بنفس الحبر الطائفي المسموم كتبت مجازر شنكال والساحل السوري والسويداء
في السنوات الأخيرة شهدت منطقة الشرق الأوسط ما يمكن وصفه بالحرب العالمية الثالثة، تم فيها استهداف الشعوب المسالمة من قبل الجماعات الجهادية، بالمقابل غض المجتمع الدولي النظر عما ارتكبته هذه الجماعات من جرائم ضد الإنسانية.

سناء العلي
مركز الأخبار ـ عندما يحارب الإرهاب الاختلاف ترتكب المجازر الطائفية والعرقية، وهو الحال في العديد من الجرائم المرتكبة عبر التاريخ، ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم استهدفت الشعوب رغم اختلافها من قبل الجماعات الجهادية.
منذ أن ثبت الإرهاب أقدامه في الشرق الأوسط، ولقي الدعم الكبير من قبل قوى إقليمية ودولية، وبضخ إعلامي عربي غير مسبوق استهدف الجهاديون ما تسميه الدول القومية بـ "الأقليات"، وهي شعوب أصيلة في المنطقة كالسريان والكرد والدروز وغيرهم.
من أبرز المجازر المرتكبة في العقد الأخير هي مجزرة شنكال التي استهدف فيها داعش الإيزيديين، وارتكب الفرمان 74 بحق المدنيين والعزل، وكذلك هجوم جهاديي هيئة تحرير الشام بمباركة القوى الدولية على علويي الساحل السوري ودروز السويداء جنوب البلاد.
صناعة غربية وبيئة حاضنة
صنع الإرهاب من قبل مخابرات غربية وعربية، ووجد بيئة حاضنة، وربما مؤسس لمحاربة الآخر المختلف من فتاوى ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما ممن يكفرون كل من يفكر، ويستهدفون المرأة، وربما ليس من المبالغة القول أن نهجهم يقوم على احتقار المرأة، ولذلك عندما هاجم داعش شنكال نكل وقتل الجميع، وأمعن في إذلال النساء، فافتتح أسواق لبيعهن، وعندما هاجم جهاديي هيئة تحرير الشام، ومعظمهم حاربوا في صفوف داعش، الساحل السوري، أعادوا الكرة مرة أخرى باختطاف نساء من الطائفة العلوية، واللاتي ما يزال مصير العديد منهن مجولاً، ورغم المقاومة التي أبداها أهالي السويداء في التصدي للهجوم إلا أن الجهاديين الذي يحاربون من أجل الغنائم والنساء تمكنوا من اختطاف درزيات واغتصاب أخريات.
لماذا يستخدم الاغتصاب خلال الحروب؟
لا يجوز تفسير الاغتصاب في الحروب من منظور أنه غريزة بشرية فقط. المؤرخة والناشطة الأمريكية سوزان براون ميلر (1935) صاحبة الكتاب الشهير "ضد إرادتنا: الرجال والنساء، والاغتصاب" الصادر عام 1975، هي أول مؤرخة أجرت دراسات عامة عن الاغتصاب خلال الحرب، وقالت إن هذه الممارسة تنم عن حقد وازدراء تجاه النساء، وقالت أيضاً أن الرجال يجدون أن الحرب هي أفضل وقت ليعبروا عن هذا الاحتقار.
كذلك لا يمكن إهمال نقطة مهمة، وهي أن سهولة الإفلات من العقاب، وعدم القدرة على ملاحقة الجناة، أسباب تشجع على ازدياد حالات الاغتصاب خلال الحروب، كما أن ثقافة النهب والسلب تصل للاعتقاد بأن النساء من الأشياء التي يمكن استغلالها أيضاً، واغتصابهن يذل المعتدى عليه.
وللإنصاف الاغتصاب ليس ممارسة مرتبطة بالجماعات الإسلامية فقط، ففي حروب البوسنة والهرسك مارس الجنود الاغتصاب لإذلال الطرف الآخر، وللتطهير العرقي، وفي عام 2017 الجيش البورمي في هجومه على ولاية راخين التي يعيش فيها مسلمي الروهينغا اغتصب النساء، وقالت منظمة هيومن رايتش ووتش المعنية بمراقبة حقوق الإنسان إن "قوات الأمن البورمية ارتكبت عمليات اغتصاب واسعة النطاق ضد النساء، والفتيات، كجزء من حملة تطهير عرقي ضد مسلمي الروهينغا، في ولاية راخين".
الاختطاف والاغتصاب الديني تحت مسمى "السبي"
مورس السبي من قبل جيوش العالم القديم، عندما كانت القبائل تغير على بعضها، وتأخذ النساء والأطفال للعمل كعبيد، ويعود لآلاف السنوات كما حدث لليهود بما يعرف بـ "السبي البابلي"، وهي فترة في التاريخ اليهودي أُسر فيها عدد كبير من اليهود من مملكة يهوذا القديمة، ولكن لم يتم استهداف النساء بشكل خاص كما تفعل الجماعات الجهادية اليوم، وهناك العديد من الآيات والأحاديث التي تُعزز هذه الممارسة في ظل رفض فلترة أو تصفية التراث الإسلامي، ونبذ ما يخالف شريعة حقوق الإنسان، وحقوق المرأة.
أما ممارسة الاختطاف والاغتصاب لدى الجهاديين "السبي"، فهي نتيجة حتمية للدعاية التي تقدمها الجماعات الجهادية بهدف جذب أكبر عدد من الرجال وخاصة الشبان، وعلى ذلك حرصت هذه الجماعات على إغراءهم عبر خطاب يحاكي غرائزهم وليس عقولهم، ليقوموا بهذه الجريمة البشعة بكامل إيمانهم بأحقيتهم بممارستها، وإصدار الفتاوى التي تريحهم من عذاب الضمير إن وجد، فالسبي والغنائم هما الوقود الذي يدفع هؤلاء الشبان نحو ارتكاب الجريمة، من خلال استغلال الجهل، والفقر، والكبت الجنسي في المجتمعات الشرقية، والمسلمة عموماً.
إذلال المرأة لدى الفكر الوهابي
في الفكر الوهابي الأب الشرعي لجميع الحركات الجهادية، تعتبر المرأة "أداة ـ شيء"، لا أكثر من ذلك، وفي عقيدتهم "الولاء والبراء"، يتم تكفير الآخر، والبراءة منه، وبالتالي استحلال ماله، ودمه، وعرضه، ورفع الفكر الوهابي من مصداقية الأحاديث المنسوبة للنبي محمد، والتي تؤسس لدونية المرأة، مثل "المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر بصورة شيطان، ناقصات عقل ودين، يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار ـ أي أنها وضعت بمقام الحيوانات ـ وقيل أيضاً عن النبي محمد، أنه قال ما أفلح قوم ولوا شؤونهم لمرأة"، وبالنسبة لهذا الفكر تأتي الأحاديث في المقام الأول قبل القرآن، مع العلم أن علم الحديث يجب ألا يستدل به، كونه كُتب بعد وفاة النبي محمد بـ 200 عام، ومن كتبه من بلاد فارس أي يبعدون عن الجزيرة العربية ما يقارب 2000 كم، سواء كان البخاري أو مسلم، وهذا ما يجادل به المطالبين بتنقية التراث الإسلامي بكون هذه التعاليم تتناقض مع الإنسانية.
داعش يعيد زمن السبي
أقوى تنظيم تكفيري عرفه التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين هو تنظيم القاعدة، الذي أسس للعديد من التشكيلات الجهادية في عدة بلدان، وأبرزها داعش الذي سيطر على مساحات واسعة من سوريا، والعراق منذ عام 2014، وحتى دحره عام 2019 من آخر معاقله في بلدة الباغوز، بمقاطعة دير الزور، في إقليم شمال وشرق سوريا، والذي عنف النساء وعمل على استعبادهنَّ جنسياً، وكانت الإيزيديات أبرز ضحاياه عندما هاجم شنكال في الثالث من آب/أغسطس 2014، واختطفت 3,504 امرأة و2,869 رجلاً، وتعرضت في تلك الفترة السوداء من تاريخ الإيزيديين آلاف الفتيات لأبشع الانتهاكات، بما في ذلك الاستعباد الجنسي، والتعذيب، وما تزال العديد منهن مختطفات، ووفق إحصائيات رسمية قتل ما يصل إلى 5 آلاف إيزيدي.
الجهادية... يد الغرب التي تؤرق الشرق وتُنكل به
منذ أن اتفقت القوى الدولية والإقليمية على إنهاء حكم البعث في سوريا، كان المخطط تسليم السلطة للجهاديين لكي تقوم هذه الأداة بارتكاب المجازر بحق السوريين ودفعهم للمطالبة بالتقسيم، وبذلك تتحقق إرادة الإسرائيلي بتفكيك وتفتيت سوريا لكيلا تشكل أي خطر على وجودها، وهو مخطط يتم تنفيذه في جميع دول المنطقة وبدأ باحتلال العراق عام 2003، ورفع الخطاب الطائفي بين السنة والشيعة، والتهديد المستمر بإنهاء استقلال إقليم كردستان، ثم تقسيم السودان عام 2011.
ولعل ما صاغته المدارس الحنبلية المتأخرة والوهابية، كما أسلفنا، يظهر كماً هائلاً من النصوص والفتاوى التي تكفر تقريباً كل من يخالفها حتى المسلمين أنفسهم، وهذا ما قامت عليه الدولة العثمانية التي حاولت قتل أي اختلاف خلال احتلالها المنطقة لأربعة قرون.
وليست فقط الدولة العثمانية من استفادت من هذا الموروث الديني المقيت، ولكن الغرب عرف كيف يعزف على أوتار الاختلاف في المنطقة، ليعزف لحن الموت، فلا تجد بلداً من الشرق الأوسط إلا ويقف على شفى حرب طائفية أو أهلية من تركيا وإيران إلى البحرين والأردن، ولبنان والسعودية نفسها حيث يتململ الشيعة بانتظار أي ضوء أخضر أمريكي إسرائيلي لقلب نظام الحكم على آل سعود.
في سوريا لم تنتصر الوطنية
وفي سوريا بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، انتصر الخطاب الذي يسألك عن دينك ومذهب، وأصبحت سوريا بعد أفغانستان ثاني بلد تحكمه القاعدة، ويصبح أحد قادة الجهادية "أبو محمد الجولاني" رئيساً لها باسم أحمد الشرع، ومنذ الأيام الأولى لما يسمى بـ "التحرير" بدأ التنكيل بالشيعة في ريف حمص، وبعد أشهر قليلة تجلى وجه الإرهاب في الهجوم الوحشي على العلويين، بعد سحب أسلحتهم منهم باتفاقية غير عادلة بُنيت على الثقة مع طرف لا يحترم الميثاق والعهد.
بدأت المجازر بالقول أنها ضد فلول النظام، في السادس من آذار/مارس 2025، أي بعد أشهر فقط من استلام هيئة تحرير الشام للسلطة، ورغم التعتيم الإعلامي من قبل وسائل الإعلام العربية، جراء ارتباطاتها بدول تدعم هذه السلطة، خرجت شهادات من الساحل عبر الجهات المحايدة ووسائل التواصل الافتراضي التي وثقت الجرائم بفيديوهات صادمة، وبعد أشهر من المجازر، كشف تقرير لرويترز صدر في حزيران/يونيو 2025 أن ما لا يقل عن 33 امرأة من الطائفة العلوية من حماة، وحمص، واللاذقية، وطرطوس تتراوح أعمارهن بين (16 ـ 39) عاماً تعرضن للاختطاف خلال الهجوم، منهن نقلن إلى إدلب، وأخريات إلى خارج سوريا، وأطلق المختطفون سراح 14 مختطفة، والبقية مصيرهن ما يزال مجهول.
ما بين رجل وامرأة طفل ومسن قتل نحو 1500 مدني علوي، وسيناريو الإيزيديات تكرر مرة أخرى، فالمختطفات أصبحن سبايا، ولا يُعرف أين هن الآن، تعرضن لعنف مضاعف، فمنهن من أجبرن على الزواج من المختطف مع أنهن متزوجات، وتقرير رويترز نفسه تناول شهادة عائلات شابتين أجبرتا على تبليغ عائلتيهما بضرورة أن يطلقهما زوجيهما لكي تتزوجا من الخاطفين رغماً عنهما، كذلك تم ابتزاز عائلات لدفع فدى مالية، وحتى بعد الدفع لم يتم إطلاق سراح أي واحدة منهن.
لا مبدأ للمرتزق أو الجهادي، ولكن هناك إيدلوجية هي أساس لجميع ممارساته، وفتاوى كشماعة يعلق عليها رغباته، وهي تتعارض مع مبدأ المواطنة، وتبحث في دين الأشخاص وطوائفهم، فمرتزقة هيئة تحرير الشام الذين هم أبناء داعش المخلصين، وأحفاد القاعدة، يتبعون منهج ابن تيمية الذي قال عن الطائفة العلوية "الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع، وإن كانوا في الباطن كفارا منسلخين عن كل ملة، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدعون إلهية علي، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين".
من يشفع للدروز؟
الطائفة العلوية محسوبة على الإسلام وكفرها ابن تيمية، لتمهد فتواه الطريق لما حدث بها من مجازر، فما بالك بالدروز، وهم خارج الدين الإسلامي، كما الإيزيديين لا شفيع لهم.
أول توتر بين الحكومة المؤقتة والدروز بدأ من جرمانا، عندما هاجم جهاديي هيئة تحرير الشام المنطقة التي تعد من الأماكن الرئيسية التي يسكنها الدروز في العاصمة دمشق، وبعد قتال وتصعيد اتجهت العائلات الدرزية إلى الجنوب تاركة منازلها وكل ما تملك، ولم يكتفي نظام أحمد الشرع "الجولاني" حديث العهد بما ارتكب، فاتجه نحو الساحل، وارتكب الجهاديين ما ارتكبوا من جرائم تطهير عرقي، ثم عاد هؤلاء للانتقام من الدروز الذين رفضوا الانضمام لسلطة الجهاد، فدفع أحمد الشرع "الجولاني" بالبدو في مدينة السويداء للهجوم على جيرانهم الدروز، وليورطهم في جرائم التطهير العرقي، وليضمن الجولاني حسم المعركة لصالحه وتذرع بإرسال قوات لفض الاشتباك، قبل أن يتبين أن هذه القوات جاءت لتقاتل الدروز.
وخلال الهجوم على المدينة في تموز/يوليو قتل 1709 شخص معظمهم دروز، وتم توثيق حالات اغتصاب لنساء، وقاصرات من قبل جهاديي هيئة تحرير الشام، وبشهادة خبراء من الأمم المتحدة، اختطف ما لا يقل عن 105 نساء من المكون الدرزي من قبل جهاديي هيئة تحرير الشام، ولا يزال 80 منهن في عداد المفقودين، وعدد من اللواتي أُطلق سراحهن غير قادرات على العودة إلى منازلهن خوفاً على سلامتهن، وفيما لا يقل عن ثلاث حالات درزيات تعرضن للاغتصاب قبل أن يتم إعدامهن، كما لا يزال 763 شخصاً، من بينهم نساء، في عداد المفقودين.
الترقيع لم يعد يفيد... سوريا بحاجة لحل جذري
مع استمرار اختطاف البلاد من قبل القاعدة، تستمر المضايقات بحق الطائفة العلوية في الساحل، والأحياء الدمشقية، مما يفتح الطريق أمام القوى الطامعة لوضع موطئ قدم لها في سوريا كالروسي، والنظام السابق والاحتلال التركي، والمجازر بحقهم دفعت أهالي السويداء للانتفاض طلباً للاستقلال، وإسرائيل تدفع باتجاه تأجيج الوضع، وخطاب الكراهية على وسائل إعلام الحكومة المؤقتة مستمر تجاه إقليم شمال وشرق سوريا، ويُنفخ في نار الفتنة بين الكرد والعرب، فالصورة ليست ضبابية بل مقيتة في سوريا، ولكن مع ذلك يأمل الشعب السوري أن بعد هذا المخاض العسير، ستصل سوريا إلى نظام ديمقراطي، لا مركزي، تعددي، تحترم فيه المرأة وحقوقها، لأن سوريا لا يمكن لها إلا أن تكون بلد التنوع والانفتاح بلد تتساوى فيه المرأة مع الرجل.