العنف المسلط ضد المرأة في الوسط المهني... حقائق صادمة وتداعيات خطيرة

شكاوى بالجملة تستقبلها المنظمات والجمعيات النسوية يومياً من العنف المهني المسلط على المرأة، عنف مسكوت عنه رغم تداعياته الخطيرة. فمن يوقف نزيف الاعتداءات ويحد من تواصل الانتهاكات المسلطة على التونسيات بمقر العمل؟

نزيهة بوسعيدي

تونس ـ حقائق صادمة حول العنف ضد المرأة بالوسط المهني بجميع أشكاله الجنسي المادي النفسي الاقتصادي ترويها النساء المعنفات لوكالتنا التي أطلعت على دراسات كشفت عن مدى هول الظاهرة وتداعياتها الخطيرة.

عن تجربتها مع العنف في الوسط المهني، تقول الدكتورة أنيسة حمزة لوكالتنا "تعرضت للعنف من قبل الناطق الرسمي باسم اعتصام "الكامور" طارق الحداد وأخيه وزوج شقيقته بمقر عملي بقسم الاسعافات الأولية بمحافظة تطاوين"، مشيرةً إلى أن الحداد جاء للقسم برفقة أخيه بينما يفترض به أن يتوجه إلى قسم العيادات الخارجية لأن حالته ليست اسعافية.

وأضافت "زميلتي من القسم شبه الطبي رفضت القيام بالتصوير فوجه لها كلمات خادشة للحياء وعندما حاولت توثيق الاعتداء اتجه نحوي محاولاً سحب الهاتف من يدي مستعيناً بأخيه فحاولت الهروب منهما والعودة إلى مكتبي لكنهما تبعاني فاستدرت لهما متسائلة مشاورة بيدي ماذا تريدان مني؟".

وتابعت "كانت ردة فعله إن ضربني على يدي فحاولت التخلص من شرهما والتوجه إلى غرفة الاستمرار وأغلقت الباب بالمفتاح واتصلت بالشرطة، بعد مضي نصف ساعة اعتقدت أن الوضع أصبح أكثر هدوءً فعدت إلى عملي غير إني وجدت شخصاً اعتقدته في البداية أحد عناصر الشرطة قبل أن يتبين أنه زوج شقيقته".

وهنا تعرضت أنيسة حمزة للعنف للمرة الثانية من قبل الرجل كما أوضحت، إذ بمجرد دخول مكتبها تبعها ليخاطبها بصوت مرتفع قائلاً "تدفعين الرجال" ثم رفع كرسياً ورماه على رأسها وأمام الدهشة مما حصل نزعت الكرسي وأرادت إبعاده عنها وحينها خرج يجري في المدخل قائلاً "ضربتني" فازداد هيجان المجموعة المرافقة له غير أن وجود الأمن أنقذ الموقف.

وأشارت إلى أن طارق الحداد نشر فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي لنعتها، فقامت بتوثيقه وتقديمه كمستند إضافي للشكوى، وحول مآل التقاضي تقول "تمسكت بحقي في التتبع قضائياً وتم الحكم بسنة سجناً على طارق الحداد وزوج شقيقته وهذا الأخير حالياً في السجن غير أن الحداد غير موجود ولم يتمكنوا من تنفيذ الحكم ضده".

ما حدث للدكتورة أنيسة حمزة نهاية شهر شباط/فبراير الماضي، شغل الرأي العام التونسي وألهب مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تندد بالعنف ضد المرأة في الوسط المهني وانعكاساته السلبية على وضعها النفسي.

ولأن مثل قطاع الصحة الفضاء المهني الأكثر تسجيلاً لحالات العنف ضد النساء العاملات في تونس، فإن قطاع الإعلام أيضاً تحول خلال العشرية الأخيرة إلى فضاء لممارسة العنف ضد الصحفيات، ووفقاً لمرصد السلامة المهنية التابع لنقابة الصحفيين تعرضت 86 صحفية إلى 104 اعتداءات خلال 67 مناسبة 20 منها على أساس النوع الاجتماعي.

كما تتعرض الصحفيات يومياً لمختلف أشكال العنف في مقرات العمل من قبل رؤساء العمل وزملائهم وصولاً إلى الشارع والإدارات، وفي هذا الإطار تقدمت مؤخراً إعلامية بمنظمة وطنية بشكوى للاتحاد الوطني للمرأة التونسية إثر تعرضها للتحرش الجنسي من قبل رئيسها في العمل.

 

 

أسباب متعددة وراء العنف القائم على النوع الاجتماعي

أسباب عديدة وراء الوصول إلى هذا النمط من العنف القائم على النوع الاجتماعي في الوسط المهني، ولأنها امرأة لا يمكن أن تكون قائدة لفريق عمل أو تقلد منصب داخل الدولة، ويجب أن تخضع لإرادة رئيسها في العمل، وهذا راجع وفقاً للباحثين في قضايا العنف المسلط ضد المرأة إلى الصورة النمطية التي علقت بها على مر التاريخ والنظرة الدونية التي التصقت بها وتم ترسيخها في المجتمع التونسي.

ومع تزايد الشكاوى من قبل النساء في مختلف الأوساط المهنية تم إعداد دراسة حول العنف المسلط ضد المرأة في الفضاء المهني بمحافظة القيروان، كشفت الأسباب الأساسية وراء العنف في أماكن العمل خاصة في العمل الهش أو غير القانوني أو غير المهيكل الذي ينتشر خاصة في القطاع الخاص والقطاع الفلاحي حيث العاملات تتعرضن بصفة يوميّة لشتّى أنواع الإهانة والمسّ من الكرامة.

وبحسب الدراسة يمارس العنف المادي ضد النساء بسبب عدم الرضا عن مجهود العاملة أو طريقتها في العمل أو إنتاجها، لافتاً إلى أن 79% منهن تعرّضنّ إلى العنف الاقتصادي والاستغلال في مؤسسة العمل، و98% من النساء اللواتي أجريت عليهن الدراسة أكدن على غياب التغطية الاجتماعية والنقل غير اللائق وساعات العمل المرتفعة، وذكرت الدراسة أن 61% من النّساء المتزوّجات تعرّضنّ للعنف الجنسي في الفضاء المهني.

وبخصوص انعكاسات العنف على الضحايا أكدت الدراسة أن 70% من العاملات خسرن عملهن كما أدى العنف إلى فتور العلاقة بين العاملة وصاحب العمل وانعدام الثقة فضلاً عن شعور العاملة بضعفها واستغلالها وقد يُفضي كلّ ذلك إلى بطالتها، والحال أنّها تكدّ من أجل توفير لقمة العيش لها ولإفراد عائلتها.

وفي هذا السياق تقول رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي لوكالتنا أن الاتحاد أعد دراسة حول العنف المسلط على النساء كشفت عن ارتفاع نسبة العنف المهني بأشكاله المختلفة، جنسي، لفظي، معنوي، مادي واقتصادي وهو ما يستوجب دق ناقوس الخطر في تونس.

وتقصد بعض المعنفات مركز الإحاطة والتوجيه التابع للاتحاد لوضع حد للضغوطات التي تعيشها، فقد أوضحت الاخصائية الاجتماعية بمركز الإحاطة والتوجيه عربية الأحمر العياري لوكالتنا أن المركز منذ تأسيسه سنة 2003 كان وجهة لجميع الضحايا.

 

 

نهش الجسد

تحول مكان العمل إلى فضاء للتحرش بالمرأة للاستفراد بها لمقايضتها بترقية أو سيارة إدارية أو امتيازات مختلفة قد تحصل عليها مقابل الاستجابة لرغبات العرف أو رئيسها في العمل وفقاً ما توفر للوقائع التي شاهدناها.

وعن ذلك تقول راضية الجربي "خطير ما يحدث فعلاً بالفضاء المهني لأن الاتحاد يستقبل يومياً شكوى موضوعها العنف المهني ومن بينهن مسؤولة بوزارة النقل زارتني بمكتبي لتقديم شكوى وكانت في حالة نفسية يرثى لها لأنها لا تعرف كيف توقف هذه الهرسلة؟ ولا يمكنها إخبار زوجها، لأنه سيتهمها أيضاً كبقية أفراد المجتمع؟".

وأوضحت أن "المرأة تحرم من وسائط النقل مثلاً إذا لم تخضع لإرادة صاحب العمل، كما تحرم من الترقية والحصول على الامتيازات الوظيفية لأنها امرأة وإن حاولت المطالبة بذلك تتعرض لجميع أشكال الهرسلة والتجميد والمضايقات".

وخصت بالذكر الممرضات اللواتي تعملن ليلاً وتجدن أنفسهن في مواجهة الكثير من العنف وعرضة للتحرش "هناك للأسف تسجيلات توثق استخفاف المسؤولين بالواقعة ودعوتهن إلى التعامل بلامبالاة مع العنف الجنسي وتتهمن بتشويه سمعة المؤسسة وتطالبن بالانتقال إلى قسم آخر عوض تقديم شكوى رسمية".

وأكدت راضية الجربي أن هناك رؤساء عمل من يطلب من المرأة الاستجابة لنزواته مقابل الحصول على امتيازات، "هناك صحفية بمنظمة وطنية تعرضت للتحرش من قبل صاحب العمل لجأت إلى الاتحاد لتقديم شكوى، وأنا رئيسة منظمة تعرضت أيضاً للعنف"، مشيرةً إلى أن "المرأة في الخطط السيادية تواجه الكثير من العنف وعندما تلجأ إلى رئيسها في العمل لا تجد المساندة لأن هناك من يؤمن بأن الخطط السيادية حكراً على الرجال وللأسف داخل بعض المسؤولين تغلغلت العقلية الذكورية وحتى القضاة يعانون منها، فشخصياً التقيت قاضياً بمكتبه فحدثته عما تعانيه المرأة من ضغوطات وتراجعات خلال العشرية السوداء ففاجأني بإجابته "لقد حصلتم على جميع الحقوق فماذا تردن أكثر؟" كما وردت علينا شكاوى من نساء تعرضن للعنف من بعض أعوان الأمن عوض حمايتهن".

 

أي دور للمجتمع المدني

العنف المهني المسلط على المرأة ليس فقط من المواضيع المسكوت عنها والتي تحتاج لكسر جدار الصمت لحماية الضحايا من تداعياته الخطيرة، بل إن ضحاياه يجدون صعوبة في إثبات الاعتداء، كما أوضحت راضية الجربي، التي أشارت إلى أن صاحب العمل يستطيع أن يحيل المرأة الشاكية إلى مجلس التأديب ويقع طردها لأن ملفها فارغ.

يبدو في تونس أن الدولة لم تتعامل مع الظاهرة على خطورتها تعاملاً جدياً ولم تقم بدراسة وطنية شاملة تكشف مدى انتشارها وحجم انعكاساتها وتحدد خارطة طريق للحد منها ولم تخرج الموضوع من دائرة الصمت الذي يلفه لسنوات طويلة ولم توفر الإمكانيات المطلوبة لذلك، بينما يقوم المجتمع المدني بمجهود رغم محدودية الإمكانيات ويتجلى ذلك في تنظيم حملات للتوعية والتحسيس واستقبال الضحايا بمراكز الاستماع والإحاطة والتوجيه.

وتعتبر راضية الجربي أن المجهودات للأسف تبقى متواضعة مقارنة بما تتعرض له المرأة في الوسط المهني من هرسلة والمضايقات، ولاحظت أنه رغم مرور أكثر من ستين سنة على صدور مجلة الأحوال الشخصية ورغم القوانين الجديدة والدستور لا زالت المرأة التونسية تجهل الكثير من القوانين لذلك قام الاتحاد بترجمة القانون عدد 58 لسنة 2017 المختص في العنف إلى اللهجة العامية وبلغة البراي وقام بتوزيعه ضمن حملات التوعية.

وتحت عنوان "أوقفوا العنف المؤسساتي القائم على النوع الاجتماعي مما يحد من وصول المرأة الى المواقع العليا في الوظيفة العمومية في تونس"، أطلقت الجمعية التونسية للحوكمة وتكافؤ الفرص بين النساء والرجال في مواقع القرار حملة توعوية تحسيسية بعد رصد الظاهرة في العديد من الإدارات التونسية.

وتقول رئيسة الجمعية آمال صمود الخماري لوكالتنا "عملنا كثيراً على هذا النوع من العنف في الوظيفة العمومية لأنه مسكوت عنه ولأن المرأة تحتل نسبة 70% بالجامعة بينما نسبة التشغيل تصل إلى حوالي 27% فقط، ونسبة تواجدها بمواقع القرار لم تتجاوز الـ 3%".

وأوضحت أنها هي أيضاً تعرضت للعنف المهني عندما حصلت على عضوية مجلس إدارة حيث عمل الجميع على تخويفها وإبعادها عن المنصب لكنها تمسكت به ونجحت في تقديم الإضافة.

 

 

من جانبها قالت المسؤولة بوزارة الشؤون الاجتماعية وناشطة بالمجتمع المدني سنية حسيني "إقصاء المرأة من مواقع القرار هو من أكبر أنواع العنف الذي تعاني منه في مواقع العمل".

 

 

كما لم تنف وزيرة المرأة والاسرة والطفولة والمسنين آمال بلحاج وجود الجانب القاتم في العنف المسلط ضد المرأة بالوسط المهني والمتعلق بانعكاساته السلبية وتداعياته الخطيرة إلا أنه لديها زاوية نظر إيجابية بفضل وجود القانون عدد 58 لمكافحة العنف ضد المرأة من جهة ووجود إرادة سياسية تدعمها لتتقلد أعلى المناصب من جهة أخرى.

وترى آمال بلحاج أن معالجة الظاهرة تحتاج إلى ثقافة جديدة كالكشف وعدم الصمت وتمكين المرأة أكثر من مواقع القرار.

وترى الدراسة التي تم إعدادها حول العنف المهني ضد النساء أن المؤسسات الحكومية المطلعة بمسؤولية مراقبة الأوضاع التشغيلية (تفقدية الشغل) والمهتمة بمجال المرأة (وزارة المرأة) عاجزة عن القيام بدور القاضي التعديلي لردع التجاوزات الخطيرة التي تميز آليات التنقل الهشّ خاصة لدى المرأة، إضافةً إلى التعاطي الإعلامي السلبي مع الظاهرة وعدم التزام العاملين خاصة في القطاع الخاص والقطاع الفلاحي باحترام معايير الشغل اللائق.

 

 

وبناءً على ذلك أكدت الدراسة على ضرورة توفير دليل واضح يحدد مختلف المراحل التي ينبغي أن تتّبعها المرأة المعنفة في وسطها المهني من أجل نيل حقوقها وملاحقة الأطراف المرتكبة للعنف.

وتقترح الدراسة ضرورة الإحاطة النفسية والاجتماعية بالمرأة العاملة المعنّفة، والبحث عن البدائل التشغيلية بالنسبة إلى المعنفات خاصة المتعرّضات إلى الطرد التعسفي بسبب رفضهن للعنف وضرورة تقنين غرامة مالية تُدفع لكل العاملات المعنفات في الأوساط المهنية، ومعاقبة كل المؤسسات التي تثبت فيها ممارسة الأعراف بشكل ممنهج ومتواصل للعنف ضدّ العاملات واستغلال وضعيتهنّ المهنية الهشة.

وللمساهمة في الحد من الظاهرة من الضروري بعث "فضاء خاص بالمعنفات بالوسط المهني" بشبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك لكسر جدار الصمت والاستماع إلى شهادات حية ورصد أكثر ما يمكن من الانتهاكات وفسح المجال للنقاش والتفاعل بين أكبر عدد ممكن من النساء، كما أوضحت الدراسة.