من "غايا" إلى "آنا"... "الطبيعة الأمّ" في الميثولوجيا العالمية والكردية
يجسّد مفهوم "الطبيعة الأمّ" عبر الثقافات قوة الخلق والعطاء والتجدد، ويُنظر إليها كأصل الحياة وميزان الكون، وفي الثقافة الكردية تحديداً تُعدّ رمزاً للهوية والصمود، ومصدراً للرزق، ومحوراً للممارسات التراثية التي تعكس ارتباط الإنسان بالأرض واحترامه لها.
لافا كورده
مركز الأخبار ـ تُصوَّر "الطبيعة الأمّ" كرمزٍ أنثوي مانح للحياة، أو كإلهة أمّ توفر الرزق والنماء، وتُبرز قوتها الخلّاقة وقدرتها على العطاء، بل وحتى عنفها أحياناً، فهي تمنح كل شيء، من الهواء والغذاء إلى الأنظمة البيئية المتنوعة، وفي الوقت نفسه تمثل الرابط الشامل الذي يصلنا بكوكبنا.
"الطبيعة الأمّ" مانحة للحياة ومصدر للعطاء، فهي تمدّنا بالهواء والماء والغذاء وكل مقومات استمرار الحياة، تماماً كما تفعل الأم التي ترعى أبناءها، كما أنها مربّية وحامية تدعم نموّ الكائنات، وتوفّر الملاذ الآمن عبر الأنظمة البيئية والغابات، وتغذّي الحياة من خلال تنوعها وتجددها المستمر، إلى جانب كونها القوة الخلّاقة حيث تمثّل الطبيعة المصدر الأول لكل أشكال الحياة، وتُجسّد دورتها المستمرة في الميلاد والموت والتجدد، وأخيراً الطبيعة هي المنظِّمة لكونها تتحكم في الظواهر البيئية مثل المناخ والطقس، وتحافظ على التوازن، وتُظهر بوضوح أثر الاستخدام السليم وغير السليم للموارد.
والسؤال المطروح حالياً، من أين جاء مصطلح "الطبيعة الأمّ"؟ يعود هذا الرمز إلى آلاف السنين، وقد ظهر في ثقافات عديدة حول العالم بوصفه تجسيداً للطبيعة بوصفها قوة كونية خصبة، قوية، وخلاقة، تشبه في جوهرها الفصول والحياة ذاتها.
ففي الحضارة اليونانية القديمة ارتبط هذا المصطلح بالإلهة "غايا"، إلهة الأرض الأولى في الميثولوجيا اليونانية، التي اعتُبرت أصل الوجود، فقد أنجبت السماء والجبال والبحار، مما جعلها تُجسّد صورة الأم الكبرى التي ينبثق منها كل شيء، أما في الأسطورة الرومانية فقد تبنّى الرومان مفهوم تيرا ماتر أو "الأرض الأمّ"، وهي إلهة ارتبطت بالطقوس الزراعية والاحتفالات التي تمجّد خصوبة الأرض وجذورها الأولى، فكانت رمزاً للعطاء والنماء.
وفي معتقدات الشعوب الأصلية تُمنح كما في الأمريكيتين مكانة مقدسة للأرض، باعتبارها قوة مانحة للحياة، تُغذّي النباتات والحيوانات والبشر على حدّ سواء، وتُعامل كأمّ معطاءة تستحق الاحترام والتقديس، بينما في العصور الوسطى وعصر النهضة، مع تداخل العلم بالروحانيات في أوروبا خلال تلك الفترات، برز مفهوم "الطبيعة الأمّ" في الأدب بوصفه صورة شعرية ورمزية تُستخدم لوصف النظام الذاتي الذي تعمل به الأرض وتنظّم به شؤونها، مما منح هذا التعبير بعداً جمالياً وفلسفياً أعمق.
وحول لماذا يبقى مصطلح "الطبيعة الأمّ" مهماً اليوم؟ لأن استدعاء صورة الأم يعيد إلى أذهاننا جمال الطبيعة وقوتها وحنانها، وهي الصفات نفسها التي نلمسها في النساء اللواتي يربيننا ويقفن إلى جانبنا، فسواء كانت شجرة مزهرة، أو غصناً مثمراً، أو تراباً تحت أقدامنا، فإن "الطبيعة الأمّ" والأمهات الحقيقيات يشتركن في جوهر واحد، منح الحياة، وبثّ المحبة، ورعاية النمو.
وتُعدّ "الطبيعة الأمّ" لدى الكرد مصدراً للهوية وركيزة للاستمرار، ففي الثقافة الكردية، تحظى صورة "الطبيعة الأمّ" أو أمّ الأرض بمكانة راسخة، إذ ترتبط بموروث غني من المعتقدات القديمة، وتُعدّ مصدراً للحياة والرزق، وجزءاً جوهرياً من جذور الوجود الكردي ومعنى الانتماء إليه.
ومن ناحية المعتقد الجوهري أو السائد تُعدّ الإلهة الأم "آنا" إحدى أقدم وأهم الشخصيات في الأسطورة الكردية، فهي الخالقة والمربّية لكل أشكال الحياة، تمثل رمزاً للخصوبة والمحبة والعطاء والحكمة والشفاء، ويُقال إن مياهها تنبع من الجبال. وغالباً ما تُستعاد صفات آنا في صورة المرأة الكردية والأم في الثقافة الحديثة، بوصفها عماد الأسرة وروح تماسكها.
وعن كون "الطبيعة الأمّ" مصدر الحياة والرزق ارتبط الموروث الكردي عبر التاريخ بالزراعة والنباتات وبعلاقة وثيقة مع الأرض، علاقة تجمع بين الاستقرار ونمط الحياة شبه البدوي، هذا الارتباط العميق بالطبيعة أسهم في ترسيخ صلة حميمة مع عناصرها، وغالباً ما تُوصَف هذه الأرض بـ "جنة الخلد"، لما تتمتع به من خصوبة وقدرتها على منح خيرات وفيرة ومتنوعة.
أما الارتباط بالروحانيات، فيُنظر إلى "الطبيعة الأمّ" بوصفها جسراً يصل بين الوجود الأرضي والعالم الإلهي، فالأشجار المقدسة، على سبيل المثال، تُعامل ككائنات حكيمة ومواطن لوجود الأرواح أو الآلهة، ويُعبَّر عن احترامها عبر الطقوس والصلوات. ويؤمن الكرد بأن الطبيعة تمتلك لغة خاصة، لا يفهمها إلا من يتهيأ قلبه وروحه للإصغاء إليها، وكأنها تخاطب الإنسان همساً لمن يستطيع أن يسمع.
وعن الهوية الثقافية، فيشكّل الارتباط بالطبيعة محوراً أساسياً في الهوية القومية والثقافية للكرد، فالجبال، على وجه الخصوص، تُعد رمزاً راسخاً للصمود والقدرة على البقاء، وقد تجسّد هذا المعنى في القول الشهير "لا صديق للكردي سوى الجبال".
ومن ناحية إدارة البيئة، فإن العلاقة العميقة مع الأرض تولّد شعوراً متجذّراً بالمسؤولية تجاه رعايتها واستدامتها، ويُنظر إلى حماية البيئة بوصفها حماية للإنسان نفسه وجوهر هويته، ففي الفكر الكردي المعاصر، أصبح الحفاظ على البيئة جزءاً من الفلسفة الاجتماعية والسياسية، باعتباره امتداداً طبيعياً لهذا الارتباط التاريخي بالأرض.
وحول الممارسات التراثية الهادفة إلى الحفاظ على "الطبيعة الأمّ" فأبرزها عيد نوروز الذي يمثّل الاحتفال به، المتزامن مع الاعتدال الربيعي، حدثاً ثقافياً بارزاً يرمز إلى تجدد الأرض وعودة الحياة إليها، ويُعد مناسبة للتعبير عن الامتنان لخيرات الطبيعة والتأكيد على أهمية العناية بالكوكب واحترامه، وفي تقليد "عروس المطر" في فترات الجفاف، يؤدي الأطفال طقساً شعبياً يحملون فيه صورة الإلهة الأم "آنا" المعروفة باسم "عروس المطر"، ويرددون الأغاني طلباً لنزول المطر، في تعبير رمزي عن الأمل والاتصال بالقوى الطبيعية، كما تستخدم رموز الطبيعة، مثل الرمان الذي يُعد رمزاً للخصوبة والوفرة المرتبط بالإلهة آنا، كعنصر زخرفي متكرر في السجاد والحرف اليدوية الكردية، مما يعكس حضور هذه الرموز في الذاكرة الثقافية والتراثية.