تغييب المرأة عن الرموز الحضرية إقصاء من التاريخ والثقافة
هيمنة التماثيل والرموز الذكورية في مدينة كرماشان تهدف لإقصاء حضور النساء من الذاكرة الجمعية والفضاء العام، مما يعيد إنتاج اللامساواة الجندرية. هذا الغياب الرمزي يرسّخ رؤية أحادية للتاريخ ويحدّ من إمكان صياغة نماذج بطولية نسائية للأجيال المقبلة.
كرماشان ـ تروي الأساطير أن عبادة الأصنام انتهت مع أولى ضربات فأس إبراهيم لها، غير أن شواهد التاريخ البصري تقول شيئاً آخر؛ إذ يبدو أن الأصنام لم تُهدم حقاً، بل عادت في هيئة جديدة، وهذه المرة على شكل رجال يُنصَّبون وحدهم في مقام العبادة والتقديس. ففي الساحات العامة، الشوارع الرئيسية، ومداخل المؤسسات الكبرى، تتكرر صورة التمثال الذكوري الذي يُشيَّد للتبجيل والتقدير، بينما تغيب تماماً ملامح المرأة، فلا أثر لهيئة أنثوية تستحضر الذاكرة الجمعية أو تجسّد نصيبها من التاريخ.
عند المرور في شوارع مدينة كرماشان بشرق كردستان، تكثر الأصنام التي فرض حضورها على المدينة، بعيون جامدة وباردة، وكأن الرجال حتى في أجسادهم الصخرية يعلنون تفوقهم على كل شيء. هذه التماثيل ليست مجرد أحجار صامتة، بل رسائل مشفَّرة تقول إن البطل، الفاتح، المفكر، والمستحق للتقدير هو دائماً الرجل.
الإقصاء الرمزي للنساء… تطبيع اللامساواة الجندرية
إن تغييب النساء عن الذاكرة البصرية للمدينة يعني إقصاءهن من تاريخها ومستقبلها. فالفتيات والنساء يعبرن يومياً بجوار هذه التماثيل، ليترسخ في عقولهن أنهن بلا حضور في السرد العام. المدينة، بصمتها الحجري، تعيد إنتاج رواية ذكورية تُقصي النساء وتضع الرجال في مقام الأصنام التي لم تعد في المعابد، بل استقرت في قلب المدن، لكنها ما زالت تؤدي الوظيفة ذاتها، تثبيت السلطة، تكريس التفوق، واستمرار طقوس التقديس.
ومع ذلك، فإن هذا التفوق الذكوري المتجسد في التماثيل لم يتحول بعد إلى قضية اجتماعية أو ثقافية تُناقش بجدية. فالحضور الطاغي للهيئات الذكورية في الفضاءات العامة لا يعكس فقط تاريخاً فنياً ومعمارياً قائماً على الذكورية، بل يكشف أيضاً عن تغييب واعٍ أو غير واعٍ للنساء من الذاكرة الجمعية ورموز المدن. هذا الغياب، مع مرور الزمن، يتحول إلى عادة بصرية وثقافية نادراً ما تُواجه أو تنتقد، مما يرسّخ إعادة إنتاج اللامساواة الجندرية في المجال الرمزي. وهكذا يصبح إقصاء النساء من المعالم التذكارية شكلاً من أشكال "تطبيع" اللامساواة، أي قبول غيابهن عن الفضاء الرمزي بوصفه أمراً عادياً.
وفي هذا السياق، انتقدت الفنانة والنحاتة من كرماشان سمیه. ي هيمنة الرموز الذكورية على الفضاء الحضري، موضحةً أن "حضور الرجال في المشهد البصري للمدينة يتجاوز ما يبدو للوهلة الأولى. ففي السنوات الأخيرة، عمدت بلدية كرماشان إلى إنشاء ونصب العديد من التماثيل في مختلف أرجاء المدينة، غير أن معظمها خُصص لتجسيد وجوه وقادة رجال.
هذا الاختيار المتكرر جعلها، بصفتها نحاتة، لا تلتفت كثيراً إلى غياب تماثيل النساء، بل حتى لم تفكر في سبب ندرة تجسيد شخصيات نسائية مؤثرة. على حد قولها، مؤكدةً أن مدينة كرماشان لا تحتضن سوى تمثال واحد لامرأة، يقع بالقرب من حديقة شيرين، والمفارقة أن هذا العمل يُوصَف عادةً بعبارة "امرأة قاتلت بطريقة رجولية". وهو توصيف يكشف عن استمرار النظرة الذكورية حتى في تمثيل المرأة، حيث يُقاس حضورها بمعايير القوة والبطولة المرتبطة بالرجال.

الفضاء العام يعيد إنتاج السلطة الذكورية عبر التماثيل
إن تصوير الرجال كأبطال في الروايات، التاريخ، ونصب التماثيل التذكارية لهم ليست سوى إعادة إنتاج للهياكل الذكورية التي سعت عبر قرون طويلة إلى تهميش صوت النساء وتقليص حضورهن. هذه السرديات والرموز لم تكتفِ بإبراز الحضور الذكوري، بل عمدت أيضاً إلى إقصاء أو تشويه دور النساء، لتصوغ صورة أحادية الجانب عن التاريخ والأدب. ففي كثير من الحكايات التاريخية والأدبية، لا تظهر المرأة في هيئة بطلة مستقلة، بل غالباً ما تُقدَّم في صورة "الشريرة" أو "المخادعة"، التي لا وظيفة لها سوى تضليل الرجل البطل وإبعاده عن مساره.
وفي حالات نادرة فقط، تُقدَّم المرأة بوصفها بطلة، وذلك حين يُعرَّف دورها في إطار خدمة الرجل أو دعم مسار البطولة الذكورية. هذا النموذج يكشف بوضوح كيف أن الأنظمة الثقافية والاجتماعية، عبر استثمار الروايات الأدبية والتاريخية، أعادت إنتاج وترسيخ البُنى الذكورية. ففي هذا السياق، لا تُصوَّر النساء كذوات فاعلات مستقلات، بل كأدوات تُستخدم لاستكمال الحكاية الرجولية.
وهذا الإقصاء لم يؤد فقط إلى تغييب التجارب الحقيقية للنساء من الذاكرة الجمعية، بل حدَّ أيضاً من إمكانية صياغة نماذج بطولية نسائية. ومن هنا، فإن القراءة النقدية لهذه السرديات تفتح الباب أمام استعادة أصوات النساء التي أُسكتت، وإعادة تعريف مفهوم البطولة في التاريخ والأدب؛ بطولة تقوم على المقاومة، الاستقلال، والمشاركة الفاعلة للنساء في الحياة الاجتماعية، لا على مجرد خدمتهن للرجال.
تماثيل الرجال في كرماشان ذاكرة جمعية أحادية
في مدينة كرماشان تنتشر مئات التماثيل التي تجسّد أبطالاً من الرجال، وهو ما يعكس بوضوح هيمنة النظرة الذكورية في الذاكرة الجمعية والسياسات الثقافية الحضرية. هذه الاختيارات لا تقتصر على إبراز التاريخ والأساطير ذات الطابع الذكوري، بل تكشف أيضاً عن الغياب الصارخ للنساء البطلات، الفنانات، والمشاركات في الحياة الاجتماعية. وبهذا النهج يدفع دور النساء إلى الهامش، فيما تُحرم الأجيال الجديدة من التعرف إلى نماذج نسائية في النضال، المعرفة، والفن.
إن هذا الغياب الرمزي لا يمكن اعتباره مجرد قضية فنية أو جمالية، بل هو انعكاس مباشر لبُنى السلطة وسياسات الذاكرة الجمعية التي ترسَّخ في الفضاء العام. فرغم أن تاريخ كرماشان زاخر بالشاعرات والمناضلات والفنانات والفاعلات الاجتماعيات، فإن تغييبهن عن الرموز الحضرية يعني تغييبهن عن السرد الرسمي للتاريخ. ومع مرور الزمن، يُنتج هذا الإقصاء ذاكرة اجتماعية أحادية، ويحدّ من إمكان صياغة نماذج متنوعة للأجيال المقبلة.
فالتماثيل والرموز العامة لا تعكس الماضي فحسب، بل تسهم أيضاً في تشكيل المستقبل الثقافي. وعندما يقدَّم الرجال وحدهم كأبطال المدينة، فإن الرسالة الضمنية هي أن النساء لا نصيب لهن في صناعة التاريخ والثقافة. هذه الرسالة، وإن لم تُكتب، تؤثر في الوعي الجمعي وتعزز إعادة إنتاج اللامساواة الجندرية في المجالات الاجتماعية والثقافية، حيث يسعى النظام الذكوري حتى عبر الأجساد الحجرية الباردة إلى تثبيت سلطته.