فاطمة المرنيسي... كرست حياتها لخدمة قضايا النساء ليكون اسمها نقطة راسخة في تاريخ المغرب

من الشجاعة والجرأة أن توهب امرأة حياتها للدفاع عن حقوق النساء، بل أن تختار الإصطفاف الأعمى لكل المظلومات وكل امرأة تاقت لحياة أفضل تتسع فيها مساحة حريتها

حنان حارت
المغرب ـ وتضمن كرامتها، كانت حياتها مليئة بالنضال والمكابدة التي جعلت منها أيقونة مغربية تمردت ضد كل العادات والتقاليد المكرسة للفكر الذكوري، فبات اسمها نقطة راسخة في تاريخ المغرب، بل فارقة يحاكي تاريخ المرأة، جعلت قضية المرأة أولوية فضلتها على حياتها واستقرارها، إنها الراحلة فاطمة المرنيسي الكاتبة النسوية وعالمة الاجتماع.
تُستذكر فاطمة المرنيسي في كل المناسبات المتعلقة بالنضال النسوي بالرغم من رحيلها منذ ست سنوات، فهي المرأة التي ظلت حاضرة رغم وفاتها؛ سخرت حياتها لمناصرة قضايا وحقوق النساء والدفاع عن المساواة بين الجنسين.
 
 
وعن الراحلة فاطمة المرنيسي قالت مؤسسة مجلس النساء المقاولات العربيات فوزية طالوت المكناسي لوكالتنا "لطالما كنت وما زلت أكن لفاطمة حباً عميقا منذ أن عرفتها، وهذا الحب كنا نتقاسمه نحن الإثنتين، كنت ألتقي بها في العديد من المناسبات، وفي كل مناسبة كانت تأخذ الوقت الكافي للتحدث معي بإسهاب، لكن في عام 2008 أصبحت جد مقربة منها، حيث نشأت بيننا علاقة صداقة وطيدة لا سيما وأن اهتماماتنا كانت لها نفس التوجه، تحولت هذه الصداقة بسرعة إلى عاطفة، ثم إلى حب، لدرجة أنها قالت لي في أحد الأيام: أنت الابنة التي لم ألدها؛ وكنت في كل يوم أكتشف جانباً استثنائياً في شخصية هذه المرأة العظيمة، لقد وهبت حياتها لتكريس مبدأ المساواة ودعم النساء وتشجيعهن من أجل إثبات ذواتهن". 
 
مسقط رأسها
ولدت فاطمة المرنيسي في 27 أيلول/سبتمبر 1940 في فاس بالمغرب، ونشأت في فترة كانت فيها النساء في المغرب يعشن في عزلة في حرم المنزل وهو ما قامت بسرده في كتابها "أحلام النساء الحريم" الذي روت فيه أجواء طفولتها.
تلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة أنشأتها الحركة القومية، والتعليم الثانوي تلقته في مدرسة للبنات مولتها الحماية الفرنسية، طموحها كان أكبر، وكان رغبتها في تحصيل العلم كبيرة، لهذا قادتها رحلتها الدراسية إلى باريس، ففي سنة 1957، درست العلوم السياسية في جامعة السوربون، ثم التحقت بجامعة برانديز بالولايات المتحدة، وحصلت على درجة الدكتوراه عام 1974، ثم عادت للمغرب للعمل في جامعة محمد الخامس، ودرست في كلية الآداب بين عامي 1974 و1981، علاوة على ذلك، كانت باحثة في المعهد الجامعي للبحث العلمي في نفس الجامعة.
 
مرجع للحركة النسوية
سعت فاطمة المرنيسي خلال فترة السبعينات والثمانينات إلى إجراء أبحاث ميدانية تناولت فيها الأوضاع السائدة في المجتمع المغربي عن المرأة وبيئة العمل آنذاك، كما حرصت على نقد وتحليل العديد مما جاء في الدين الإسلامي خاصة فيما يتعلق بصورة المرأة وأدوارها المختلفة.
في رواية "نساء على أجنحة الحلم"، تحدثت فاطمة المرنيسي بكل جرأة ومزجت بين الواقع والتراث، وطرحت مسألة ممارسة الرجال للسلطة المطلقة داخل البيت، على عكس النساء اللواتي لا تستطعن الإدلاء برأيهن.
كما أغنت المكتبة المغربية والعالمية، بمؤلفات عدة من بينها "الحريم السياسي"، و"الإسلام والديمقراطية"، و"سلطانات منسيات"، وتعتبر العديد من مؤلفاتها ومحاضراتها مرجعا أساسياً للحركة النسوية المغربية والعربية.
قدمت فاطمة المرنيسي تشخيصاً ونقداً معمقين للسلطة الذكورية في المجتمع المغربي والعربي والإسلامي، ونادت بالمساواة بين الجنسين، وكرست نفسها للدفاع عن المرأة وحاربت العقلية الذكورية التي تأسر النساء في منطقة الحريم، وتطلب منهن عدم مبارحتها.
وهكذا لم تشأ أن تعيش تحت جناح ذكر، أو تعتبر نفسها "حرمة"؛ فاختارت الإنفراد بذاتها الأنثوية التي شكلت منطلقاً لأبحاثها وكتاباتها التي اختلط فيها النضالي بالأكاديمي، والسؤال والإحراج بالتحليل والتمحيص.
 
مناقشة الجندر 
أطروحة الدكتوراه الخاصة بها، كتبتها تحت عنوان "ما وراء الحجاب: ديناميكيات الذكور والإناث في المجتمع الإسلامي"، وتم نشرها فيما بعد ككتاب يختص بتوضيح قوة المرأة المسلمة، فيما يتعلق بالعقيدة الإسلامية.
وعرفت فاطمة المرنيسي بنهجها السياسي الاجتماعي في مناقشة الجندر والهويات الجنسية، وتحديداً تلك الموجودة في المغرب والدول الإسلامية الأخرى، فالمرأة المغربية في نظرها ليست آلة للإنجاب، بل هي جسد وروح وعقل، تحرص دوماً على اختيار الأفضل لها، ما جعلها أكثر الكاتبات التحاماً بالمرأة المغربية وقضاياها.
 
شهرزاد المغربية
لقبت بشهرزاد المغربية التي لم تتوقف عن الكلام والبحث والتنقيب وبلورة أفكارها حول المرأة وحقوقها المضطهدة، حيث ألفت كتابا بعنوان "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، وفيه اعتبرت أن دونية المرأة إرث مشترك بين الشرق والغرب، بل أن مفهوم الحريم في الغرب أشد تعقيداً للمرأة من مفهوم الحريم في الشرق.
ومن موقعها كعالمة اجتماع، تولت فاطمة المرنيسي أعمالاً ميدانية في المغرب، حيث أجرت مقابلات من أجل رسم خريطة للمواقف السائدة تجاه النساء وعملهن؛ فقامت ببحوث اجتماعية لليونسكو ومنظمة العمل الدولية، وكذلك للحكومة المغربية. 
وهكذا ساهمت بمقالات في دوريات ومنشورات عن المرأة في المغرب والمرأة والإسلام من منظور معاصر وكذلك من منظور تاريخي. 
 
"تمرد امرأة"
في كتاب "تمرد المرأة والذاكرة الإسلامية"، تحلل فاطمة المرنيسي دور المرأة فيما يتعلق بعالم الإسلام المعاصر. تستكشف في عملها فكرة الهوية الجنسية وأدوار الجنسين في العالم الإسلامي وتساعد على إعادة تعريف السرد المحيط بها.
تقول فوزية طالوت المكناسي وهي تستحضر اسم فاطمة المرنيسي "بالنسبة لي كانت المرنيسي هي ذلك الحب الكامل؛ حب الكلمات، حب العلم، حب الآخر، حب الشباب والمحرومين. فعندما كانت تشعر بالحب فإنها غالباً ما كانت تشاركه مع أصدقائها والأشخاص الذين تحبهم، إنه الحب في أبهى حلل الإنسانية، لقد أحبت الأشخاص البسطاء وأرادت أن تحيط نفسها بهم".
وأضافت فوزية المكناسي "لقد أحبت قضاياهم ودافعت عنها بكل شجاعة وجرأة وقوة؛ كانت تحب الكتب والعلوم والأبحاث، وكان لها فضول لمعرفة أي شيء يدعو للاطلاع. وكانت حريصة على مساعدة الآخرين، وتحب الانفتاح على أشخاص من خلفيات مختلفة للاستماع والتبادل والمناقشة والكتابة، الشيء الذي كان يفتح لها أبواب المعرفة أكثر فأكثر".
 
قوافل المغرب العميق
كرست الراحلة جزءاً من وقتها للإشراف على تنظيم قوافل للانتقال إلى المغرب العميق، حيث كانت تلتقي بالنساء اللواتي لا تسمح لهن ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية بمغادرة قراهن، فكانت تحاول التعريف بكل من تمتلك موهبة تسعى من خلالها لتخليد مسارها.
تتذكر فوزية المكناسي أنه في الأول من نيسان/أبريل 2008، كان هناك لقاء جمعها بالراحلة فتقول عن ذلك "كانت حوالي الساعة الحادية عشر صباحاً، حينما تلقيت مكالمة هاتفية من فاطمة، قالت فيها أهنئك على العمل الذي قمت به وهو إنشاء شبكة الحرفيات المغربيات "دار المعلمة"، إنه رائع".
وأضافت "اهتمام عالمة الاجتماع بقضية الحرفيات المتواجدات في سهول الريف الشاسعة، ومرتفعات الجبال الشامخة، وامتدادات الصحراء من الجانب الإنساني والتراثي، كان واجباً وقضية عادلة، لأن هؤلاء النساء يحملن إبداعاً رهيباً ولديهن حقوق لم يتم الاعتراف بها بعد، وكان هذا العمل يقربني منها أكثر فأكثر".
 
الجوائز 
مسيرة فاطمة المرنيسي، كانت حافلة بالعطاء، ما مكن اسمها من تجاوز حدود البلاد، فحصلت على العديد من الجوائز والتصنيفات.
في أيار/مايو 2003 حصلت على جائزة أمير أستورياس للأدب (أرفع الجوائز الأدبية بإسبانيا)، كما حازت في تشرين الثاني/نوفمبر 2004 على جائزة "إراسموس" الهولندية. 
وتم اختيار فاطمة المرنيسي سنة 2003 عضواً في لجنة الحكماء لحوار الحضارات التي شكلتها اللجنة الأوروبية برئاسة رومانو برودي، وصنفتها صحيفة "الغارديان" البريطانية سنة 2011، واحدة من النساء المائة الأكثر تأثيراً في العالم.
 
دعم الحركة النسائية
دعمت فاطمة المرنيسي عدداً من وجوه الحركة النسائية المغربية، وأشرفت على الكثير من بحوث الدكتوراه بغية الإسهام في تفكيك بنية الهيمنة الذكورية في المجتمع المغربي، والوقوف عند تعقيدها. 
كما قدمت فاطمة المرنيسي إسهامات نوعية في بداية الجيل الثاني للحركة النسوية في المغرب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. فشكل حضورها دعماً معنوياً وفكرياً  لدى الجمعيات النسائية كـ "الجمعية الديموقراطية لنساء المغرب"، وكانت كذلك وراء تأسيس أول مركز للاستماع والإرشاد النفسي والقانوني للنساء ضحايا العنف في 1995 بمدينة الدار البيضاء. 
وفي ظل النقاش والجدال الذي رافق إصلاح مدونة الأحوال الشخصية، كان لكتاب فاطمة المرنيسي "الحريم السياسي"، دور كبير في تنوير العقول، فقد  أزاحت النقاب في الكتاب عن أمر جوهري، يتعلق بتوظيف الدين لشرعنة الهيمنة الذكورية وإضفاء طابع القدسية على التمييز ضد النساء. 
 
معاناة في صمت
لم تكن حياة فاطمة المرنيسي سهلة، ففي غمرة نجاحها، أصيبت بمرض عضال، ورغم أنها كانت تتألم في كل لحظة، لكن قوتها وصلابتها جعلتها لا ترغب في إظهار ضعفها، حتى لأقرب المقربين، فتكتمت عن مرضها ولحظات ضعفها.
 لم تكن تريد الاستسلام ولا الإعلان عن ضعفها أمام الملأ، بل ظلت دائماً تكابر على ذاتها، حتى تظهر بقوتها وأناقتها.
وعن آخر لقاء جمع فوزية المكناسي بالراحلة قالت "كانت آخر مقابلة لنا في نهاية أكتوبر من عام 2015، ففي السابع عشر من أكتوبر اتصلت بي، وناقشنا إعادة تصميم موقعها على الأنترنت، واغتنمت الفرصة لأخبرها أننا قدمنا مشروعاً عن النساجات من المغرب لمسابقة دولية، وأنه قد تم إخبارنا للتو أننا الفائزين في هذه المسابقة، كانت فاطمة جد سعيدة بهذا الخبر، أرادت منا أن نبدأ في كتابة كتاب حول موضوع الناسجات، تقابلنا بالفعل، وناقشنا الكتاب، وشاركنا أفكارنا، كانت هذه آخر مرة أرى فيها فاطمة، لقد وجدتها نحيفة قليلاً، متعبة، أنا التي كنت من المقربين لها، لم أكن أعلم أبداً بأمر مرضها، فاطمة التي كانت محاطة بالكثير من الناس، عانت وحيدة في صمت بين جدران غرفتها، محاطة بكتبها التي كانت دوماً تعتز بها أيما اعتزاز".
وفي 30 من تشرين الثاني/نوفمبر 2015، رحلت عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، عن عمر يناهز 75 عام، بعد رحلة معاناة مع مرض عضال، لازمتها في صمت، لكن "شهرزاد المغربية" بقيت مصرة لآخر رمق من حياتها، على البوح بالكلام لنصرة النساء المغربيات، والدفاع عن قضاياهن.