تحديات التغيير التي تواجه المرأة في زمن النزاعات

مقال بقلم الأستاذة أم كلثوم عبد الرحمن
على امتداد الأزمنة، ومع كل تحول في مسيرة الإنسان، كانت النزاعات تتبدل في أشكالها، تتلون في أساليبها، وتتشعب في آثارها. لم تكن مجرد نزاعات عابرة، بل كانت مرايا دامية تعكس هشاشة الإنسان أمام الطمع والسلطة، وفي كل مرة، كانت المرأة والطفل هما الهدف الأكثر هشاشة، والأكثر حضوراً في مشهد الألم.
ومع تطور التكنولوجيا، لم يتراجع العنف، بل تمدد، وتحوّل إلى خيارٍ يُقدَّم كحلٍ مثالي. بات العنف سيد الموقف، يُمارس بقسوة، ويُشرعن في الخطاب، ويُفرض على الأجساد التي لا تملك سوى الصبر. المرأة، في قلب هذه العاصفة، لم تكن هامشاً، بل كانت جوهراً: تطهو للجائع، تسقي العطشى، تداوي الجرحى، وتدفن الموتى بيدٍ ترتجف لكنها لم تتراجع.
وفي لحظة الانهيار، حين تعجز الدول عن احتواء الكارثة، وحين يتوارى صناع الأزمات خلف مصالحهم، تخرج المرأة من الظل، حاملةً فكراً ومبادرة. تسعى، رغم كل شيء إلى التغيير. لكنها تدرك أن الطريق محفوف بالمخاطر، وأن التحديات ليست عابرة، بل متجذرة في بنية المجتمع ذاته.
كيف تبني مجتمعاً سليماً وسط انقسامات عميقة، وفتن متجذرة، وعنصرية متأصلة؟ كيف تغرس القيم في أرضٍ جُرفت فيها المحبة، وتلاشى فيها معنى التعايش؟ كيف تبدأ مشوار التغيير وسط هذا الخراب، وهي تحمل في جسدها ونفسها آثار النزوح، والاغتصاب، والفقر، والجوع، والذل؟
ورغم كل ذلك، لم تتراجع. حملت سلاحاً واحداً ألا وهو الصبر، والثبات، والدفاع عن الحياة. قادت فكراً جديداً، ورفعت شعاراً لا يعرف الانكسار "المرأة تصنع المعجزات، تبني المجتمعات، وتضع أسس السلام".
إنها لا تتحدث بلغة واحدة، ولا تنتمي إلى لونٍ واحد، ولا تقيدها المسافات أو اللهجات. إنها المرأة من إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، من كل بقاع الأرض، تحمل رسالة واحدة أن التغيير ليس حلماً، بل فعل يومي، وأنها في قلبه، لا على هامشه.
وفي خضمّ هذا الفيض من الخراب، لا تكتفي المرأة بأن تكون شاهدةً على الألم، بل تتحوّل إلى كاتبةٍ لسفر النجاة، تكتب بدموعها على جدران الخوف، وتخطّ بأناملها المرتجفة ملامح الغد. لا تملك رفاهية الانتظار، ولا ترف التنظير، بل تزرع خطواتها في أرضٍ لا تعد بشيء سوى المزيد من التحدي. ومع ذلك، تمضي.
هي ليست زهرةً في مهبّ الريح، بل جذرٌ عميق في أرضٍ مجروحة. تعرف أن التغيير لا يأتي على هيئة خطابٍ رنان، بل يولد من رحم المعاناة، من لحظةٍ تقف فيها أمام طفلٍ فقد أمه، أو أمام جدارٍ تهدمه القذائف، وتقول "سأبنيه من جديد، حتى لو بالحكايات"، تعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، لا لتُبقي على الحزن، بل لتمنحه معنى، تحوّل الوجع إلى سرديةٍ مقاومة، وتُعيد للضحايا أسماءهم، وللأرض هويتها، وللأمل ملامحه.
في زمنٍ تُباع فيه القيم في سوق المصالح، وتختزل فيه الإنسانية في أرقامٍ وإحصاءات، تقف المرأة كحارسةٍ للمعنى، ترفض أن يُختزل وجودها في دورٍ وظيفي، أو أن يُقاس نضالها بعدد المؤتمرات أو الصور، نضالها يبدأ حين تُمسك بيد عجوزٍ فقدت بيتها، أو حين تُعلّم طفلةً أن الحرف الأول من كلمة "حرية" لا يُكتب إلا بالدم.
هي لا تنتمي إلى جغرافيا واحدة، بل إلى كل الأمكنة التي تنزف. صوتها يتردد في أزقة المخيمات، وفي ساحات الاحتجاج، وفي صمت الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن. تحمل في قلبها خرائط لا ترسمها الدول، بل ترسمها القصص، والدموع، والضحكات التي تنبت رغم الحصار.
تُترجم الألم إلى لغاتٍ يفهمها العالم، وتُعيد تعريف البطولة بعيداً عن الذكورة المفرطة، لتقول "البطولة أن تبقى إنساناً وسط كل هذا الجنون". حين يُرفع شعار السلام في قاعاتٍ باردة، تكون المرأة قد بدأت بالفعل في بنائه بين أنقاض البيوت، وفي دفء المطبخ، وفي حكايات المساء. السلام ليس اتفاقاً يُوقّع، بل هو لحظةُ احتضانٍ، وقرارُ عدم الانتقام، وإرادةُ الاستمرار رغم كل شيء. إنها لا تطلب الاعتراف، بل تطلب الإنصاف. لا تسعى إلى المجد، بل إلى العدالة. وفي كل خطوةٍ تخطوها، تكتب نبوءةً جديدة: أن التغيير ممكن، وأنه يبدأ من امرأةٍ قررت ألا تنكسر.