إلى أين تتجه بيئة إقليم كردستان؟ ـ 1ـ

يتعرض إقليم كردستان لتدمير بيئي ممنهج بفعل السياسات الداخلية والإبادة البيئية التي تنفذها تركيا عبر القصف وقطع الأشجار واستخدام الأسلحة الكيميائية، وسط صمت حكومي مريب، ويُعد هذا التدهور تهديداً خطيراً للتوازن البيئي والهوية الكردية.

هيرو علي

مركز الأخبار ـ يعيش الكرد تحت وطأة الاحتلال والتهميش، وهذه حقيقة لا بد من إدراكها بوعي كامل، فالمحتلون لم يكتفوا بمحاولاتهم المستمرة لمحو الفكر واللغة والجسد، بل باتوا اليوم يصبّون سمومهم عبر تدمير البيئة وتخريب الطبيعة في كردستان، في محاولة جديدة لطمس الهوية الكردية من خلال استهداف الأرض.

تشكّل البيئة منظومة متكاملة تتعايش فيها الكائنات الحية بانسجام، حيث تؤثر فيها مجموعة من العوامل الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية بشكل مباشر، وكلما كانت هذه المنظومة سليمة وطبيعية، انعكس ذلك إيجاباً على صحة الكائنات التي تعيش فيها، فبيئة صحية تعني حياة صحية، إذ يرتبط توازن الحياة البيئية ارتباطاً وثيقاً بسلامة الكائنات الحية واستقرارها.

شهد العالم في السنوات الأخيرة تغيرات مناخية متسارعة بفعل التقدم التكنولوجي والصراعات بين الدول، والتقلبات الجوية، ما أدى إلى تهديد مباشر للأمن البيئي العالمي، هذه التحديات لا تعترف بالحدود السياسية أو الإدارية، إذ تتجاوزها لتؤثر على الجميع دون استثناء، ومع ذلك فإن تقاعس الدول والشركات والمنظمات عن الالتزام بالاتفاقيات الدولية للحد من المخاطر البيئية، جعل جهود الدول المتقدمة في مواجهة الكوارث البيئية تواجه الفشل.

وفي السياق ذاته، تعاني بيئة إقليم كردستان من تدهور مستمر يشبه ما يحدث في العديد من مناطق العالم، حيث تتعرض للتلوث والتدمير بفعل نفس الأسباب والأدوات التي تنهك البيئة العالمية، ما يستدعي تحركاً عاجلاً لحمايتها وضمان استدامتها للأجيال القادمة.

فعلى امتداد تاريخ إقليم كردستان، كانت الحروب والصراعات المتكررة سبباً رئيسياً في تدمير بيئتها الطبيعية، وقد بدأت أولى مراحل هذا التدمير في ثمانينيات القرن الماضي، حين أطلق نظام البعث العراقي حملة ممنهجة لتهجير القرى وتحويلها إلى مناطق محظورة، خاصة بعد عام 1988، مع تنفيذ عمليات الأنفال التي أدت إلى تدمير أكثر من 4500 قرية.

نتج عن هذه العمليات تجفيف العديد من العيون والموارد المائية، وانقراض مساحات واسعة من الغابات والبساتين الطبيعية، ما شكّل ضربة قاسية للتوازن البيئي في المنطقة، وتُعد هذه الأحداث أولى المحاولات المنظمة لتخريب بيئة إقليم كردستان، وهي امتداد لنفس السياسات والأدوات التي تسببت في تدهور البيئة على مستوى العالم.

وبعد عام 1992، لم يكن في الإقليم جهة رسمية متخصصة بحماية البيئة، وظل هذا الفراغ قائماً حتى عام 2008، حين تم تأسيس هيئة لحماية وتحسين البيئة، جاء ذلك استناداً إلى الفقرتين (1 و5) من المادة (56) من القانون رقم (1) لسنة 1992 المعدّل، وبناءً على طلب مجلس وزراء إقليم كردستان، تم إقرار القانون رقم (8) لسنة 2008، الذي نصّ على حماية البيئة وتحسينها في الإقليم، ليشكّل بذلك خطوة قانونية مهمة نحو تنظيم العمل البيئي وضمان استدامته.

 

الإبادة البيئية في إقليم كردستان

رغم وجود القوانين والاتفاقيات الدولية التي تلزم الدول بحماية البيئة، شرعت تركيا منذ عام 2018 في تنفيذ عمليات ممنهجة لقطع الأشجار وتغيير التركيبة الديموغرافية لغابات إقليم كردستان، وبدأت هذه العمليات في منطقة دوتازة التابعة لهاوسنوور، بالتوازي مع منطقة تشليه في شمال كردستان، حيث أنشأت القوات التركية طريقاً يمتد من تشليه إلى مدينة دوتازة.

وخلال إنشاء هذا الطريق، قامت بقطع الأشجار بعرض ثمانية أمتار وبطول يتناسب مع متطلباتها، لكن بمجرد دخولها أراضي الإقليم تجاوزت ذلك لتقطع جميع الأشجار في المنطقة، في انتهاك صارخ للمعايير البيئية والاتفاقيات الدولية، حيث تشكل تهديداً مباشراً للتوازن البيئي والديموغرافي في الإقليم.

وفي عام 2020، بدأت المرحلة الثانية من عمليات تدمير الغابات في منطقة حفتانين، حيث تم قطع كميات كبيرة من الأشجار، ونُقل يومياً ما بين 350 إلى 400 طن من الأخشاب إلى تركيا، لاحقاً خفّضت الدولة التركية من وتيرة القطع، لكنها طرحت خطة بديلة تمثلت في حرق الغابات، مستهدفة خلال هجماتها المتواصلة على إقليم كردستان الأشجار والبساتين والغابات وممتلكات المواطنين، ما أدى إلى تدمير واسع للبيئة.

بدأت عمليات الحرق في منطقة متين الحدودية، ونُفذت بشكل كبير عبر القصف المدفعي والهجمات المستمرة، إلى جانب استخدام القواعد العسكرية التركية المنتشرة في المناطق الحدودية، ولا تزال هذه العمليات مستمرة حتى اليوم.

وفي عام 2021، كشفت هيئة حماية وتحسين البيئة في إقليم كردستان عن إحصائية رسمية تشير إلى أن نحو مليون دونم من أراضي الإقليم تضررت خلال عام واحد فقط نتيجة القصف والهجمات التركية، ما يعكس حجم الكارثة البيئية التي تتعرض لها المنطقة.

وفي عام 2022، أعلنت هيئة حماية وتحسين البيئة في إقليم كردستان أن مليون دونم من الغابات قد احترقت نتيجة القصف المتواصل من قبل تركيا وإيران، ما شكّل كارثة بيئية غير مسبوقة في الإقليم.

وفي منتصف العام ذاته، كشفت قوات حماية الشعب أن الجيش التركي استخدم الأسلحة الكيميائية ضد إقليم كردستان في 779 مناسبة منذ 15 نيسان/أبريل 2022، مشيرة إلى أن هذه الأسلحة لا تقتصر آثارها على تدمير الغابات، بل تؤدي أيضاً إلى إبادة الحياة البرية من حيوانات وطيور في تلك المناطق.

وفي عام 2025، أصدرت منظمة السلام الهولندية "PAX" تقريراً مفصلاً حول الأضرار البيئية الناجمة عن القصف التركي، مؤكدةً أن هذه الهجمات تسببت في دمار واسع للغابات وسلسلة جبال زاغروس، وأن الحرائق الناتجة عنها ألحقَت أضراراً جسيمة بالنظام البيئي في الإقليم، ما يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لحماية ما تبقى من الطبيعة في كردستان.

وفي جزء آخر من تقرير المنظمة الهولندية، ورد أن نتائج هذا التدمير تشير إلى أن هناك احتمالاً كبيراً بأن 7% من الأراضي المحترقة تعود أسبابها إلى أحداث نزاع مسلح، ويرجّح أن معظمها مرتبط بالقصف الجوي أو المدفعي التركي على تلك المناطق.

ما تقوم به الدولة التركية يُعد تدميراً ممنهجاً للبيئة في كردستان، وهو بحسب القوانين الدولية يُصنّف كجريمة حرب وانتهاكاً لحقوق الإنسان، ووفقاً للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1977، في مواده 35 و54 و55، بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية البيئة، مثل اتفاقية حظر استخدام الوسائل العسكرية أو العدائية لتغيير البيئة، واتفاقية عام 1980 الخاصة بحظر وتقييد الأسلحة التقليدية، البروتوكول الإضافي لعام 1999 الملحق باتفاقية لاهاي لعام 1954.

جميع هذه الاتفاقيات تؤكد على ضرورة التزام الدول، في حالات الحرب أو النزاع المسلح، بحماية البيئة والموارد الطبيعية، وعدم استهدافها أو استخدامها كوسيلة عسكرية، وهو ما يُعد خرقاً واضحاً في حالة الهجمات التركية على أراضي إقليم كردستان.

 

منها انخفاض الغطاء النباتي في كردستان

من بين الأسباب الداخلية التي تسهم في تدهور البيئة في إقليم كردستان، انخفاض نسبة المساحات الخضراء، إذ تشير بيانات الهيئة العامة لحماية البيئة إلى أن الغطاء النباتي لا يتجاوز 12.4% من مساحة الإقليم، في حين أن المعايير البيئية العالمية تشترط ألا تقل هذه النسبة عن 15%.

وفي عام 2024، أعلنت مديرية السياحة العامة في السليمانية، ضمن برنامج مشترك مع مجلس بلدية المدينة، عن إعداد مخطط سياحي لمنطقة جبل كويزە، يتضمن إنشاء عدة مناطق جذب سياحي ومجموعة من الأنشطة الحديثة والمتنوعة.

هذا المشروع أثار موجة من الاعتراضات من قبل جهات بحثية وبيئية، ما دفع مجموعة "كویزە بفاريزە" إلى تأسيس نفسها بهدف حماية الطبيعة في الجبل. وقد انطلقت هذه المبادرة في 30 أيار/مايو 2024، من قبل فريق البيئة التابع لمنظمة "آزاديون"، بهدف الضغط على الجهات المعنية لوقف تنفيذ المشروع حفاظاً على البيئة.

وبفضل هذه الجهود المجتمعية، لم يُنفذ المشروع حتى الآن، مما يُعد خطوة مهمة نحو حماية جبل كويزە من التوسع السياحي غير المدروس.

ما تشهده بيئة إقليم كردستان اليوم يُعد انتهاكاً صارخاً لكل القوانين والمبادئ والمعايير البيئية، ويعود ذلك إلى سياسات حكومية داخلية تتعمد تقليص المساحات الخضراء لصالح مصالح الشركات، عبر تصريحات وتوجهات متعددة.

وفي المقابل، تنفذ الدولة التركية عملية إبادة بيئية ممنهجة في الإقليم، تشمل القصف المدفعي والجوي، استخدام الأسلحة الكيميائية، الهجمات البرية، وقطع وحرق الغابات والبساتين، بما فيها أشجار الزيتون والرمان، وممتلكات المواطنين، التي أصبحت أهدافاً مباشرة لتلك العمليات.

ورغم هذا التدمير المنظم، تلتزم الحكومة وبرلمان كردستان الصمت، دون اتخاذ أي موقف واضح أو خطوات عملية لوقف هذه الإبادة البيئية، ما يثير تساؤلات جدية حول مسؤولية الجهات الرسمية في حماية البيئة والإنسان في الإقليم.