"ما بين الفقد والحياة" معرض يفتح نوافذ الأمل للنازحات من رماد الحرب
شكّل معرض "ما بين الفقد والحياة.. فنون من بين الركام" في قطاع غزة تجربة إنسانية علاجية مؤثرة، أعادت للنساء والأطفال شيئاً من توازنهن المفقود وسط حربٍ لم تترك لهن إلا الرماد.
نغم كراجة
غزة ـ قدّمت النساء والأطفال المشاركين في المعرض أعمالاً فنية تعبّر عن معاناتهن وتجاربهن خلال الحرب، ضمن مشروع دعم نفسي امتد لعشر جلسات، لاسيما أن المعرض شكل مساحة علاجية للتعبير عن الألم والتشبث بالحياة، وضمّ لوحات ومجسّمات صنعت بأدوات بسيطة من محيط الخيام.
أقامت جمعية مركز الإرشاد التربوي مساء أمس الأربعاء الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، معرضاً فنياً بعنوان "ما بين الفقد والحياة.. فنون من بين الركام"، جسّد بألوانه ومجسّماته صرخة نساء نازحات خرجن من تحت أنقاض الحرب لتحوّلن الألم إلى لوحات تعبّر عن البقاء.
كان المعرض على بساطته أشبه بمرثية جماعية للألم الفلسطيني الأنثوي، وأداة تعبير فريدة لنساء أرهقتهن سنوات الحصار والنزوح والدمار، فوجدن في الفن طريقاً للتنفيس والتشبث بالحياة.
وسيلة للتعبير عن الضغوطات النفسية
تقول هند أبو نجيلة، منسقة المشروع وصاحبة فكرة المعرض، إن هذا العمل جاء نتيجة عشر جلسات دعم نفسي ومعنوي أعدتها الجمعية مع النساء والأطفال النازحين في مراكز الإيواء، مشيرةً إلى أن فكرة تحويل جلسات الدعم النفسي إلى منتج فني لم تكن سهلة لكنها جاءت استجابة لحاجة النساء إلى وسيلة غير تقليدية للتعبير عن الضغوطات النفسية الهائلة التي تعشنها منذ اندلاع حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وأوضحت أنها "أدركت بعد الجلسات الأولى أن النساء لا تحتجن إلى مجرد كلام يخفف عنهن بل إلى مساحات تفجّرن فيها طاقتهن المكبوتة، وجدتُ أن الفن هو الطريق الأجمل نحو الشفاء، لأن الريشة يمكن أن تقول ما لا تستطيع الكلمات قوله".
ولفتت إلى أن النساء المشاركات، ومعظمهن فقدن أزواجاً أو أبناءً أو منازل، عبّرن عن تجاربهن القاسية بالرسم على القماش وألواح الكرتون، مستخدمات أدوات بسيطة جمعنها من محيط الخيام، كالفحم وبقايا الألوان المدرسية وورق الكرتون المعاد "كانت المفاجأة أن هذه الأعمال رغم بدائيتها حملت صدقاً موجعاً وعمقاً إنسانياً لا يمكن التعبير عنه في أي ندوة أو جلسة كلامية".
وترى أن الفن في هذه الظروف ليس ترفاً بل حاجة علاجية ونفسية، مؤكدة أن غالبية النساء تعانين من اضطرابات ما بعد الصدمة النفسية بسبب فقد الأحبة وتكرار مشاهد القصف والنزوح "ما تمرّ به النساء في غزة ليس مجرد ضغط نفسي، إنه إرهاق وجودي المرأة هنا لا تواجه الحروب فقط بل تُكافح يومياً لتثبت لنفسها أنها ما زالت قادرة على البقاء".
وأكدت أن هدف الجمعية هو بناء تجربة تفاعلية بين النساء والجمهور والزائرين، بحيث تشعرن أن صوتهن مسموع وأن معاناتهن تُترجم إلى جمال يلامس الوجدان لا إلى صمتٍ يبتلع الحكايات.
وعن اختيار عنوان المعرض أوضحت أن "ما بين الفقد والحياة" يعكس المسافة الدقيقة التي تعيشها النساء كل يوم بين حزن الفقد وغريزة البقاء "هذه المسافة هي ما حاولنا أن نُجسّدها فنياً، النساء هنا لم تخترن الحرب لكنهن اخترن الحياة رغمها".
ولفتت إلى أن المعرض كان نتاج تعاون نساء من مختلف الأعمار، من الجدّات إلى الفتيات الصغيرات، اللواتي شاركن بأعمال مشتركة جمعت بين الرسم والخياطة والتشكيل اليدوي "كانت النساء تجلسن في دوائر صغيرة تروين قصصهن أثناء العمل، فيتحول البكاء إلى حديث، والحديث إلى ضحكة، والضحكة إلى لوحة".
وعن تقييمها للتجربة أوضحت أن "النتائج النفسية كانت مدهشة، بعد كل جلسة تفريغ بالفن لاحظنا تحسناً في سلوك النساء، وعودة تدريجية للشعور بالقدرة على التحكم في الانفعال والخوف، هذه الجلسات لا تلغي الألم لكنها تروّضه".
كما أشارت إلى أن الجمعية تنوي مواصلة العمل في هذا الاتجاه بتنظيم معارض متنقلة في مدارس الإيواء والمناطق المتضررة لإتاحة الفرصة لمزيد من النساء للتعبير الفني، مؤكدةً أن الفن يمكن أن يكون وسيلة عدالة نفسية في ظل غياب العدالة الإنسانية.
مساحة نجاة مؤقتة
من بين المشاركات برزت نعيمة جندية، وهي نازحة في الأربعين من عمرها، فقدت منزلها وكل ما تملك خلال الحرب، وقفت أمام لوحتها التي رسمت فيها كفّ يد كبيرة تتفرع من أصابعها كلمات مثل "الخوف، الفقد، الوحدة، الانتظار، الصبر، تقول بنبرة يغلبها التأمل "وجدت نفسي أرسم كفي لأنني شعرت أنني لم أعد أملك سوى نفسي، في كل إصبع كتبت مشكلاتي، لأني لم أجد من أفرغ له همومي ولا من يسمع ما بداخلي".
وتصف الفن بأنه مساحة نجاة مؤقتة من واقع الخيمة "معاناة النساء لا توصف مهما حاولنا أن نتحدث عنها، عشنا الحصار والنزوح والجوع حتى حين أُعلن وقف إطلاق النار لم نشعر بالفرح، لأن ما فقدناه أكبر من أي سلام مؤقت، للأسف بقيت حياة الخيام مكتوبة علينا، وربما للعمر كله لكن مثل هذه الفعاليات تمنحنا بعض النور في هذا العتم الطويل".
وتؤمن أن الفن ليس حكراً على الفنانين بل هو حق لكل من ذاق مرارة الألم، لوحتها التي جذبت أنظار الزائرين كانت في نظرها مرآة لحياة كاملة من الانكسار والأمل رغم بساطتها، وتقول "الرسم جعلني أرى نفسي من جديد، لا كامرأة فقدت كل شيء إنما كإنسانة قادرة على التعبير عمّا لم أستطع قوله منذ أشهر طويلة".
أما أماني حلس، وهي امرأة في العقد الثالث من عمرها، فقدت منزلها وعدداً من أفراد أسرتها خلال الحرب وشاركت في الجلسات للمرة الأولى بعد تردد طويل، تقول "كنت أعتقد أن هذه الجلسات مضيعة للوقت لكنني اكتشفت أنها أعادت إليّ شيئاً من نفسي التي فقدتها تحت الركام".
"ما زلنا نعيش ونستطيع أن نخلق الجمال من العدم"
ووصفت المعرض بأنه بداية استعادة الثقة بالنفس "اليوم لم أعد تلك المرأة التي تلاحقها طوابير الخبز وجالونات المياه وجمع الحطب من بين الأنقاض، أنا هنا لأقول للعالم إننا ما زلنا نعيش ونستطيع أن نخلق الجمال من العدم"، مؤكدةً أن الفن حتى بأبسط أشكاله، يمكن أن يكون علاجاً فعالاً لحالات الانهيار النفسي التي تصيب النساء النازحات "هذه اللوحات لم تكن مجرد ألوان كانت صلواتنا المعلقة، كل ضربة فرشاة كانت تنزف وجعاً لكنها في الوقت ذاته كانت تضمّد جرحاً داخلياً غائراً".
وأوضحت أماني حلس "حين رسمتُ صورة بيتنا المهدّم، لم أبكِ كما كنت أفعل كل يوم، شعرت حينها أنني أضع كل الألم الذي أشعر به على الورق، فيغادرني قليلاً".
في المعرض، عُلّقت عشرات اللوحات البسيطة والمنحوتات الصغير التي صنعتها النساء والأطفال بأيديهم، بعضها صور وجوه لأطفال ينامون على الأرض، وأخرى تعبيرات رمزية عن فقد الأحبة أو الحنين إلى المنازل القديمة ورغم بساطة الخامات، إلا أن الحضور كان مشدوداً أمام كل لوحة وكأنها تحمل حكاية كاملة من قلب الألم.
في نهاية الفعالية، تجمّعت النساء حول لوحاتهن وبدت ملامح الفخر على وجوههن، إذ شعرن أنهن قدمن شيئاً جديداً لأنفسهن ولغيرهن، كانت بعض الزائرات من المهتمات بالشأن النسوي قد علّقن على المعرض بعبارات امتنان، مؤكدات أن "الفن حين ينبع من بين الركام يكون أصدق من كل الشعارات".