جيهان بلكين... أيقونة الحقيقة التي قاومت في وجه القمع
كرّست الصحفية جيهان بلكين حياتها لتوثيق الحقيقة من جبهات الحرب ضد داعش إلى الهجمات التركية، واستشهدت أثناء أداء رسالتها، وبذلك، تركت أثراً عميقاً في زملائها وشعوب إقليم شمال وشرق سوريا، وباتت رمزاً للإصرار والإعلام الحر الذي لا ينكسر.
سوركل شيخو
تل تمر ـ جيهان بلكين صحفية كردية كرّست حياتها لتوثيق الحقيقة من ماردين إلى إقليم شمال وشرق سوريا، وشاركت في تغطية المعارك ضد داعش والهجمات التركية حتى استُشهدت باستهداف مسيّرة تركية عام 2024 أثناء أداء عملها. تركت أثراً عميقاً في زملائها وشعوب المنطقة، وباتت رمزاً للإعلام المقاوم، فيما لا يزال مطلب محاسبة قاتليها ونقل جثمانها إلى أسرتها معلّقاً.
جيهان بلكين، ابنة سهول ماردين بشمال كردستان، عاشت حياة مليئة بالنضال والسعي الدائم وراء الحقيقة، وُلدت في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1996 في ناحية مدياد التابعة لمدينة ماردين، وفي عام 2014 التحقت بكلية الحقوق في جامعة دجلة بمدينة آمد ديار بكر"، خلال تلك الفترة، بدأ شغفها بالبحث عن الحقيقة وكشف ممارسات الاحتلال التركي يتبلور شيئاً فشيئاً، ما دفعها إلى دخول عالم الصحافة، ومن هناك بدأت مسيرتها المهنية عبر وكالة أنباء دجلة (DİHA)، لتخطو أولى خطواتها في طريق العمل الإعلامي.
وفي عام 2017 انتقلت جيهان بلكين إلى إقليم شمال وشرق سوريا، حيث تابعت ميدانياً العمليات العسكرية ضد داعش من الرقة وصولاً إلى الطبقة، ومع تطور الأحداث، وجهت عدستها هذه المرة نحو توثيق الهجمات التي شنّها الاحتلال التركي على المدن الحدودية في المنطقة، لتصور بكاميرتها حقيقة الهجمات لحظة بلحظة.
وفي 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وبين جسر قرقوزاق وسد تشرين، وأثناء تغطيتها للمقاومة ضد الهجمات التركية، استُهدفت جيهان بلكين وناظم دشتان بطائرة مسيرة تابعة للاحتلال التركي، ما أدى إلى استشهادهما أثناء أداء عملهما الصحفي.

"أيقونة الإعلام المقاوم التي لم يُحاسَب قتلتها بعد"
وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيلها، استعاد رفاقها مسيرتها وإصرارها الذي لم يفتر. وقالت آرين سويد، الإدارية في وكالة أنباء هاوار (ANHA)، إن جيهان بلكين تركت كلماتها الأخيرة شاهدة على إيمانها العميق بالطريق الذي اختارته، إذ كتبت "أنا واثقة بأن هذا المسار سينتصر، وسنسير مرة أخرى مع القائد أوجلان".
وأضافت "اليوم نعيش تلك الكلمات، جيهان لم تُتح لها فرصة رؤية مسار السلام والمجتمع الديمقراطي يتحقق، ولم تشهد الحماس الذي كانت تتوق إليه، لكنها قبل انطلاق هذا المسار كانت تنبض بالحياة، وتعمل بإيمان راسخ بما تؤمن به".
وأشارت إلى أن جيهان بلكين كانت دائماً في مقدّمة من يصرّون على توثيق العمليات ضد داعش، وكانت هي الاسم الأول الذي يتقدّم لأي مهمة ميدانية "كانت تريد تسجيل كل لحظة تاريخية ونقلها إلى العالم، كانت تردد دائماً: هذه الثورة تستحق أن يقدّم الإنسان روحه من أجلها"، مؤكدةً أن "عملها التوثيقي شكّل ركيزة أساسية في الإعلام الثوري، وبات جزء كبير من التاريخ الذي يُكتب اليوم في إقليم شمال وشرق سوريا يحمل بصمتها، وفي كل جبهة جديدة كانت تُفتح، كانت جيهان حاضرة، تتقدم الصفوف بكاميرتها وإيمانها".
واصلت آرين سويد حديثها عن إرث جيهان بلكين "اليوم، الكثير من النساء يواصلن العمل الصحفي بروح جيهان وإصرارها، ومن أجل شغفها الأخير وآمالها بالانتصار، سنبقى أوفياء لطريقها ونواصل العمل الذي بدأته"، مضيفةً "حتى الآن لم يُحاسَب قتلة رفاقنا، صدرت بيانات، لكنها كانت مخجلة ولا ترقى إلى مستوى الجريمة، قبل جيهان استُشهد عدد من زملائنا أيضاً، ومع ذلك ما يزال القاتل بلا حساب".
وأوضحت أن منظمات دولية تلقّت تقارير وملفات متعلقة باستشهاد جيهان بلكين بهدف فتح تحقيق قضائي، لكن دون أي نتيجة حتى اللحظة، إلا أن المتابعة القانونية مستمرة "الأمر الأكثر إيلاماً أننا لم نتمكن حتى الآن من نقل جثمانها إلى شمال كردستان كي تتمكن والدتها من وداعها، بسبب منع الاحتلال التركي، ومع ذلك، سنُبقي روحها حيّة، وستظل حاضرة في كل خبر نكتبه".

"حلمها بروج آفا كان أقوى من حدود القمع"
من جانبها، تحدّثت سمرا توران، محررة في وكالة "jin news" التي تعرفت على جيهان بلكين في شمال كردستان، عن بداياتها قائلة "في شمال كردستان لم تعمل في الصحافة سوى فترة قصيرة، إذ كان اهتمام الصحفيين هناك منصبّاً على قضايا شعب المنطقة، بينما كان قلب جيهان وعقلها يتجهان نحو ثورة روج آفا، كانت تحلم برؤيتها والتعرّف إليها عن قرب".
وتابعت "في الاجتماعات كانت دائماً تطرح أفكاراً جديدة، وعندما كنّا نستعد للخروج لتغطية الأخبار، كانت تبادر بالسؤال ما الذي يمكنني فعله؟ كان حماسها وروح الرفاقية لديها ملهِمين بحق، وكانت تبث القوة في كل من حولها".
وأكدت أن استهداف الصحفيين لم يبدأ باستشهاد جيهان بلكين، بل سبقته سلسلة من الاغتيالات التي طالت رفاقهم "كانت تسعى لكشف كل المجازر، وأن تُعرّف العالم بثورة روج آفا، وأن توصل صوت الشعب إلى كل مكان، لقد لمسا التقدّم الذي أحرزته المنطقة من خلال تقارير جيهان وأخبارها، وكل رفيق شهيد يعيد إلى ذاكرتنا سؤالاً واحداً، كيف سنواصل هذا الطريق؟".
وأضافت "لقد حملنا نضال جيهان، ولم نسمح لقلمها أن يسقط، علينا أن نكون صوت شعب كردستان في أجزائه الأربع، وصوت كل الشعوب التي تتعرض للظلم تحت حكم الأنظمة المستبدة".

"لم تكن عاشقة للحرب بل عاشقة للحقيقة"
أجرت لوسين هاكوبيان، المقاتلة في كتيبة نوبار أوزانيان الأرمنية، أول مقابلة صحفية في حياتها العسكرية مع جيهان بلكين، واستعادت تلك اللحظات بقولها "بدأ تعارفنا من خلال تلك المقابلة، في كل موقع كانت تحدث فيه هجمات، كانت جيهان توثّق كل شيء بكاميرتها، لكنها لم تكن عاشقة للحرب، بل عاشقة للحقيقة".
وأكدت إن جيهان بلكين تركت أثراً عميقاً في قلوب جميع مكوّنات إقليم شمال وشرق سوريا "باستشهادها لم يحزن الكرد وحدهم، ولا أمها وأخواتها فقط، بل تأثر العرب والآشوريون والسريان والأرمن أيضاً، فكل أم كردية أو عربية أو آشورية هي أم جيهان بلكين"، مضيفةً "لم تمر سنة وكأن الزمن قد أغلق صفحة رحيلها؛ فوقع استشهادها ما زال حاضراً كأنه حدث بالأمس".
ولفتت لوسين هاكوبيان الانتباه إلى قصة عائلتها التي نجت من المجازر العثمانية، والتي وثّقتها جيهان بلكين "قامت بتوثيق حكاية عائلتي الأرمنية التي قاومت المجازر، ونقلتها إلى العالم وجعلت الآخرين يتعرّفون إليها، وبدورنا نتعهد بأن نروي قصة جيهان بلكين لأطفالنا في المستقبل ولمن حولنا، وأن نبقيها حيّة دائماً، سنجعل عيون أطفالنا تتفتح على قصتها، تماماً كما أضاءت رؤيتها حياتنا".
وكتبت جيهان بلكين في مذكرتها الأخيرة "أعرف أرض منبج وقرقوزاق وتشرين وعين عيسى وأهلها، وعندما تحرروا، شاركت نساء تلك المناطق فرحتهن، وشعرت بوهج الحرية يلمع في عيونهن، امتلأتُ بذكريات النساء اللواتي رأيتهن كأخوات ليّ، وبالألم الذي تركه ما فعله داعش بهن، شربت الشاي والقهوة مع أشخاص لم أكن أعرفهم من قبل، وصرت جزءاً من قصصهم، وأضافت حكاياتهم الكبيرة عمقاً جديداً لحكايتي"، مضيفةً "قلت لنفسي يجب أن تبقى كل هذه الذكريات حيّة، وحتى لو احتجت بعد أربعين عاماً إلى فنجان قهوة كي أعود إلى هنا، فسأعود، لقد جئت من أجل هذا المكان".