من غربتلي أرسوز إلى كلستان وهيرو... طريق التضحية لا ينتهي

مقال بقلم عضوة إعلام مؤتمر ستار أيلول رزكار

في ساحات الوغى، حيث يُحدِّد الرصاص مساحات السيطرة، تُولد أسلحة أخرى لا تقلّ فتكًا عن البنادق؛ إنها الكاميرا التي تكشف الزيف، والقلم الذي يحفر أسطورة المقاومة، والإرادة التي ترفض الانكسار. هنا، حيث تتحول الحقيقة إلى ساحة معركة، تنتصب النساء حارسات لها، لا يخشين الموت لأن قضيتهن أكبر من أن تموت. كلستان تارا وهيرو بهاء الدين لم تكونا مجرد صحفيتين، بل كانا مقاتلتين في جيش الحق، حاملتين سلاح المعرفة والفن والفكر العميق، ليصبحا رمزاً لروح كفاح لا تعرف المستحيل، وإثباتاً أن أعنف المقاومات هي تلك التي تشنّها الأفكار ضد ظلام التجهيل.

لم تكن كلستان تارا وهيرو بهاء الدين مجرد صحفيتين استُشهدتا في غارة، بل كانتا ثمرة ناضجة لمسيرة نضالية طويلة، نسجتا خيوطها من حب الحياة، والفكر الثوري، والتضحية العظيمة. كانتا تجسيداً حياً للمرأة الجديدة التي ترفض القيود وتصنع مصيرها بيدها، سائرتين على الدرب الذي رسمته رفيقتهما غربتلي أرسوز.

 

"الفن سلاحاً والنضال مسرحاً"

لم تكن كلستان تارا تحمل الكاميرا بمهارة الصحفية المحايدة فحسب، بل كانت تحمل روح فنانة شاملة. كانت تحب المسرح والموسيقى والرقص والغناء، تلك الفنون التي تُذيب حدود النفس وتجعلها أكثر اتصالًا بالجمال والإنسانية. وكانت محبة للقراءة، منغمسة في عوالم القصص والروايات التاريخية، تبحث في ثناياها عن جذور الصراع وأسرار التحرر. هذا الشغف بالحياة والجمال هو ما منح نضالها بُعدًا أعمق؛ فقد كانت تناضل من أجل الحياة بكل ألوانها، لا من أجل فكرة مجردة.

لم يكن انخراطها في مسيرة النضال في الجبال بين صفوف الكريلا هرباً من الحياة، بل كان ذروة عطائها لها. هناك، حيث يصبح الفن مقاومة والكلمة رصاصة، وجدت كلستان مسرحها الأكبر. حوّلت حبها للقصة إلى تقارير تروي حكاية شعبها، وحوّلت إحساسها بالإيقاع إلى لقطات مصورة تتناغم مع نبض الشارع الكردستاني، لتصبح كاميرتها امتداداً لروحها الفنية، سلاحاً يوثق الحقيقة ويقاوم النسيان.

 

"الفكر سلاحاً والتنظيم ثورة"

أما هيرو بهاء الدين، فكانت تحمل في داخلها قوة من نوع آخر؛ قوة الفكر الأيديولوجي العميق. لم تكن كلماتها الصحفية انطباعات عابرة، بل كانت ثمرة دراسة وتأصيل نظري لفلسفة الحرية والمرأة. كانت تفهم جذور الاضطهاد لتعرف كيف تقتلعه. هذا العمق الفكري هو ما قادها إلى أن تعمل لأجل جمع النساء حولها، ليس كأفراد متناثرين، بل كقوة منظمة واعية.

كانت ترى في التنظيم النسائي ضرورة حتمية، فالقمع منظم ولا بد للمقاومة أن تكون منظمة كذلك. كانت كلماتها وخطاباتها وكتاباتها أدوات لبناء الذات الجماعية للمرأة، لتفعيل إرادتها وتحويلها من كائن مُسَيَّر إلى فاعل في صنع التاريخ. كانت منظرة وقائدة في نفس الوقت، تجسد مبدأ "الرفيقة" بمعناه الأعمق.

 

على خطى غربتلي أرسوز

كانت كلا المناضلتين تسيران وفق درب الرفيقة غربتلي أرسوز، التي جسّدت باستشهادها أسمى معاني التضحية والفداء من أجل القضية. لم يكن سيرهما على هذا الدرب مجرد تقليد، بل كان اقتناعاً راسخاً بأن حرية المرأة والوطن تُكتسبان بثمن باهظ، وأن شعلة غربتلي أرسوز يجب ألا تنطفئ.

لقد جمعت بينهما روح المقاومة المتعددة الأوجه، فكلستان جسدت المقاومة الثقافية والفنية، بينما جسدت هيرو المقاومة الفكرية والتنظيمية. معاً، كوّنتا ثنائيًا متكاملًا: الفنانة والمفكرة، المراسلة والمنظمة، المرأة التي تحب الحياة والمرأة التي تقدمها فداءً لها.

استشهادهما في الثالث والعشرين من آب ٢٠٢٤ لم يكن نقطة النهاية، بل هو إكليل لمسيرة نضالية حافلة، واستشهادٌ يضيف فصلاً جديداً إلى ملحمة "درب الرفيقة غربتلي أرسوز"، ليصبح درباً لكل من يريد أن يسير على طريق الحرية، حاملاً معه روح كلستان الفنية وإرادة هيرو الفكرية، ليظل هذا الدرب مضيئاً حتى تحقيق النصر.

لقد قدّمت كلستان وهيرو أعز ما لديهما، أرواحهما، ثمناً لكلمة حق، وصورة تفضح الجلاد، وحلماً بمستقبلٍ ترفرف فيه راية الحرية. استشهادهما في الثالث والعشرين من آب٢٠٢٤  ليس رقماً على التقويم، بل هو ندبة في جبين الإنسانية وتذكرة دامغة بأن الحرية ليست هبة، بل هي حقٌ يُنتزع انتزاعاً، وثمرةٌ تُسقى بالدماء والتضحيات الجسام.

طريقهما لم يكن مفروشاً بالورود، بل كان شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر، لكنه كان الطريق الوحيد الذي يصل المرأة إلى أبواب الحرية. لقد اختصرتا برحيلهما المبكر أغنية كفاح بأكملها إلى هتافين يترددان في كل قلبٍ ينبض بالحياة: يا للعيش حرية.. يا للعيش حرية.