"كذب أبيض"... فيلم وثائقي مغربي يجمع بين الخيال والواقع
يجول العالم الفيلم الوثائقي المغربي "كذب أبيض" ليحصد جوائز عالمية كالأوسكار، حيث لجأت مخرجته أسماء المدير، إلى استخدام الدمى المنحوتة كرمز لكل الشخصيات المشاركة في العمل.
رجاء خيرات
مراكش ـ بعد عشرة أعوام من العمل على جمع المادة الخام، الفيلم الوثائقي المغربي "كذب أبيض" يخرج إلى النور، جامعاً ما بين الخيال والواقع و"الفونتيزي"، ليعطي خليطاً وثائقياً مبهراً.
تتواصل فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، لليوم السابع على التوالي بعروض سينمائية متنوعة، وقد عرض أمس الخميس 30 تشرين الثاني/نوفمبر، كل من فيلم "مدينة الرياح" للمنغولية لخاكفادولام بوريف - أوشير، و"أوروبا" للنمساوية من الأصول الإيرانية سودابة مرتضى، و"ماشطات" للتونسية سونيا بن سلامة ضمن فقرة "العروض الخاصة"، بالإضافة إلى فيلم "كذب أبيض".
يتناول فيلم "مدينة الرياح" قصة شاب خجول في السابعة عشرة، يواظب على الدراسة لتحقيق حلم النجاح في مجتمع خالٍ من الأحاسيس في منغوليا الحديثة، مستمراً في التواصل مع أرواح أسلافه لتقديم العون لأفراد مجتمعه. لكن لقاءه بمارالا أيقظ أحاسيسه، فبرزت للوجود حقيقة كانت مخفية.
أما أحدث فيلم "ماشطات" فتدور في منطقة المهدية بتونس، حيث تعمل فاطمة وابنتاها ناجح ووافي في مجموعة موسيقية من "الماشطات"، تؤدي أغنيات تقليدية في حفلات الزفاف. تواجه الشقيقتان مصيرهما، فبينما تحاول الكبرى الزواج مجدداً بعد طلاقها للتخلُّص من سلطة أسرتها، تبحث الصغرى عن سبيل للانفصال عن زوجها العنيف، لتتأرجح الأم بين ابنتيها، على أمل أن تتخذ الأمور منحى أفضل في المستقبل.
وعن فيلم "كذب أبيض" الذي ينافس حول الجائزة الكبرى ضمن فعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، فكشفت المخرجة وكاتبة سيناريو والمنتجة المغربية أسماء المدير أن فيلمها هو مصالحة جيل مع ماضيه، وهو ما حاولت أن تبرزه من خلال فيلمها الذي سلط الضوء على "انتفاضة 1981" التي شهدتها مدينة الدار البيضاء.
وعلى هامش المهرجان أكدت أسماء المدير التي أخرجت العديد من الأفلام الوثائقية، بالإضافة إلى إخراجها فيلم
"زاوية أمي" عام 2020، الذي اختير للمشاركة في المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بأمستردام والمهرجان الدولي للفيلم بمراكش؛ على أن فيلمها "كذب أبيض" الحائز على جائزة أفضل إخراج في قسم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي، ليس فيلماً وثائقياً ولا خيالياً، بل هي قصة حقيقية وخليط يجمع بين كل هذه المكونات السينمائية التي أعطت تجربة مزجت بين الخيال والواقع و"الفونتيزي"، مشيرةً إلى أن كل هذه العناصر مجتمعة أعطتنا خليطاً وثائقياً.
وحول لجوئها للمجسمات "الدمى، الماكيط للحي..." في الفيلم، أوضحت "بدأت في إنجاز هذا الفيلم عام 2012، وهو ما تطلب مني عشر سنوات من الإنجاز. في خضم ذلك فكرت في أن إحدى تلك الشخصيات يمكن أن يغيبها الموت في أية لحظة، وأنا نفسي قد أفارق الحياة، وكان لابد أن أضمن استمرار خروج الفيلم، لذلك اهتديت لفكرة المجسمات، بحيث كل دمية ترمز لشخصية داخل الفيلم بمن فيهم أنا، حتى إذا ما تغيبت أي شخصية يمكن للفيلم أن يستمر.
وأضافت "صحيح أن تلك الدمى بقيت بلا روح بعد نهاية الفيلم، لكنها أدت وظيفة مهمة جداً، حيث كان يصعب أن أنقل الشخصيات الحقيقية الذين هم أفراد عائلتي وأدخلهم في متاهات الأبواب المغلقة، كصعوبة الحصول على الأرشيف الذي يوثق لتلك الفترة من تاريخ المغرب، وهي انتفاضة 20 حزيران عام 1981، أو حتى الوصول لبعض الأمكنة والفضاءات التي ليس من السهل التصوير داخلها"، لافتةً إلى أن الأمر لم يكن سهلاً خاصة وأن الفيلم يحكي قصة حياتها برفقة عائلتها مع ما عرفته مدينة الدار البيضاء من أحداث أليمة تعرف بـ "شهداء كوميرا" أو "انتفاضة الخبز" التي أودت بحياة عدد من المواطنين والمواطنات.
وأكدت على أن "الأمر لم يكن بهدف الإثارة أو استعراض عضلات داخل الفيلم. بل هي أدوات سينمائية اعتمدت عليها لأن المسألة بدت لي أشبه بالانطلاق من نقطة معينة للوصول إلى القمر، حيث المسافة بعيدة جداً بينهما، إذ كيف يعقل الجمع بين قصة واقعية وحياة يومية يعيشها أفراد أسرتي وربطها بأحداث كبيرة وحاسمة في تاريخ المغرب السياسي".
ولفتت إلى أن الفيلم منذ بدايته وإلى غاية الانتهاء من تصويره يضم أرشيف صور تتراوح لما بين عام (2012 ـ 2020)، وهو تاريخ نهاية التصوير، مما يشير إلى أنها قضت عشر سنوات في جمع المادة الخام التي اعتمدت عليها في إنجاز هذا الفيلم.
وعن المصالحة التي يطرحها فيلم "كذب أبيض"، سواء تعلق الأمر بمصالحة بين أفراد أسرتها أو مصالحة المغاربة مع ما وقع من أحداث، أوضحت أنها عندما بدأت في كتابة فيلمها لم تكن قد وصلت لهذه المرحلة من النضج السينمائي، وقد كان لابد أن تخلق هذه المصالحة بداية بين أفراد أسرتها وتنطلق منها، خاصة بين والدتها وجدتها التي تتدخل في كل كبيرة وصغيرة، قبل أن تتطرق للمصالحة خارج باب بيتها الأزرق، كما تقول.
كما عبرت عن أهمية مصالحة الجيل الجديد مع نفسه أولاً ومع ماضيه كيفما كان هذا الماضي، حتى يتسنى له أن يستمر ويمضي قدماً نحو المستقبل، مؤكدةً أن "من لا ذاكرة وماضي له فلا مستقبل له"، مشيرةً إلى أنه عبارة عن استحضار للذاكرة وبناء انطلقت فيه من حكاية شخصية تجمع أفراد عائلتها إلى حكاية أكبر تشمل أبناء الجيران في الحي الذي شهد تلك الأحداث.
وعما إذا كانت قد أنصفت أفراد عائلتها وضحايا الانتفاضة، أكدت أنها لا تؤمن بأن دور السينما هو الإنصاف، بقدر ما تؤمن بأن دورها يكمن في طرح القضايا والإشكاليات والدعوة إلى التفكير فيها بعمق، مضيفةً "كان مهماً بالنسبة لي أن هذه الشخصيات شاركت في الفيلم وتحدثت بعفوية وبصدق ما عاشته في تلك المرحلة، وهذا الأمر في حد ذاته هو مصالحة وعلاج للآثار والجروح التي خلفتها تلك الأحداث. لا يهم بعد ذلك ماذا سيقع، لكل منا سينماه".
أما عن تعنت الجدة طيلة المشاهد التي تضمنها الفيلم ورفضها الانخراط في عملية صنع المجسمات وكيف نجحت المخرجة في إقناعها بالظهور في الفيلم، قالت "في البداية كانت جدتي مقتنعة بدورها، لكن بعد ذلك تراجعت ورفضت أن تروي قصتها. لم أجد من وسيلة أخرى إلا أن أقدم لها صوراً لثلاث ممثلات، طلبت منها أن تختار منهن واحدة لكي تؤدي دورها في الفيلم، وبعد ساعتين استقبلت اتصالاً منها تسألني كيف يمكن لامرأة أخرى غيرها أن تحكي قصتها، فأجبتها (هذا إكراه وعلينا أن نواجهه لا أملك حلاً آخر لكي أكمل الفيلم. سأنجزه بشخصية أخرى غيرك)، ففاجأني ردها بأن أكدت أنها هي من سيقوم بالدور وأنها هي من ستروي قصتها".