عندما تصبح الحياة أرخص من الخبز

تخيّل واقعاً يُرغم الإنسان على مقايضة تفاصيل حياته اليومية من أجل لقمة خبز، في غزة، حيث يموت الأطفال جوعاً، لم تعد هناك حياة تُعرض للبيع ولا خبز يُشترى، في مشهد يراه العالم بأسره ويصمت أمامه.

بيريفان إيناتجي

أحياناً عندما تستمع إلى أغنية تشعر وكأنك تسمعها لأول مرة وتدرك الحقيقة المعبّرة في كل كلمة، أغنيتنا هي أغنية  ‘Min ew kesem’بمعنى "أنا ذلك الشخص" للفنان نجم الدين غولامي، والتي غناها أيضاً العديد من الفنانين الآخرين. كل كلمة في هذه الأغنية تجعلنا نشعر بحقيقة الحياة مرة أخرى.

تقدم الفنانة سراب سونميز تفسيراً مختلفاً آخر للأغنية. فلنضع التفسير جانباً، كل كلمة في الأغنية تجذبك إلى حقيقة الحياة، من العمال الذين يضحون بحياتهم لكسب لقمة الخبز، إلى روج آفا التي تُهدّد محاصيلها وتتعرض للهجمات منذ سنوات من أجل أن تُترك بلا خبز، إلى غزة حيث يموت الناس جوعاً أمام أعين العالم، إنها تروي حقيقة مؤلمة.

 

"أنا ذلك الشخص الذي أبيع حياة اليوم لأشتري خبز الغد"

تخيل نظاماً يُجبر الناس على مقايضة حياتهم اليومية من أجل الخبز، نعم هذا النظام يُجبر الناس على بيع أكثر من نصف يومهم ليتمكنوا من شراء كسرة خبز وإطعام أنفسهم وأطفالهم وعائلاتهم. حتى أنهم يقومون بأعمال ووظائف خطرة يواجهون خلالها الموت، أو يبقون في مناجم تحت الأرض أحياءً ولكن بلا أنفاس...

لقد اعتدنا على هذا النظام. والآن، أصبح التدافع اليومي نحو المدن من أجل شراء المزيد من الخبز حيث يقوم الجميع وبشكل متزايد في الانخراط في التجارة اليومية المتمثلة في بيع يومهم مقابل الحصول على الخبز. ذلك الخبز، الذي زرعته النساء وأصبح علامة فارقة في تطور البشرية، تسبب في ظل هذا النظام القمعي، في موت البعض جوعاً، بينما يواصل آخرون العيش على كسراته.

 

في أرض الخبز بلا خبز

كما يشير القائد عبد الله أوجلان، فإن واقع الاستعمار في أرض الخبز قد ترك الناس بلا خبز، لننظر إلى كردستان إنها تتمتع بثروة هائلة سواء كانت ثروات سطحية أو باطنية، إنها أرض الشعير والقمح... لكن قمحها يباع في أسواق مختلفة، ونرى خبزها على موائد ذئاب الرأسمالية، يُزرع القمح على آلاف الهكتارات من أرضها، ولكن في كل فرصة يهاجم عدو عمل وجهد الناس الذي أقسم على ترك البلاد بلا خبز قمحها. إنها تملك مئات الينابيع، لكن في إقليم شمال وشرق سوريا يموت الأطفال عطشاً لأن المستعمر قطع إمدادات المياه. يشتري الناس براميل الماء مقابل المال الذي كسبوه من بيع جهدهم وعملهم اليومي.

 

عار الإنسانية

يشهد قطاع غزة منذ عام ٢٠٢٣ إبادة جماعية. حيث قُتل أكثر من ٦٠ ألف شخص. ودُفن آلاف الأشخاص تحت الأنقاض. ربما دُفنت تحت الأنقاض آلافٌ من قصص الحب، وآلافٌ من العواطف وأحلام المستقبل، وخطوات أولى لأطفال لم يقفوا بعد على أقدامهم. لكنهم لم يكونوا الوحيدين الذين دُفنوا تحت الأنقاض. برأيي، دُفنت كرامة الإنسانية أيضاً تحت الأنقاض.

تُشنّ هجمات عنيفة على غزة منذ ما يقارب من ثلاث سنوات، والآن تواجه غزة خطر المجاعة. يومياً نتلقى معلومات بأن المئات قد ماتوا جوعاً، يعاني أكثر من 300 شخص معظمهم من الرضع والأطفال الذين لم يتمكنوا حتى من شرب حليب أمهاتهم أمام أعين العالم. تُبثّ صور الذل والعار على وسائل الإعلام، والأشخاص الذين جرّوا غزة إلى الحرب هم نفس الأشخاص الذين يبعثون المظلات ويسقطون الخبز والدقيق على الناس من السماء كما لو كانوا يفعلون الخير. يا لها من حقيقة صادمة أن من يقتل الأطفال ولطخت أيديهم بالدماء هم نفس الأشخاص الذين يدعون أنهم يحبون أطفالهم.

لذا عندما استمعتُ لهذه الأغنية، آلمتني هذه الحقيقة كثيراً: الآن في غزة، لا يملك الناس تلك الحياة التي تُباع لتُشترا بها "خبزاً". لذا فإن كلمات الأغنية بقدر ما تُلامس ضميرنا الإنساني، تُثير فينا التساؤل:

"يا عدالة يا عدالة يا عدالة يا عدالة... في هذا السوق القاسي، الحياة أرخص من الخبز".