امرأة في الرماد... قصة احتراقٍ وصمتٍ ونسيان لنساء كرماشان
في أرض تنهش فيها الفقر والتقاليد والقوانين جسد المرأة، تصرخ نساء كرماشان من خلال النار، لكنهن لسن طيور الفينيق، ولا يتركن خلفهن من يروي قصتهن، لا يبقى سوى رمادهن والنسيان.

نسيم أحمدي
كرماشان ـ إنهن يحترقن، لكن على عكس طائر الفينيق، لا ينبعثن من رمادهن، بل يُنسين. هذه قصة نساء في كرماشان، كان نصيبهن من كونهن نساء مجرد صفيحة نفط وشرارة تُشعلهن بالنار.
قصة انتحار النساء حرقاً ليست ظاهرة جديدة، ففي العقود الأخيرة، أقدمت مئات النساء على حرق أنفسهن احتجاجاً على الضغوط والكبت المفروض عليهن، وغالباً ما يكون الهدف من حرق النفس خاصة في إيران، وخصوصاً في الغرب والشمال الغربي منها، هو جذب الانتباه لتُسمع صرخاتهن، أو كوسيلة للهروب من الضغوط المفروضة عليهن.
وتحدث هذه الظاهرة في كرماشان، وبشكل خاص في مناطق اليارسان وأهالي قلخاني، في صفوف النساء المتزوجات اللواتي كُن ضحايا للزواج المبكر والعنف المنزلي.
ولا توجد إحصائيات أو مصادر دقيقة حول عدد هذه الحوادث، لأن مثل هذه القضايا تُغلف عادةً بالخوف من العار أو تُخضع للرقابة الإعلامية، لكن المصادر المحلية تتحدث عن أرقام مقلقة تفوق ما يُعرض أحياناً في وسائل الإعلام.
احتجاج في الحريق
يقول مدير قناة تيليجرام في منطقة سربل ذهاب بمدينة كرماشان "لديّ قناة إخبارية على تيليجرام، ويرسل لي أعضاء القناة دائماً إعلانات متنوعة، على سبيل المثال، عن امرأة أنهت حياتها، لكن الجزء المرير من القصة هو أن معظم النساء اللواتي ينتحرن في المنطقة، وخاصة في المناطق التي يسكنها اليارسان، يُشعلن النار في أنفسهن، وفي معظم الحالات يمتن بعد بضعة أيام من المعاناة. عندما أنشر خبر وفاتهن على القناة، تُهددني عائلات المتوفين فوراً بحذف الخبر. لذلك، من المستحيل تغطية أخبار مثل هذه الانتحارات بالتفصيل".
كما ذكرنا سابقاً، يُعدّ العنف الأسري أحد الأسباب الرئيسية لإقدام النساء على حرق أنفسهن، إلا أن هذا العنف غالباً ما يكون متجذراً في العقلية الأبوية والفقر والظروف الاقتصادية الصعبة المفروضة على المجتمع.
ففي تقرير نُشر في تموز/يوليو 2023 من قِبل المركز الصحي في قرية "بزمير آباد" في سربل ذهاب، تبيّن أن عشرات حالات العنف الأسري ضد النساء تقع في القرية الصغيرة نفسها شهرياً، وينص التقرير على أن إقدام النساء على حرق أنفسهن في هذه المنطقة أصبح فعلاً احتجاجياً مُعدياً.
العنف المنزلي... جرح خفي
العامل الرئيسي الذي يدفع النساء في هذه المنطقة إلى إحراق أنفسهن هو مسألة الجغرافيا وظروف المعيشة غير المتكافئة، فمعظم سكان هذه المناطق يتبعون ديانة اليارسانية، مما تسبب في حرمانهم من أبسط الاحتياجات والمرافق، ومعظم الرجال الذين يعيشون في هذه المناطق ليس لديهم عمل أو وضع اجتماعي خاص.
تفرض قضية الضغط الاقتصادي ضغوطاً في المنطقة وظهور جميع أشكال العنف. في هذه المناطق، وبسبب نقص المدارس فوق المرحلة الابتدائية، لا يمكن للفتيات عادةً الدراسة إلا حتى الصف الخامس من المدرسة الابتدائية، وبعد ذلك، وفقاً للثقافة السائدة، يُجبرن على الزواج ثم إنجاب الأطفال بسبب نقص الوعي.
فالزواج بسن صغيرة والضغوط الاقتصادية على الزوجة، يضع الأساس للعنف الأسري لأن المجتمع عادة ما يعتبر الرجل هو معيل الأسرة، وعندما يكون الرجل عاجزاً عن توفير احتياجات الأسرة، فإنه يعتبر وجود زوجته وأطفاله سبباً للفقر، وبالتالي فهو يضايقهم ويسيء معاملتهم، وفي هذه الحالة عادة ما تكون المرأة أكثر اضطهاداً.
التفاوت الجغرافي ألسنة اللهب غير المرئية
يقول موظف في مركز طوارئ كرماشان الاجتماعي "لا داعي للقول إن معظم النساء اللواتي يُقدمن على حرق أنفسهن يندمن على ذلك، لأن هذا النوع من الانتحار غالباً ما يكون احتجاجاً على ظروف المعيشة وسلوك الأب أو الأخ أو الزوج، وقد أصبح شكلاً رمزياً للاحتجاج، ولكن في كثير من الحالات، يكون الهدف الفعلي هو إنهاء حياتهن؛ على سبيل المثال، لدينا العديد من النساء اللواتي يُقدمن على حرق أنفسهن في مكان مغلق الباب، مثل الحمام أو المرحاض، للتأكد تماماً من عدم محاولة أحد إنقاذهن. لا يمكن الجزم بأن هذا النوع من الانتحار يقتصر على الشريحة الفقيرة من المجتمع، ولكن يمكن الجزم بأن الفقر هو أحد العوامل الرئيسية وراء هذا الشكل من العنف والحوادث".
عادةً ما تكون مسألة إحراق النساء لأنفسهن بناءً على طلب الضحايا لإنهاء حياتهن أو للاحتجاج، ولكن يجب أيضاً مراعاة بُعد آخر لهذا العنف، حيث تُحرق امرأة أو يُحرقها شخص آخر كعقاب كما حدث مع فتاة في قرية "تشمن جيلن" في سربل ذهاب، حيث أحرقها والدها بالماء المغلي.
ويقول المطلعون إن الفتاة "أغضبت والدها" لعودتها إلى منزله بقرار الطلاق، وبعد جدال مع الفتاة، سكب الأب الماء المغلي على ظهرها وجزء من رقبتها.
وروى أحد نشطاء المجتمع المدني المطلعين على الحادثة ما يلي "وقعت هذه الحادثة ليلاً، واضطرت الفتاة إلى تحمل الألم حتى الصباح خوفاً من والدها، وفي صباح اليوم التالي، عندما اكتشفنا الأمر واتخذنا إجراءات لعلاجها، كانت ملابسها ملتصقة تماماً بظهرها، فاضطر طبيب الجلدية إلى بذل جهد كبير لإزالة الملابس من مكان الحروق"، مضيفاً "الجزء المؤلم من القصة هو أن الفتاة وافقت على العلاج بشرط واحد، ألا يتم مقاضاة والدها".
القانون ملاذٌ للمعتدين
بالإضافة إلى الثقافة السائدة التي تبرر معاقبة الفتاة من قِبل والدها أو أخيها أو زوجها، لا تتضمن القوانين إطاراً صارماً للتعامل مع هذا العنف، وبالتالي فإن جميع هذه العوامل تسمح بارتكاب أي عنف من قِبل الرجال في المجتمع.
بالنظر إلى تجربة هذه الفتاة، يُمكننا التكهن بيقين أكبر باحتمال أن تكون معظم حالات الحرق شكلاً من أشكال العنف من قِبل شخص آخر، وبالتأكيد شكلاً من أشكال الشروع في القتل من قِبل الأخ أو الزوج أو الأب، وحتى الرجال الآخرين. على سبيل المثال، ألقت امرأة تُدعى ليلى في كرماشان باللوم على زوجها بعد تعرضها للحرق، لكن زوجها أنكر هذه الادعاءات، وصرح بأن ليلى سكبت الزيت على نفسها وقالت إنها ستحرق نفسها، وأنه أخبرها فقط أنها لم تجرؤ على فعل ذلك.
لاحقاً، كُشف من خلال تصريحات مقربين من العائلة أن زوج ليلى كان مدمناً، وأنها سكبت الزيت على نفسها لتهديد زوجها، لكن الأخير هو من رمى عليها الولاعة. ومع ذلك، بما أن القوانين عادة ما تكون في صالح الرجال، لم تتم معاقبة زوج ليلى مطلقاً، وبعد شهرين توفيت ليلى في المستشفى.
النساء ضحايا حتى بعد الموت
كل هذا العنف له جذوره في الثقافة والمعتقدات السائدة التي تحصر المرأة في كونها مجرد كائنات للخدمة أو التضحية. وحتى بعد الموت، يبقى الرجال هم من يحددون صورة المرأة في المجتمع. على سبيل المثال، إذا قتل أخ أخته أو قتل أب ابنته، يُقدمون أنفسهم كحراس الشرف في المجتمع، أو إذا قتل زوج زوجته، يُطلق على نفسه لقب البطل الذي محا وصمة العار، لكن في النهاية كل هذه المعتقدات هي شرارات حوّلها النظام الأبوي إلى لهيب يحرق النساء، وفي خضم نيران الغضب والعنف والتضحية بالنفس، تصبح النساء ضحايا، ويُنسى وجودهن تحت الرماد.
في الختام، لا بد من القول إن حرق النفس قد يكون صرخة رمزية من قلبٍ متألم واحتجاجاً على حياةٍ بلا مأوى، ولكنه ليس حلاً. ما يجب تغييره ليس مصير المرأة فحسب، بل أيضاً البنية التي تربط الحياة بالموت. يجب على المجتمع ألا ينسى الالتزام بالتعايش والكرامة الإنسانية، وألا يُزهق أرواح بعضهم البعض بأيديهم.
المشكلة ليست مجرد أزمة فردية أو عائلية، بل هي متجذرة في بنية الدول القومية القائمة على النظام الأبوي والسيطرة على أجساد النساء وحياتهن، ومتجذرة في مؤسسة الأسرة وبنية المجتمع.
وإلى أن يتغير هذا النظام الفاسد ويتحرر المجتمع من العادات والتقاليد التي تُمكّن من قتل الفتيات على يد آبائهن أو إخوتهن أو أزواجهن أو غيرهم، فإن رماد النساء سيظل شاهداً على الطبيعة الملتهبة لهذا العنف.