"لن أشعر بالحرية حتى يعودوا جميعاً"... شهادة إيزيدية تروي آلم الفقد والنجاة

أكدت هديل نايف الشابة الإيزيدية التي اختطفها داعش، أن الحرية لا تكتمل ما دام المئات من أبناء شعبها لا يزالون في عداد المفقودين، مشيرة إلى أن آثار العنف والعبودية لا تزال تلاحقها حتى بعد العودة إلى الوطن.

جيهان زمو

شنكال ـ حل الثالث من آب/أغسطس 2014 كيوم أسود في سجل الإنسانية، حين بلغت فظائع داعش ذروتها، متجسدةً بأبشع صور الوحشية في قلب الشرق الأوسط، ففي هذا التاريخ المشؤوم هاجمت الموطن القديم وديار الإيزيديين في شنكال حتى لا تترك أحد على قيد الحياة.

بُني نهج داعش على تدمير المكونات والمعتقدات والشعوب الأصيلة في الشرق الأوسط، هذه المرة قررت القوى المعادية للمساواة وحرية الشعوب إعادة الشرق الأوسط إلى مستنقع من الدماء، والهيمنة على هذه المنطقة بعقولها وقلوبها السوداء، في الوقت الذي يُعرف فيه المجتمع الإيزيدي هذا اليوم بالفرمان والذي يعني تدمير دينهم ومعتقدهم أي إبادتهم، ذكرى الفرمانات تبقى دائماً حية بين المجتمع الإيزيدي لأن القوى اللاإنسانية لا تسمح بزوال هذه الذكرى، حيث يتعرض هذا المجتمع للهجوم مرة واحدة على الأقل كل عشر سنوات، ووفقاً للمجتمع الإيزيدي فقد تعرضوا لـ 74 فرماناً، لكن في الواقع العدد أكبر من ذلك، لقد نُهبت ديارهم وأراضيهم وموطنهم 74 مرة واستُعبدت الفتيات والشباب وتعرض مجتمعهم لمجازر وحشية.

مرّت إحدى عشرة عاماً على فرمان عام 2014 وخلال هذه الفترة شهد المجتمع الإيزيدي تحولات إيجابية عديدة مع تنامي روح الحرية، بدأ الإيزيديين يدركون لأول مرة حجم الهجمات التي تعرضوا لها وأسبابها، وفي الأيام الأخيرة ومع اقتراب الذكرى السنوية للفرمان أحيى المجتمع الإيزيدي ذكرى شهدائه في مختلف الأماكن، في محاولة لتخليد معاناتهم والمقاومة البطولية التي واجهوا بها تلك الفظائع، وقد اغتنمنا هذه المناسبة للعودة إلى شهادات من عاشوا تلك التجربة المؤلمة، والاستماع إلى قصصهم الشخصية التي ظلت عالقة في ذاكرتهم. الحديث عن تلك الأيام ليس سهلاً على من مرّ بها، ولا حتى على من يستمع إليها.

ومن بين هذه القصص تبرز قصة هديل نايف، وهي شابة إيزيدية اختطفها داعش عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها، وبقيت في الأسر طوال أربع سنوات ونصف، حيث واجهت خلالها أهوالاً يصعب تخيلها.

 

"وثقنا بالبيشمركة واعتقدنا بأنهم سيحموننا"

كانت هديل نايف في التاسعة عشرة من عمرها عندما أسرها داعش ولديها ابنة تبلغ من العمر عام وثلاثة أشهر، تنحدر من قرية كرزرك وكانت في منزل والدتها أنداك، تحدثت لوكالتنا عن يوم حدوث الفرمان وما شهدته قائلة "كنا قد سمعنا أن داعش يهاجم الناس لكننا وثقنا بالبيشمركة وكنا نعتقد بأنهم سيحموننا، لهذا السبب لم نهرب حتى هاجم داعش كرزرك في الساعة الثانية فجراً، كانت البيشمركة قد فرت بالفعل وقاوم أهالي كرزرك داعش بكل قوتهم وإمكانياتهم، من ناحية أخرى كان الناس يغادرون كرزرك متجهين نحو المنحدرات للوصول إلى الجبال، كنا حوالي 20 شخصاً من عائلتنا، ولأننا لم نكن نملك سيارة انطلقنا سيراً على الأقدام انطلق آلاف الأشخاص في حالة يأس وتوتر مثلنا، في الساعة التاسعة صباحاً دخل داعش شنكال وقبل حلول الساعة الحادية عشرة أمسكوا بنا على الطريق الوعر ووضعونا في سيارات وأعادونا إلى شنكال".

 

"اقتادونا إلى سجن بادوش"

وأوضحت إنه في شنكال اقتادوهم إلى قاعة أفراح كبيرة حيث فُصل الرجال عن النساء "آخر ما اقتادونا إليه من هناك كان إلى موقع سابق للبيشمركة، هناك تُركنا في الفناء ووضعوا الرجال في غرف حتى لا يهربوا، قالوا لنا إذا اعتنقتم الإسلام فلن نفعل بكم شيئاً، في تلك الليلة في الساعة الثانية عشرة اقتادونا إلى بعجة وأُخذوا الرجال إلى تلعفر والموصل، هناك فُصلت الشابات وبعض الفتيات الأصغر سناً عن النساء الأخريات، أنا وأختي وزوجة أخي فُصلنا عن بقية أفراد العائلة بهذه الطريقة، وبعد ثلاثة أيام نُقلنا إلى تلعفر، هناك وُضعنا في مدرسة وتناوبوا على حراستنا على مدار أربعة وعشرين ساعة لمنع هروبنا، بعد أربعة أيام وبسبب اشتداد القتال هناك اقتادونا إلى سجن بادوش، هناك أجبرونا على اعتناق الإسلام مجدداً وقالوا إن من يعتنق الإسلام سيُسلم إلى عائلته وطلبوا منا أسماء أشخاص من عوائلنا ليأخذونا إليهم، ولأن زوجي لم يُعتقل أخبرتُهم باسم أحد معارفي الذي كان معتقلاً هو الآخر، لكن بعد أسبوع أدركنا أن ما يقولونه غير صحيح لقد مرّ أسبوع منذ أن انقطعنا عن عائلتنا ولم نتلقَّ أي أخبار منهم".

 

"أخذوا أولادنا للقتال معهم"

هديل نايف والعديد من الشابات الأخريات فُصلن عن عائلاتهن بهذه الطريقة، في كل محطة كن يُوقفن فيها يُؤخذ أحد أفراد أسرهن منهن، في سجن بادوش أخذ منها شقيقها الأصغر وشقيقتاها إلى جهة مجهولة، تروي اللحظات المؤلمة قائلة "شاهدنا كيف فُصل الأطفال من عمر 7 إلى 13 عام عن أمهاتهم واقتيدوا بعيداً علمنا لاحقاً أن حوالي 300 طفل نُقلوا إلى قرية كوجو لاستخدامهم في القتال كان أخي من بينهم، كانوا يختارون الفتيات الجميلات حسب معاييرهم الخاصة، أما الأمهات الأكبر سناً فأرسلوهن جنوباً احتفظوا بمن أعجبهم من النساء، وأرسلوا البقية إلى سوريا هكذا تم فصل شقيقتي عني ولا تزال إحداهما حتى الآن في قبضة داعش، بقينا في العراق تسعة أشهر، ثم اقتادونا في سيارات كبيرة إلى الرقة وبعد 25 يوماً نُقلنا إلى دير الزور".

 

واجهت أعمال لاإنسانية

وأشارت إلى أنها خلال هذه السنوات الأربع والنصف، نُقلت إلى مدن وبلدات عديدة في العراق وسوريا، وبِيعَت سبع مرات وواجهت شتى أنواع العنف "قضيتُ أربع سنوات ونصف في قبضة داعش خلال سنوات الأسر الأربع تم بيعي سبع مرات وواجهتُ شتى أنواع العنف، ولأننا إيزيديون كانوا يُجبروننا دائماً على اعتناق الإسلام، كانوا يُجبروننا على الصيام والصلاة ويفتحون أبواب غرفنا فقط للقيام بالأعمال المنزلية، وبعد أن ننتهي من العمل كانوا يحبسوننا في الغرفة مرة أخرى، ورغم أننا كنا نُنفذ كل ما يُطلب منا إلا أننا لم نُفلت من الإذلال والضرب، كانت ابنتي صغيرة جداً ولأنها لم تكن تعرف العربية ولم تكن تفهمهم عذبوها بكل الطرق، ذات مرة ضربوا ابنتي ضرباً مبرحاً حتى أن أثار الضرب بقيت على جسدها لمدة ثلاثة أشهر، لطالما أرادوا أخذها مني كانوا يهددوني دائماً بأخذها، أحياناً كان من يشترينا يأخذوننا إلى عائلاتهم حينها كان الأمر والوضع يسوء أكثر لأن عائلاتهم لم تكن ترغب بنا، ولذلك كانوا يعذبوننا طوال الوقت عاملونا معاملة لا إنسانية في الكثير من الأحيان تركونا بلا طعام ولا ماء، في إحدى المرات ذهب المرتزق الذي كنا في قبضته إلى الحرب ونسينا في المنزل، حُبسنا في المنزل لمدة أسبوعين تقريباً بدون ماء وطعام في إحدى المرات أخذونا إلى موقع عسكري اتضح أنه حقل نفط، كانوا يستعدون للحرب هناك ملأوا كل شيء من أباريق الشاي إلى كل الأدوات الموجودة هناك بمادة الـ TNT احتُجزنا في حقل النفط هذا لمدة ثلاثة أشهر دون أن نرى الشمس".

 

"هذا ليس مكاننا لا يمكننا البقاء هنا"

وعلى الرغم من كل شيء، لم تفقد هديل نايف الأمل في أن تتحرر يوماً، حاولت التحرر من العصابات لكن في كل مرة كان يُقبض عليها وتتعرض لتعذيب شديد وعن محاولات الهروب أوضحت "خلال هذه السنوات الأربع والنصف، لم تُتح لي فرصة الهروب إلا مرتين كانت المرة الأولى مع صديقة لي من قرية كوجو حيث تم بيعنا كلانا لأحد المرتزقة، فقررنا فيما بيننا الهرب وتحرير أنفسنا في ذلك الوقت كنا في الموصل كانت معنا امرأة عربية في أحد الأيام قالت لنا إذا هربتم فسأساعدكم في اليوم الذي كنا سنهرب فيه قيدنا أيدي وأرجل النساء اللواتي تنتمين لداعش، وصادرنا أجهزة الاتصال الخاصة بهما وغادرنا المنزل قبل مغادرتنا نظرت إلي صديقتي وسألتني ماذا سنفعل بالأطفال كان لصديقتي أطفال من الشخص الذي اغتصبها، قررنا عدم اصطحابهم معنا فالموصل مدينة كبيرة وقد اتخذنا الموت في الحسبان وهربنا".

وأضافت "عندما ذهبنا إلى منزل المرأة العربية كانت هناك أيضاً امرأة إيزيدية، أرسلنا امرأة إلى أحد معارفنا لتبلغهم بهروبنا، وبينما كنا لا نزال في ذلك المنزل جاء الشخص الذي كنا قد هربنا منه، وهدد المرأة التي كانت تخبأنا في منزلها بقتل ابنها إذا لم تسلمنا له، اضطرت المرأة إلى المجيء إلينا وقالت سيقتلون ابني كانت المرأة العربية ترتجف من رأسها إلى أخمص قدميها من الخوف، لأنه كان يوجد هناك بئر حيث ألقى داعش من كانوا يقتلونهم وقد أروها ذلك البئر، حاولنا الهروب من المنزل قبل وصول المرتزقة ولكن قبل أن نتمكن من مغادرته توقفت سيارة المرتزقة أمامنا أعصبوا أعيننا وقيدوا أيدينا وأجبرونا على ركوب السيارة، ولأن صديقتي كانت قد حاولت الهرب مرة أخرى وألقي القبض عليها، قالت هذه المرة سيحرقوننا بالتأكيد، كنا معصوبي الأعين ولم نكن نعرف إلى أين سنذهب، اقتدنا إلى محكمة داعش على هذا النحو، في المحكمة سألونا لماذا هربتم؟ قلت لهم لو كانت بناتكم وزوجاتكم في السجن وحدث لهن هذا، لهربن أيضاً نحن إيزيديون وهذا ليس مكاننا ولا يمكننا البقاء هنا".

 

"ضربنا بالسلاسل والكابلات والعصي"

وبينت هديل نايف أنه تم تسليمها مع صديقتها إلى المرتزق الذي هربتا منه بعد المحاكمة، وبدأ المرتزق بضربهما أمام باب المحكمة مباشرةً "انكسرت العصا التي كانت في يده من الضرب الذي تعرضنا له إلى أن وصلنا إلى المنزل، وعندما وصلنا أخذنا إلى غرفة وقيد أيدينا وأقدامنا بالسلاسل وبدأ بضربنا، من المساء حتى الرابعة فجراً كان يضربنا بالسلاسل والكابلات والعصي، كان يضربنا بشدة على أقدامنا وكان الدم يسيل منها كما طلب منا النهوض والمشي في الغرفة بأقدامنا المدماة ومسح الغرفة بأقدامنا، ولم تلتئم وتشفى قدمي من ذلك الضرب حتى الآن".

 

"ظننت أنني أحلم"

بعد أربع سنوات ونصف حرر مقاتلو وحدات حماية المرأة ووحدات حماية الشعب هديل نايف لكنها بقيت في حالة صدمة لفترة طويلة وظلت تردد "أنا أحلم" عبّرت عن فرحتها وحماسها يوم إنقاذها قائلة "أُلقي القبض على المرتزق الذي كنت في قبضته في دير الزور على يد وحدات حماية المرأة والشعب كنا آنذاك محتجزين في إدلب خلال الاستجواب اعترف المرتزق بوجود نساء إيزيديات محتجزات لديه، طلب منه الرفاق الاتصال بهم هاتفياً ليأتوا إلى الطبقة، دون أن نعرف شيئاً انطلقنا أنا وابنتي ووصلنا إلى منبج، هناك استقبلنا المقاتلين والمقاتلات عندما رأيتُهم لم أصدق أنه تم إنقاذنا، ظننتُ أنني أحلم سألني رفيق شاب يرتدي زياً عسكرياً هل تعرفيننا؟ أجبته نعم، كنت حينها في حالة صدمة التقط الرفاق صورتي وأرسلوها إلى عائلتي، بعد بضعة أيام ذهبنا إلى كوباني وهناك سألوني أسئلة وكتبوا عما حدث لنا، كان الجميع مهتمين بنا بعد 16 يوماً جاء زوجي إلينا ومن هناك ذهبنا إلى قامشلو".

هديل نايف إحدى النساء اللواتي حررتهنّ قوى الحرية، وعادت إلى الوطن الذي قُدمت من أجله تضحيات كبيرة ورأت أن شنكال قد أصبحت حرة وأن حياة جديدة قد بُنيت، وبمساعدة الرفاق والعائلة حاولت مداواة جراح تلك الأيام المؤلمة، أدركت هديل نايف حينها أن الحرية ليست مسألة فردية ولذلك تقول "لن أشعر بالحرية حتى يُحرر جميع مفقودينا".

 

"أربعة أشخاص من عائلتي ما زالوا مفقودين"

وعن عودتها إلى شنكال قالت "بعد عودتنا إلى شنكال شعرت بأنني ولدت من جديد، أدركتُ أننا تحررنا بالفعل، لم تكن الأمور التي مررنا بها سهلة، أخي الذي لم يكن قد تجاوز العشرين من عمره بعد وهو أب لطفلين ما زال مفقوداً ولا نعرف ما حدث له، أختي وزوجها وابنها البالغ من العمر 14 عاماً ما زالوا في قبضة داعش كانت أختي الثانية في الرابعة من عمرها وكي لا يفصلوها عني قلتُ إنها ابنتي لكن أخذوها مني وعذبوها بشدة لدرجة أنها ما زالت عاجزة عن الكلام، فقدت أختي البالغة من العمر 16 عاماً حياتها نتيجة الغارات الجوية، وبعد عام قامت عائلة أمي وزوجة أبي بتحريرهما من داعش بعد دفع فدية، ولا يزال أربعة أشخاص من عائلتي مفقودين ولا نعرف شيئاً عن مصيرهم".

 

"ما زلتُ لا أشعر بالحرية والسلام"

وأكدت هديل نايف في ختام حديثها أنها لن تنسى تلك الأيام أبداً "من المستحيل أن أنسى تلك الأيام عندما كنتُ في قبضة داعش فكرتُ في إنهاء حياتي مراراً، لكن ابنتي الصغيرة كانت معي لذلك لم أُنفّذ هذه الفكرة. بعد عودتي إلى شنكال حاولنا جميعاً مداواة جراحنا، ساعدني من حولي على لمّ شتات نفسي، لكن الحقيقة هي أنني لم أعد أتذوق طعم الحياة عندما أذهب إلى منزل أمي لا أرى إخوتي وأخواتي ويزداد ألمي، ما زلتُ لا أشعر بالحرية والسلام، كثيراً ما أرى تلك الأيام في أحلامي أعلم أنه فقط عندما يعود جميع مفقودينا يوماً ما سأشعر بتحسن".