ميريام مينكين... حقبة جديدة في الطب الإنجابي
ميريام مينكين هي أول من قام بتلقيح بويضة بشرية خارج جسم الإنسان اصطناعياً في المختبر وبذلك أحدثت ثورة في أساليب الطب الإنجابي بعد ست سنوات من التجارب والمحاولات الفاشلة
مركز الأخبارـ .
عقبات اعترضت حياتها العلمية
لم تكن ميريام مينكين التي ولدت في ريغا عاصمة جمهورية لاتفيا في أوروبا الشمالية في 8 آب/أغسطس 1901 ضمن عائلة ميسورة الحال، بل عاشت حياة التقشف والحرمان، واعترضت حياتها الشخصية ومشوارها العلمي العديد من العقبات.
هاجرت في صغرها مع عائلتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن شدة ذكاءها ومثابرتها في المجال العلمي نالت شهادة البكالوريوس في علم الانسجة والتشريح المقارن من جامعة كورنيل عام 1922، وحازت على درجة الماجستير في علم الوراثة من جامعة كولومبيا عام 1923، وانتقلت بعدها لدراسة علم الاحياء وعلم وظائف الأعضاء في نيويورك.
أرادت الخوض في مجال الطب، حيث قدمت طلب الانتساب إلى جامعات الطب في نيويورك، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع التمييز القائم على أساس التفرقة بين الجنسين، إذ رفض طلب انتسابها بالجامعات والكليات والسبب هو لكونها امرأة.
بعد رفضها في جامعات الطب لم يتبقى أمامها خيار سوى تقّبل فكرة الزواج من صديق سابق لها يدرس في مجال الطب في جامعة هارفارد يدعى فالي مينكين، أنجبت منه طفلتين تدعيان "غابرييل ولوسي".
عملت في مجال السكرتارية كي تساعد زوجها في تغطية نفقات دراسته، كما ساعدته أيضاً في التجارب المخبرية بفضل الخبرة التي نالتها من الوسط الأكاديمي المحيط بها، حيث حصلت على دراسات تامة ودورات كافية في مجال علم الجراثيم وعلم الأجنة.
لم تحظى بالتقدير الكافي لجهودها في مساعدة زوجها مادياً وعملياً، بل على العكس تماماً تعرضت لشتى أنواع العنف، حيث حرمها من المال وقام بتعنيفها نفسياً وجسدياً، فما كان منها إلا أن تختار الطلاق لوضع حدّ لانتهاكاته بحقها، والعيش مع طفلتيها بهدوء وسلام.
رفضت العديد من العروض التي قُدمت لها من أجل العمل في مخابر الأبحاث ليلاً، وأصرت على العيش بتقشف من أجل تغطية نفقات ابنتيها وتلبية احتياجات لوسي المصابة بالصرع التي كانت بحاجة إلى جلسات أسبوعية.
ارتياد المخبر والعمل الدؤوب
عملت ميريام مينكين كمساعدة فنية على يد خبير الخصوبة بجامعة هارفرد الدكتور جون روك الذي يعمل في المستشفى الخيري للنساء في بروكلين بولاية ماساتشوستس، كان هدفه قريب من هدف ميريام مينكين في كشف غموض الإخصاب والتناسل.
كان الدكتور جون روك في صباح كل ثلاثاء يستأصل جزءاً صغيراً من مبيض بعض النسوة الموجودات في غرفة العمليات بالمستشفى، ويعطيه لميريام مينكين لتأخذه إلى مختبرها وتشرحه للبحث عن البويضة.
اعتادت ميريام مينكين كل أربعاء من كل أسبوع طيلة الستة أعوام على ارتياد المختبر والعمل الدؤوب المتواصل فيه، حيث كانت تقوم بعرض بويضة بشرية في طبق زجاجي الذي يتضمن سائلاً منوياً لمدة زمنية تقارب الـ 30 دقيقة، على أمل إتمام عملية التلقيح بنجاح.
في شباط/فبراير عام1944، ذكرت ميريام مينكين أنه من شدة التعب والإرهاق شعرت بالنعاس، وحين غلبها النوم غفلت عن مشاهدتها للمجهر وتحديد المدة الزمنية إثر قيام الحيوان المنوي بالدوران والالتفاف حول البويضة، وبعد مضي ساعة كاملة من الوقت رأت أنه تم تلقيح أول بويضة خارج الرحم.
راقبت بعدها بأيام مراحل تطور التلقيح المخصب في الطبق الزجاجي المخبري، حين التحمت الخلايا وأخذت في الانقسام داخل الأنبوب، وأُتيحت لها فرصة إلقاء نظرة على أول جنين بشري ملقح في أنبوب اختبار، كما أنه كان عليها تقطير السائل المنوي إلى الطبق الزجاجي قطرة قطرة للحفاظ على البويضة، حيث أرسلت العينات في أنابيب من الزجاج الأزرق والأحمر إلى معهد كارنيغي بواشنطن.
قالت حينها "بعد ست سنوات من الإخفاق، لا أنكر أن نجاحي كان سببه أنني غفوت قليلاً أثناء العمل"، وكتبت في وقت لاحق أنها كان تخشى غياب هذا الشيء الثمين الذي كان حلماً لم يتحقق إلا بعد 6 سنوات.
نجاح ميريام مينكين من خلال التجارب التي أجرتها جاء محصلة سنوات من الدراسة والأبحاث القائمة على التدريب والمثابرة والإصرار.
حقبة جديدة في تكنولوجيا الإنجاب
بفضل عملها الدؤوب في المختبر ونجاحها في عملية التلقيح، فقد هيأت المجال لظهور حقبة جديدة في تكنولوجيا الإنجاب، منها ما يعرف بـ "أطفال الأنابيب" ومساعدة النساء العاقرات على الحمل، كما أتاحت الفرصة للعلماء بمراقبة المراحل الأولى لنمو الجنين البشري.
ميريام مينكين التي أجرت 138 تجربة خلال ستة أعوام، قالت في وصفها لعملية التلقيح الاصطناعي "أليس من العجب ألا تضل تلك البويضات صغيرة الحجم عندما تتحرر من جريب المبيض وتسقط في أعماق ذاك الجسم الهائل؟ كيف لهذه الذرة الدقيقة أن تجد طريقها إلى المكان الذي من المفترض أن تستقر فيه؟".
وبالتعاون مع جون روك قدمت 18 ورقة بحثية، منها تقريران عن أول نجاح لهما في دورية ساينس العملية التي نشرتها الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم عام 1948، لكنها لم تنل من الشهرة شيء، على عكس روك الذي تصدر اسمه عناوين الصحف والمجلات.
قالت المؤرخة في جامعة روتغرز مارغريت مارش في وصفها لميريام مينكين بأنها "كانت عالمة حقيقية تفكر كالعلماء وتتمتع بدقتهم وتؤمن مثلهم بأهمية الالتزام بالقواعد والخطط البحثية".
مساعدة في شؤون البحث النظري
في أوائل الخمسينيات، عادت ميريام مينكين إلى بوسطن للعمل في المختبر مع جون روك، وتوسيع حدود الدائرة العلمية حول التناسل والخصوبة، لكن في هذا العقد لم تعد مهمة علاج الخصوبة من الأمور المتداولة بل بات منع الإنجاب والحمل من الأمور الحياتية التي سعى إليها المجتمع.
عملت كـ "مساعدة في شؤون البحث النظري"، وأجرت دراسة علمية حول تجميد الحيوانات المنوية وعقم الخيول، ونشرت أوراقاً بحثية حول تأثير الضوء الاصطناعي على انتظام الدورة الشهرية، وأثبتت أن أحزمة حماية الأعضاء التناسلية التي يرتديها الرياضيون والمصارعون تصيب الرجال بالعقم المؤقت.
ميريام مينكين التي لم يكرمها التاريخ بلقب "العالمة البيولوجية" على الرغم من ملاحظاتها العلمية وخططها البحثية وقائمة الأبحاث والدراسات والتقارير التي قدمتها ونشرتها، إلا أنها ماتزال على ألسنة بنات جنسها تروى كقصة أم عالمة عانت وعملت لإعانة عائلتها.