"قرية تل البنات" صرحٌ تاريخيٌ غمر بالمياه ونهبت آثاره

تتميز مناطق شمال وشرق سوريا بتنوع المواقع الأثرية فيها، لا تزال هذه الأماكن تروي تراثاً يأبى الاندثار، قرية "تل البنات" التي بنيت على أيدي 750 امرأة، احتوت على العديد من الآثار وكانت مقصداً للمؤرخين والعلماء، وبالرغم من مرورها بالعديد من الحضارات، إلا أن آثارها سرقت وغمرت بالمياه

عذراء السعدو
كوباني ـ .
 
صرحٌ تاريخي بنته 750 امرأة
تقع قرية تل البنات على بعد 15 كيلو متر من ناحية صرين التابعة لمقاطعة كوباني في شمال وشرق سوريا، و20 كيلو متراً عن سد تشرين، ويرجع بنائها إلى العصر البرونزي، بجهود 750 امرأة، يبلغ عمرها حوالي 5000 عاماً، تحاط بسور من جميع الجهات وله سبع أبواب، حسب ما يؤكده المؤرخون والباحثون.
توجد في القرية ستة تلال، الرَّئيسي منها هو تل البنات الذي سميت نسبة له، والأخرى تدعى "العاصي، تل مريش، والبازي، والقطريف، وتل جر"، وفيها قصر وهرم يبلغ ارتفاعه 65 متراً بُني من الطين يحتوي درجاً من الداخل، وعلى كل درجة أربع أو خمس أجرار مصنوعة من الفخار، وأسفله يوجد قبو.
 
آثارٌ قيمة وعريقة 
الجَّرار الفخارية الموجودة داخل تل البنات عبارة عن هدايا كان يقدمها الزَّوار للبنات، ويضعونها على الدَّرج بصورة منظمة، كما أن في التل طواحين محطمة، وقطع فخارية عديدة، وعلامات تدلُ على وجود نفق ماء قديم، إلى جانب وجود العديد من المدافن.
ويُعتبر تل البنات أكبر الأماكن الواقعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات حالياً، ويبرزُ شكله الخارجي من خلال المباني الجنائزية الضخمة والانتشار الواسع لأماكن إنتاج الفخار، ويمتد الموقع طبيعياً نحو الشمال كجزء من هضبة كبيرة تُسمى جبل بازي داخل السهل الفيضي، ومن الشمال توجد تلة عالية مخروطية الشكل تسمى بتل البنات، يبلغ ارتفاعها 22م تقريباً، ويبلغ قطرها 100 متر.
يوضح الباحثون بأن التلة كانت مكان خاص للدفن، وبُنيت على ثلاث مراحل من الحصى والتراب، ودفنت ضمنها البقايا العظمية البشرية بعد ابتعادها عن بعض، لم يصل التنقيب بعد إلى المرحلة الأولى من التل.
اكتشف الباحثون أن المرحلة الثانية من بناء التل والتي تسمى أيضاً بـ "الصرح الأبيض" مؤلف من سلسلة من القبور الفردية من نوع توملي بُنيت على السطح الخارجي، وغطيت تلك القبور بطبقات من الطين وكانت ضمن مجموعات، والمرحلة اللاحقة للصرح فتمتد على الطبقات الأفقية الخارجية التي جُرفت لاحقاً. 
وجد بين تل البنات الشمالي والجنوبي مدفن على شكل بئر يؤدي إلى غرفة تحت الأرض، وقد اكتشف مدفن آخر بنفس النمط على حافة تل البنات الرئيسي، وإلى الغرب من التلة موقع صغير متعدد الفترات يسمى (تل كبير).
ويتميز تل كبير بوجود معبد يعود إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، وتوجد منطقة سكنية مزدهرة تعود إلى أواخر الألف الثالث وبداية الألف الثاني، تُمثل تلك المرحلة الأخيرة، أي الانتقالية ما بين عصريَّ البرونز القديم والبرونز الوسيط.
وكان تل البنات وتل كبير مبنيين في الألف الثاني أي في عصر البرونز الحديث عندما شكل جبل بازي مركز الاستيطان، فتؤرخ أقدم دلائل النشاطات في تل البنات إلى الربع الثاني من الألف الثالث، ويتضمن تلة جنائزية صغيرة، وأما تل البنات الشمالي استخدم أولاً كحقل دفن، وتم التنقيب داخل التلة الجنائزية عبر سلسلة من الأسبار، واحتوت تلك الحفر على رماد وبقايا وفضلات ما يُشير إلى أن الفخار كان يصنع في تل البنات، قبل أن يكون مكاناً لاستقرار السكان، وتأسيس ورشات العمل والأفران ومنشآت صناعة الفخار ضمن منطقة مساحتها ما يُقارب 2 هكتار من الموقع.
وفي مرحلة التأسيس كان المبنى العام واجهة مبنية على امتداد التلة الجنائزية، بني من خلال وضع طبقة ضخمة من الحصى فوقها يبلغ قطرها 60م تقريباً، ووضعت التلة الجنائزية على قمة الطبقة الحصوية، مؤلفة من قاعدتين حجريتين لعمودين قطر كل واحد منها متر، ووجدت آثار المبنى على طول جوانب التلة الجنائزية وكان موجهاً حول ساحة من الطوب المشوي المثبت بالإسفلت.
وكشفت الحفريات في الطرف الشمالي من التلة عن المدفن الذي هو نموذج فريد بين مباني القبور في فترة الألف الثالث في منطقة الفرات، وفيما بعد شُيد المدفن من سقف مؤلف من خمس كتل صخرية مثبتة بالإسفلت مُشكلة جزءاً من منطقة مفتوحة ذات شكل مستطيل، ومكون من ثلاث حجرات وقاعة طويلة ومدخل بئري قصير، إضافة إلى أن المدفن بُني من حجارة كبيرة قُطعت بدقة عالية جداً من الداخل، ويحتوي على تابوت خشبي في إحدى الغرف. 
وفي الغرفة الأخرى من المدفن توجد مجموعة من العظام البشرية غير المترابطة مع قلادة ذهبية صلبة، إلى جانب وجود الأثاث الجنائزي من 200 آنية فخارية، وعدد كبير من المحتويات الجنائزية الأخرى مثل (أواني المرمر، وطاولة صخرية دائرية مزينة ببيض النعام، والأواني السورية في حقيبة جلدية أو قماشية والتي كانت مغطاة بشدة بالأصداف والخرز الصغير).
كما ووجد قبر مبني من الحجارة مدمر وفارغ جزئياً، وفيما يحتوي القبر الثاني المبني من الحجارة على العظام الطويلة لفرد بالغ رُتبت بدقة في القسم الخلفي من القبر. ووضع فوق المدخل العامودي للمدفن هيكلان يعتقد أن الأول لامرأة إما في العقد الثاني أو الثالث من العمر، والثانية في عمر السنتين أو أربعة سنوات.
 
غمر تل البنات الأثري بمياه سد تشرين
توافدت بعثات التنقيب إلى قرية تل البنات أمريكا، وإيطاليا، وأستراليا، وألمانيا، للبحث في تاريخ القرية، وكانوا يسلجون المعلومات، وكتب مؤرخون عن تاريخ القرية، وكانوا يتركون قسماً من الكتب المطبوعة فيها، وعند خروجهم من القرية سرقوا القطع الثمينة.
ووجد أثناء عمليات التنقيب طاحونة تدلُ على أنهم اعتمدوا على القمح والشعير، والعديد من الآثار المُختلفة في التَّلال، منها أصنام وصوانٍ من الرَّخام والذَّهب وجميع هذه الآثار نُقلت إلى مدينة حلب بعد إخراجها بالرافعات، ومن ثم إلى دمشق.
عندما قرر النظام السوري عام 1999 بناء سد تشرين لتوليد الطّاقة الكهربائيَّة، تسبب بفيضان المياه على عدد من القرى، التي غُمر قسم كبير منها، وتل البنات هو أحدها، بالرغم من احتوائه على آثار قديمة وقيمة، واليوم هذا المعلم الأثري أصبح وسط الماء الذي يأتي من سد تشرين الواقع في الطرف الجنوبي لمدينة منبج، والذي يبعد عنها 33 كم، ويبعد عن مدينة حلب 115 كم، وعن تركيا 80 كم.
وفي تلك الفترة طالب الأهالي مديرية الآثار والمتاحف بحماية القرية من الفيضان، وفتح بوابة التل لإخراج القطع الأثرية من داخله، إلا أن طلبهم لم يستجب له.
 
تأسيس قرية جديدة
 
 
تقول نبيهة الصطيف (50) عاماً من قرية تل البنات "منذ كُنا صغاراً وأهالي المنطقة ينادونها بهذا الاسم، وقد غُمرت منازلنا بسبب فيضان المياه وبناء سد تشرين، وأجبرنا على تغيير مكان إقامتنا نحو الطرف الجنوبي من التل".
وتتابع "بنينا منازلنا من الحجر واللبن، قرية الكرية هي نفسها تل البنات، وحول البحيرة توجد العديد من القرى التي تضررت من فيضان المياه"، وتشير إلى أن أهالي القرية يعتمدون على مواسم القمح والشعير والقطن والسمسم، والذرة، وأشجار السرو، "زرعنا العديد من أشجار الرمان، والتين، والزيتون، والمشمش في منازلنا، ووضعنا مولدات الكهرباء بالقرب من الفرات لجلب المياه وسقاية أراضينا"، ويزرعون أيضاً بساتين لتحقيق اكتفائهم الذاتي، إلى جانب تربية المواشي، ويؤمنون مياه الشرب من الآبار التي يحفرونها.
وعن تاريخ تل البنات تقول "على الرغم من أن المرأة هي التي بنت القرية والآثار الباقية تدل على ذلك، إلا أن البعثات والبحوث التي أُجريت أنكرت وجود أي شيء من هذا القبيل، ولم يعطوا أي أهمية وقيمة لوجودها".
 
 
ومن جانبها تقول أمينة العلي (55) عاماً "كانت في القرية ستُ تلال، إلا أن جميعها غُمرت بمياه سد تشرين، وبالرغم من ذلك بقي تل البازي شامخاً، لا توجد مسافة كبيرة بين قريتنا الحالية والمغمورة بالمياه".
وتعبرُ عن فخرها واعتزازها بالآثار الموجودة في القرية، التي تدلُ على مهارة وإبداع المرأة في فن التصميم والعمارة، وتطالب مديرية الآثار بترميم تل البنات التاريخية العريقة، ليكون مكاناً سياحياً "يجب الحفاظ على الموروث التاريخي من الضياع".