كلستان تارا وهيرو بهاء الدين حولتا الإعلام إلى ساحة للمقاومة
في زمنٍ تمارس فيه أدوات القمع ضد الشعوب المظلومة، برزت أصوات نسائية حملت الكاميرا كما تحمل الراية، وكتبت بالكلمة ما عجزت عنه البنادق، كلستان تارا وهيرو بهاء الدين لم تكونا مجرد إعلاميتين، بل كانتا مشروع مقاومة ووعي وحرية.

آفرين نافدار
مركز الأخبار ـ من الطفولة المصقولة بالألم، إلى الميدان المشتعل بالنضال، سارت كل من كلستان تارا وهيرو بهاء الدين بخطى ثابتة نحو الحقيقة، ورفعتا صوت المرأة المناضلة في وجه العقلية الذكورية والسلطة القامعة.
في ظل سياسات الطمس والاعتقال، تشكلت الملامح الأولى لكلستان تارا وهيرو بهاء الدين، لتصبحا لاحقاً صوتاً إعلامياً وحقوقياً يحتفي بالمقاومة، ويؤمن أن النضال لا يُختزل في المواجهة، بل في الكلمة، في الوعي، وفي الحلم الذي لا يُقهر.
من الطفولة إلى الوعي
في قلب بيتٍ كرديٍ بسيط، وسط ضجيج عشر أخوات يتقاسمن الحياة والضحكات والدموع، وُلدت كلستان تارا، الثامنة بينهن، لم تكن مجرد رقم في ترتيب الأخوات، بل كانت شعلةً متقدةً وسط العتمة، تحمل في عينيها بريقاً لا يشبه أحداً، منذ طفولتها، برزت شخصيتها القوية، لا تخشى المواجهة، ولا تتردد في قول الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة، وهو ما أكدته شقيقتها أولكام إيسن "كانت كلستان تملك قدرة فطرية على القيادة، حتى بين أشقائي الأكبر منها سناً، وكأنها خلقت لتكون صوتاً لا يُكتم".
في تلك المرحلة من حياة كلستان تارا، كانت كردستان تعيش تحت وطأة الحروب، حيث كانت الدولة التركية تمارس سياسات ممنهجة لطمس الهوية الكردية، خصوصاً في شمال كردستان، وعن ذلك تقول أولكام إيسن أنه في ظل هذا المناخ القاسي، تشكلت ملامح طفولة كلستان تارا، لم تكن ألعابها دمىً أو قصصاً خيالية، بل كانت أصوات الرصاص، وصرخات الأمهات، ووجوه الرجال المختفين "عندما كانت كلستان صغيرة في السن اعتقل والدي من قبل الدولة التركية لدفاعه عن الهوية الكردية، لم تكن كلستان تفهم تماماً معنى "الهوية" حينها، لكنها شعرت بالفراغ الذي تركه غياب والدي".
التناقضات الأولى
وبالأسئلة التي كانت تبحث عن إجابتها مثل لماذا يُعتقل الأب لأنه يحب لغته؟ لماذا يُحارب الإنسان لأنه ينتمي؟ كبرت كلستان تارا بسرعة، أسرع مما ينبغي لطفلة أن تكبر، فقد ترعرعت في عائلة وطنية، تؤمن بأن الدفاع عن الهوية والثقافة الكردية ليس خياراً، بل واجباً.
هذا الجو المشبع بالوعي السياسي جعلها أكثر حساسية تجاه الانتهاكات التي يتعرض لها شعبها، وعمق التناقضات داخلها بين ما كانت تحلم به كطفلة، وما كانت تراه من ظلم وقهر كانت حذرة جداً، تراقب ما يحدث حولها، خاصة ما تعانيه النساء، وكأنها منذ صغرها كانت شاهدة على حقيقة العدو، وهذا ما وجهها نحو البحث الدائم عن الحقيقة، وفي سياق ذلك قالت أولكام إيسن "ترعرعت كلستان في كنف عائلة وطنية ما ترك أثراً بالغاً في تكوين شخصيتها القوية والواعية، هذا الجو المشحون بالوعي السياسي عمق داخلها التناقضات تجاه الواقع القاسي الذي تعيشه كردستان، حيث تتعرض لانتهاكات ممنهجة تستهدف وجود الشعب الكردي وهويته الثقافية".
وأوضحت اولكام إيسن أنها أيضاً كوالدها اعتقلت من قبل الدولة التركية في مدينة سيواس لتعبيرها عن الحقيقة وعلناً عن انتمائها الوطني "كانت كلستان تزورني في السجن، لكنها لم تكن تستطيع تقبل فكرة وجودي خلف القضبان، كانت تسأل دائماً (كيف يمكن للمرء أن يعيش داخل مكان تحيطه أربعة جدران؟)"، هذا السؤال لم يكن مجرد تعبير عن ألم، بل كان بداية تشكل وعيها الحقوقي.
من المسرح إلى النضال
رغم كل هذا، لم تحرم كلستان تارا من لحظات الطفولة كانت خلوقة في اللعب، محبة للمسرح، الموسيقى، والرقص، كانت تخلق مسرحيات من خيالها، وتجمع الأطفال حولها لتلعب وتضحك معهم، حتى أنها كانت تحل النزاعات بينهم، رغم أنها كانت الأصغر سناً، وظهرت فيها صفات قيادية مبكرة، وأضافت اولكام إيسن إلى ذلك "عندما التقيت بها بعد سنوات، وجدتها ما زالت تحتفظ بتلك الصفات محبة، مخلصة، ومؤمنة بعملها".
كانت كلستان تارا تقرأ القصص والروايات التاريخية كثيراً، وتسعى من خلالها إلى فهم تاريخ شعبها والكشف عن الحقيقة التي تسعى السلطات إلى طمسها، هذا الفضول والإصرار على المعرفة كانا بداية تأسيس لهويتها الإعلامية، حيث تقول أولكام إيسن "كانت كلستان منذ صغرها مشبعة بالفضول إذ اعتادت أن تطرح الأسئلة حول كل ما تراه وتسمعه، مدفوعة برغبة عميقة في الفهم، ومن وجهة نظري، شكل هذا الشغف المعرفي النواة الأولى لهويتها الإعلامية، التي انطلقت منها لتوثيق النضال والاحتفاء بالمقاومة".
الطريق إلى المسؤولية
في المرحلة الثانوية، بدأت كلستان تارا خطواتها الأولى نحو العمل الحقوقي، كانت تذهب مع رفاقها إلى مؤسسة حقوق الإنسان في بطمان (إيليه)، وهناك تعمق شعورها بالمسؤولية تجاه ما يعانيه شعبها من ممارسات وحشية على يد الأنظمة السلطوية، هذا المسار جعل منها شخصية مناضلة، تدافع عن حقوق الإنسان، وتتمسك بمبادئها بإصرار وعزيمة لا تلين.
وأضافت أولكام إيسن إلى ذلك "كانت محبوبة جداً بين أصدقائها، ليس فقط بسبب شخصيتها القوية، بل لأنها كانت محبة للإنسانية، تؤمن بأن النضال لا يكتمل دون حب الناس"، لقد استمرت كلستان تارا في مسيرتها حتى وصلت إلى الحقيقة التي كانت تبحث عنها منذ طفولتها، حقيقة أن المقاومة ليست فقط في المواجهة، بل في الوعي، في الكلمة، وفي الحلم الذي لا يقهر.
حين تتحول الكاميرا إلى بندقية نضال
في جبال خنيرة، إحدى المناطق التاريخية للشعب الكردي، بدأت الصحفية روجبين دنيز أولى خطواتها في التعرف على الرفيقة كلستان تارا، كانت كلستان هناك، تمسك بالكاميرا كما لو أنها بندقية، توثق حياة الكريلا، تنقل تفاصيل المقاومة اليومية، وتكتب قصصاً من قلب الجبال.
لكن ما لفت نظر الصحفية روجبين دنيز لم يكن فقط عدسة كلستان تارا، بل روحها المنضبطة، ومرحها الذي يضيء المكان، حيث قالت "كان لها وجود خاص، حضور لا يُنسى، فمنذ لقائنا الأول شعرت بأننا سنبني علاقة قوية، وهذا ما حدث بالفعل، توسعت علاقتنا الرفاقية بسرعة، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن".
لم تكن كلستان تارا وحدها في هذا الدرب، فقد تعرفت روجبين دنيز أيضاً على هيرو بهاء الدين في أواخر عام 2017، في إقليم كردستان، حين كانت تعمل في شركة "جتر" الإعلامية، وعن المرحلة التي انضمت فيها هيرو بهاء الدين إلى المجال الإعلامي قالت روجبين دنيز "في تلك الفترة، كانت تمارس سياسة اضطهاد ممنهجة ضد الشعب في إقليم كردستان، وخاصة ضد النساء، كانت كل امرأة هناك تحمل قصة من الألم، من الانتهاكات، من التعصب الجنسي، لكن هيرو كانت مختلفة، اختارت طريق النضال، وبدأت عملها الإعلامي وهي تقول (أنا على إدراك بأنني من خلال هذا العمل أستطيع أن أتعرف على ذاتي)".
وأوضحت أن هيرو بهاء الدين كانت تحمل فضولاً فكرياً وأيديولوجياً، جعلها تتقدم بسرعة وتصبح مصدر إلهام للنساء اللواتي كانوا يجتمعون حولها، فهي لم تكن مجرد إعلامية، بل كانت تبني إعلاماً نسوياً مقاوماً، يواجه العقلية الذكورية ويكشف الحقيقة.
تصف روجبين دنيز الإعلام الحر بأنه امتداد لميراث الشهيدة غربتلي أرسوز، التي كانت تردد دائماً (أستطيع أن أنتصر بنضالي ضد العقلية الذكورية، حين أستطيع أن أحقق الجمال وأتفاعل به مع النساء)، معلقة بالقول "كلستان وهيرو سارتا على هذا الدرب، تحلتا بالجمال الحقيقي، واستطاعتا أن تعرفا النساء على جمالهن الداخلي، جمال المقاومة والوعي".
كلستان تارا كما تصفها روجبين دنيز لم تكن مجرد إعلامية، بل كانت ترسم خريطة الحرية للنساء، من شمال كردستان إلى روج آفا، ومن مناطق الدفاع المشروع إلى إقليم كردستان "كلستان حملت مسؤولية البحث عن الحقيقة على عاتقها، وناضلت ضد الوسائل الإعلامية التي تتبع العقلية الذكورية، وطورت وجود المرأة داخل الإعلام الحقيقي".
أما عن هيرو بهاء الدين، فتقول "نضالها الإعلامي لم يغير فقط حياتها، بل أحدث ثورة داخل عائلتها، وكان لشخصيتها تأثير إيجابي كبير على النساء في شركة جتر، كانت تقول (لا يجب أن نحني رؤوسنا أمام العقلية السلطوية والعادات والتقاليد البالية التي تفرض القيود على النساء)، وكانت بالفعل مثالاً في الصمود بين أصدقائها".
الإعلام الحر ساحة نضال لا مهنة
كانت كلستان تارا ترى الإعلام كأداة لتدريب المجتمع على الحقيقة، وتعمل على تعميقه فلسفياً وفكرياً وعلمياً كما أوضحت روجبين دنيز، حيث كانت تؤمن بأن الإعلام ليس مهنة بل ساحة نضال "كانت تقضي كلستان تارا يومها بالكامل في سبيل تطوير العمل الإعلامي والكشف عن الحقيقة، تراقب الوضع السياسي، العسكري، الاجتماعي، والاقتصادي، وتبني البرامج على هذا الأساس، كانت ترى الإعلام كأداة لتدريب المجتمع على الحقيقة، وتعمل على تعميقه فلسفياً وفكرياً وعلمياً، وساحة للنضال ضد التعصب الجنسي والسلطة والقيود المفروضة على النساء"، قائلة بفخر "كلستان كانت مديرة لمركز الأخبار، مراسلة ميدانية، مدققة ومحررة برامج، لم تترك زاوية في العمل الإعلامي إلا ووضعت فيها بصمتها".
وكذلك الشهيدة هيرو بهاء الدين كانت واحدة من أبرز النساء اللواتي حملن راية النضال الإعلامي النسوي الحر، بدأت مسيرتها في قسم الريجي، حيث عملت فيها لفترة طويلة، ثم انتقلت إلى مركز الأخبار الخاص بالنساء كمحررة دقيقة ومخلصة، كانت تبحث دوماً عن الأحداث والملفات والبرامج التي تُعزز صوت المرأة وتُسلط الضوء على قضاياها، كانت تعمل بجهد مع النساء.
لم تكتفِي هيرو بهاء الدين بالتحرير، بل عملت أيضاً في قسم المونتاج، حيث ساهمت في إعداد برامج ثقافية تهدف إلى حفظ التراث الكردي النسوي، كانت ترى في هذه البرامج إرثاً للأجيال القادمة كما أوضحت روجبين دنيز، مشيرةً إلى أن هيرو بهاء الدين كانت تقول (أنا سعيدة جداً لأنني أشارك في تحضير هذه البرامج التي ستبقى ميراثاً للأجيال القادمة، من أجل أن يتعرفوا على ثقافتهم وتاريخهم).
ولفتت روجبين دنيز إلى أن هيرو بهاء الدين كانت تلميذة للمناضلة كلستان تارا "تعلمت منها الكثير، وسرعان ما أصبحت شريكة لها في حمل مسؤولية الإعلام الحر، معاً، شكلتا صوتاً موحداً لنساء كردستان، وساهمتا في بناء إعلام نسوي مقاوم".
نضال وهوية
لعبت المرأة دوراً ريادياً في تطوير الإعلام الحر، الذي لم يكن وليد لحظة، بل ثمرة نضال طويل الأمد فقد ساهم هذا الإعلام في بناء اللغة والهوية الكردية من العدم، وكان للمرأة دور محوري في هذا التأسيس، إذ واجهت إلى جانب الهوية الكردية محاولات ممنهجة لمحو وجودها كما تقول روجبين دنيز "الإعلام الحر هو مساحة نضالية، وهو صوتنا في وجه الرأسمالية والقمع، نحن لا ننقل فقط، نحن نكشف، نواجه، ونبني، في إقليم كردستان، كانت وسائل الإعلام التقليدية تخدم مصالح الأنظمة الرأسمالية، بينما عمل الإعلام الحر على كشف الحقائق، وفضح السياسات القمعية، مما جعله تهديداً حقيقياً للسلطة، وقد دفع الإعلاميون ثمناً باهظاً لهذا الالتزام، حيث استُهدفت سيارة رفاقنا الإعلاميين بمسيرة تركية في 23 آب 2024، في محاولة لإسكات الصوت الحقيقي نحن لا نخاف من الحقيقة، بل نعيش من أجلها الإعلام الحر هو صوت النساء وصوت الشعوب المظلومة في الشرق الأوسط".
استشهاد كلستان وهيرو... جرح في القلب وصوت لا يُسكت
لم يكن استهداف الرفيقتين كلستان تارا وهيرو بهاء الدين مجرد اعتداء على شخصين، بل كان ضربة موجهة إلى خط الإعلام الحر، ذلك الخط الذي بات يشكل البديل الحقيقي للإعلام المزيف التابع للأنظمة القامعة، التي سعت لطمس الهوية الكردية وحقوق النساء في إقليم كردستان "استشهاد كلستان وهيرو ترك أثراً بالغاً في نفوسنا، وفي قلوب نساء كردستان عامة. فقد رأت النساء في تلك الهجمات محاولة ممنهجة لإسكات صوت المرأة الحرة، ورغم الجرح العميق الذي نزف فينا، لم يكن الحزن نهاية الطريق بل كان بداية ردٍّ نضالي، حيث توحدت الأصوات في وجه المؤامرة التي استهدفت الإعلام الحر، وجددنا عهدنا بمواصلة الطريق الذي سلكته الرفيقتان".
عهد لا يُكسر
وقالت الصحفية روجبين دنيز في ختام حديثها "بعد استشهاد كلستان وهيرو، رفعنا وتيرة النضال، وأقسمنا أن نواصل مسيرتنا ضد كل الهجمات التي تستهدف وجود المرأة والمجتمع، طريق الحرية الذي شق بدماء المناضلين والمناضلات لن يغلق، بل سيستمر بكاميراتهم وأقلامهم، نحن اليوم نواصل المسيرة التي بدأتها كل من غربتلي، كلستان، هيرو، نوجيان، دنيز، كمال، ناظم، جيهان، عكيد..."، أسماءٌ تحولت إلى رموز، وأقلامهم تحولت إلى مشاعل تنير درب الحرية.