالتردد والخجل عند طلب هذه الاحتياجات، خاصة في ظل الجوع والظروف الصعبة. لكن الفوط الصحية وغيرها من المستلزمات ليست رفاهية، بل هي من أبسط الحقوق والاحتياجات الأساسية للنساء".

وأشارت في ختام حديثها إلى أنه تم إنشاء خيمة مخصصة لهذا الغرض "كان هذا المكان فريداً من نوعه، حيث لم يكن هناك أي مساحة أخرى تُوفّر للنساء الراحة والخصوصية لتلبية احتياجاتهن. ومع الوقت، بدأت النساء بالتوافد إلى هذا المكان، وأدركن أهمية هذه الخدمات. من هنا، أؤمن بأن هذه المبادرة شكّلت نموذجاً ناجحاً للتضامن. ورغم أن حضور النساء في البداية لم يكن كبيراً، إلا أننا نعلم أن هذه المساحة ضرورية وأساسية، تماماً كما هو الحال مع توفير الطعام والماء".