وردي رغم الإبادة... نساء غزة تواجهن سرطان الثدي وسط رماد الحرب وانهيار الرعاية الصحية

في ظل حربٍ طاحنة أنهكت أجساد النساء وأرهقت أرواحهن، يطلّ شهر أكتوبر الوردي في غزة هذا العام محمّلاً بألم مزدوج، إذ تتقاطع فيه معركة البقاء مع معركة الوعي الصحي، لتثبت المرأة الفلسطينية مجدداً أنها قادرة على مواجهة الإبادة بالورد والوعي والحياة.

نغم كراجة

غزة ـ تحت شعار "وردي رغم الإبادة"، دشّنت جمعية الثقافة والفكر الحر مبادرة الباص الوردي إحدى فعاليات شهر التوعية بسرطان الثدي، التي تستهدف رفع مستوى الوعي الصحي، ودعم النساء والفتيات اللائي تعانين من ظروف النزوح القاسية والأزمات الإنسانية.

انطلق يوم الثلاثاء 7تشرين الأول/أكتوبر الباص الوردي من وسط قطاع غزة، ومن المقرّر أن يجوب مناطق الوسط والجنوب على مدار خمسة أيام متتالية، يستهدف الباص مراكز الإيواء التي تضم آلاف العائلات النازحة، خصوصاً الأمهات والفتيات، اللواتي حرمن من أبسط حقوق الرعاية الصحية بسبب النزوح المُتكرر وتدمير البنى التحتية للخدمات الطبية.

المثقفة الصحية خلود شاهين تصف حملة هذا العام بأنها الأصعب، إذ ارتفاع وتيرة النزوح وتكدس النساء في مناطق محصورة زاد من التحديات لكن الحملة اضطرت إلى التكيف، فقد قسمّت المخيمات الكبيرة لتنفيذ جلسات توعية، لضمان وصول أكبر عدد ممكن من النساء والفتيات وتقول "قد نعيش تحت القصف لكن لا أريد أن تموت امرأة في صمت لأنها لم تعرف أنه يُمكن لها أن تفحص نفسها".

 

"رغم الصعوبات نعمل بأقصى طاقاتنا"

إيمان الحويحي، منسقة الحملة أيضاً تؤكد أن مركز صحة المرأة التابع للجمعية ما زال يعمل بأقصى طاقته رغم الصعوبات، وأن أنشطة الشهر من الفحوصات والجلسات التوعوية وتوزيع الطرود الصحية لم تتوقف، بالرغم من تأثر الخدمات جراء تدمير المرافق ونقص الأدوية والمستلزمات "لم تتغيّر قناعتنا يوماً بأن صحة المرأة هي الأهم، حتى وإن انقطعت الكهرباء وأُحرقت مستشفياتها، فالباص الوردي ماضٍ في دربه، والجلسات التوعوية لا تتوقف، طرد صحي هنا أو هناك قد لا يساوي الكثير لكنه يعطينا دليلاً على أننا لم نتخلَّ عنها".

إذ تسعى جمعية الثقافة والفكر الحر من خلال هذا الباص المتنقل إلى رفع مستوى الوعي بسرطان الثدي وتعليم النساء كيفية الفحص الذاتي بأسلوب بسيط يتماشى مع واقعهن الصعب، وإذكاء الإدراك بأن الكشف المبكر قد ينقذ حياة رغم أنف الحرب.

لكن في تلك الأيام الأليمة يعاني المرضى من بطش القصف وانقطاع الدواء، إذ إن المستشفى الوحيد المتخصص بعلاج الأورام في غزة، أُجبر على التوقف عن العمل في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بسبب نفاد الوقود والتدمير، ومن ثمّ دُمر كاملاً في مارس 2025 على يد القوات الإسرائيلية.

حين ترى في بعض المخيمات، تجمعاً من النساء تقفن في طابور ينتظرن فتح أبواب الباص، تسمع ضحكاً خافتاً وسؤالاً واحداً يتردد "هل من جدوى؟" فتُجيبهنّ الطبيبة الموجودة في الباص بابتسامة مرهقة قائلة "نعم جدوى كبيرة إذا اكتشفتِ مبكراً لا تنتظرين أن يؤلمكِ الورم، فحينها قد يكون الأوان قد فات" ثم توضّح أن الجلسات التوعوية تُراعي خصوصية المرأة بما تحمله من خجل وخوف، فتُجرى في زاوية بعيدة من الباص.

هذا المناخ الصعب لا يمنع أن الحملة قسمت المخيمات الكبيرة إلى أحياء، وأعدّت جدولاً زمنياً لكل يوم لزيارة الباص في كل تجمع نسائي ذو كثافة عالية، فبعد أن بدأ من وسط القطاع اتجه جنوباً إلى خان يونس، رفح، دير البلح، النصيرات حتى تستوعب نحو خمسة أيام قاسية يسير فيها الباص كرافد حياة وسط الموت، وعند كل توقف تُنزل الطبيبة أو المثقفة الصحية إلى داخل المخيمات، تتحرك بين الخيام، وتوزّع نشرات وردية صغيرة تشرح خطوات الفحص الذاتي بصور مبسطة مع إشارات بالمربّع، ويُطرح سؤال هل صدرُك تغيّر من شكل؟ هل شعرتِ بكُتل صغيرة؟ هل شعرت بألم غير معتاد؟.

وفي ظلّ هذه المعاناة، لم تتوقف جمعية الثقافة والفكر الحر عن توزيع طرود صحية بسيطة للنساء المحتاجات تحتوي على فوط صحية وبعض المعقمات، في محاولة وإن باتت محدودة للتخفيف من وطأة تكاليف المنتجات الأساسية التي ارتفعت أسعارها بسبب الحصار والتدمير.

 

الحملة رسالة لكل امرأة

وأوضحت إيمان الحويحي أن "طرد صحي قد لا يغيّر العالم، لكنه رسالة إلى كل امرأة تقول لها أنتِ لا زلتِ مهمة، لا زل لديكِ حق"، مضيفة "حين توقّف المركز لوقت قصير من شدة القصف، أبقينا فريقاً متنقلاً في الشوارع، عابرات الأمكنة، نبحث عن أي أماكن ممكن نستطيع أن نقيم فيها جلسة، لأننا نعرف أن التأجيل قد يقتل".

منذ اندلاع حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 تعيش مريضات السرطان في غزة مأساةً متفاقمة تتجاوز حدود الألم الجسدي إلى صراعٍ يومي مع انعدام الدواء وتعطل العلاج وانهيار المنظومة الصحية، إذ تشير الإحصائيات الرسمية إلى وجود أكثر من 13 ألف مريض سرطان في القطاع من بينهم نحو 4200 امرأة و750 طفلًا، فيما يحتاج قرابة 5000 مريض، معظمهم من النساء، إلى الخروج من غزة لتلقي العلاج أو التشخيص أو العلاج الإشعاعي إلا أن إغلاق المعابر ورفض التصاريح جعلهم أسرى المرض في ظروفٍ قاتلة.

في هذه المعركة التي لا تدور بين أدوات طبية بل بين أمل ومعاناة، يشكّل الباص الوردي رمزية مقاومة وأُمنية للنساء أنهن لم يُنسَين، أن في قلب الحرب ما يضيء، والوعي بالمرض هو سلاح بحد ذاته، والشهادة بأنكِ تبحثين عن صحتك وسط الركام هي شكل من أشكال الكفاح، فلا يكفي أن تنتهي حملة أكتوبر بل يجب أن تبدأ بعدها، وتُفتح المعابر، ويُعاد تأهيل المشافي، وتُوفَّر الأدوية، وتُحمى المرافق الصحية من القصف، لأن كل يوم يتأخر فيه مريض هو يوم يُضاف إلى ثمن الألم.