صرخات النساء في غزة تتلاشى وسط أزيز الطائرات ودوي الانفجارات
في ظل حرب لا ترحم، تواجه النساء الحوامل والمرضعات في غزة أقسى معارك البقاء وسط غياب الرعاية وانهيار النظام الصحي وشُحّ سبل الحياة.

نغم كراجة
غزة- تعيش النساء الحوامل والمرضعات في غزة أوضاعاً صحية ومعيشية متدهورة في ظل استمرار الحرب وانهيار المنظومة الطبية، حيث لا تتوفر لهن أبسط مقومات الرعاية من المتابعة الطبية إلى التغذية الأساسية، ما يهدد حياتهن وحياة أطفالهن.
في غزة، لا تموت الأمهات فقط من القصف بل أيضاً من الإهمال، من الجوع، من الحرمان، ومن الوجع الصامت الذي لا تلتقطه عدسات الكاميرات، قضايا الحوامل والمرضعات الذي لم يتلقى أي اهتمام، ينذر بانهيار الجسر الذي تعبر عليه الحياة في زمن الحرب.
في خيمة مهترئة تجلس شوق نعيم، شابة في مطلع الثلاثينيات من عمرها، تحتضن طفلتها "غرام" ذات العام الواحد، وتحدّق في الفراغ بعينين غارقتين في الألم والوهن، تحمل ملامحها آثار حربٍ طويلة لا تزال مستمرة، لكنها تخفي خلف هذه الملامح قصةً أعظم من مجرد نزوح قاسٍ أو فقدان لمأوى؛ إنها حكاية أم خاضت تجربة الحمل والولادة والإرضاع في واحدة من أشد المآسي الإنسانية وأكثرها تعقيداً، حيث الحصار المطبق، والدواء المفقود، والرعاية الصحية المنهارة، والموت الذي يطارد الحياة في كل تفصيل.
"مشيت ست ساعات وأنا حامل في شهري السادس، كنت أضع يدي على بطني وأكلم طفلتي: اصمدي، رجاءً، لا تتخلي عني، نحن نحارب سوياً"، هكذا بدأت شوق نعيم سرد فصول معاناتها وقد احمرّت عيناها من الدموع المكبوتة، ويداها تلوّحان بانفعال يحكي أكثر مما تستطيع الكلمات التعبير عنه.
في ظل حربٍ طاحنة اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر2023، حُرمت آلاف النساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة من أبسط حقوقهن الصحية، بدءاً من المتابعة الدورية خلال الحمل، مروراً بالولادة الآمنة، وصولاً إلى الرضاعة والتطعيم والعناية بحديثي الولادة، ومع انهيار شبه تام للمنظومة الطبية، تبددت فرص الأمهات في تلقي الرعاية، ليصبحن وحدهن في معركةٍ مرهقة، تقذفها موجات الحرب وتقصير العالم.
وقد أفادت منظمة الصحة العالمية في بيانٍ لها أن 90 بالمئة من الحوامل والمرضعات في قطاع غزة يعانين من سوء التغذية جراء الحصار المستمر ومنع الاحتلال إدخال المساعدات الإنسانية والأدوية.
وأشارت شوق نعيم إلى المعاناة التي كانت تواجهها النساء أثناء الولادة في ظل الحرب التي شهدتها غزة "ولدتُ ابنتي بين النساء المتألمات، في غرفة بلا تطهير، والأرض مبللة بماء ملوث، والممرضات منهكات، وقد اكتظت غرفة الولادة بالنساء، بعضهن يصرخ من شدة الألم، وبعضهن يجهشن بالبكاء خوفاً على مصير مجهول".
وأضافت "لم يكن في المكان أجهزة مراقبة للجنين، ولا طاقم طبي كافٍ، ولا حتى معقمات أو شراشف نظيفة كل شيء كان ناقصاً إلا الخوف"، ووصفت شعورها في تلك اللحظة بنبرة مشبعة بالقهر وهي تشير إلى طفلتها الصغيرة التي تتلوى جوعاً، باحثة عن حليبٍ لا يأتي "كنت أشعر أني ألد في سردابٍ مظلم، لا أحد فيه يسمعك، ولا أحد يبالي إذا ما خرجتِ أنت أو طفلكِ حيّين".
الرضاعة الطبيعية... بين الجوع ومناعة منتهكة
الطفلة "غرام" تعتمد على الرضاعة الطبيعية، لكنها كما تقول أمها "لا تُشبع ولا تغني عن الجوع"، إذ أن الرضاعة الطبيعية تتطلب تغذية متوازنة للأم، وهو ما تفتقر إليه تماماً "أعتمد في طعامي على المعلبات، تلك التي تشبه الحديد في طعمها، بالكاد أستطيع ابتلاعها، لكنها خياري الوحيد"، تقول وهي تمرر يدها النحيلة على وجه الطفلة الغافي.
خسرت شوق نعيم أكثر من 25 كيلوغراماً منذ اندلاع الحرب ما جعل جسدها هزيلاً، وشعرها يتساقط، وظهرها يئن تحت وطأة التعب المزمن "لا أشعر أنني أُرضع ابنتي بل كأنني أعتذر منها في كل رضعة، أُشبعها بحبّي لكن ليس بالحليب"، وتغالب دموعها المتساقطة بصمتٍ موجع.
أما بديل الرضاعة الطبيعية، وهو الحليب الصناعي، فقد أصبح بعيد المنال في ظل أسعار فاحشة وشحّ في التوفير، تضطر العائلة لشراء فوط الأطفال بالقطعة، وأحياناً تتناوب غرام على فوطة واحدة طوال اليوم "هل سمع أحدكم من قبل عن أم تقطّر الحليب الصناعي بالملعقة لطفلتها؟ هكذا أفعل عندما أتمكن من شراء علبة، كأنني أُرضعها حياةً قطرةً, قطرة"، تقولها وهي تنظر إلى ابنتها بنظرة امتنان وذنب في آنٍ واحد.
حرمان من اللقاحات وتهديد لصحة الأجيال
لم تتلقَ غرام أيّاً من التطعيمات المقررة للأطفال، فالعيادات إما مغلقة، أو بعيدة جداً، أو تفتقر للقاحات وحتى إن توفرت فإن أجور المواصلات تفوق قدرة الأسرة "عندما سمحوا بدخول بعض اللقاحات، لم أستطع الذهاب، الطريق طويل، ووسيلة النقل تكلفني ثمن وجبتين لطفلتي".
هذا الحرمان لا يهدد صحة غرام فحسب، بل يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة أمراض كان قد تم القضاء عليها، ما يُنذر بكارثة صحية أكبر من أن تُحتوى في ظل هذا الحصار المميت.
انهيار تام في المنظومة الطبية
لا تملك أي متابعة صحية بعد الولادة، فقد اكتفى المستشفى بإجراء الولادة ثم طلب منها المغادرة لتُفسح المجال لغيرها، تروي بتنهيدة عميقة "لم يخبروني عن وضعي الصحي، ولم يفحصوا الطفلة، فقط قالوا لي: اخرجي، فهناك غيرك ينتظر".
حتى اليوم، تعاني شوق نعيم من آلام مبرحة في الظهر، ومن التهابات جلدية ناتجة عن الغذاء الرديء، والظروف البيئية السيئة، ولا تملك مالاً لزيارة أي عيادة خاصة، التي أصبحت حكراً على القادرين "ذهبت مرة إلى طبيبة تعمل تطوعاً في عيادة صغيرة، همست لي بعد أن فحصتني: لا دواء هنا، ولا أشعة حافظي على نفسك قدر المستطاع"، تردد الكلمات وكأنها لا تزال عالقة في أذنيها، تهمس بها الريح كلما اشتدت آلامها.
أمهات على الهامش
وعلى طرف آخر من المأساة، تقف نادية أبو فول (21 عاماً)، في قلب تجربة مختلفة من الألم والنجاة لا تقل قسوة عن غيرها، ولكنها محمّلة بأسئلة معلّقة ومصير أكثر غموضاً، وضعت طفلتها "ميرا" قبل بضعة أشهر في أحد المستشفيات الحكومية شمال قطاع غزة حيث كانت الظروف الصحية متدهورة إلى الحد الذي لم يعد معه صراخها أثناء المخاض مسموعاً وسط هدير الطائرات والقصف المستمر.
تقول وهي تحاول أن تتحدث بنبرة هادئة بينما تمسك بيد طفلتها الصغيرة "كنت أسمع دوي الانفجارات أكثر مما أسمع صوتي، وكل ما فكرت فيه هو أن تخرج طفلتي على قيد الحياة، لم يكن هناك وقت للراحة، ولا مساحة كافية حتى للنزف".
غير أن ما جعل التجربة أكثر فداحة، كان فقدانها لزوجها قبل الولادة بأسابيع، في غارة جوية استهدفته بينما كان يسعى لجلب بعض المستلزمات لمنزلهما المؤقت "لا أعلم إن كنت حينها أتهيأ للولادة أم أتقبل خبر وفاته، بقيت لأيام لا أستوعب ما جرى، وكأن كل شيء انهار دفعة واحدة، المنزل، الحياة، الأمان، والمعيل".
اليوم تعيش نادية أبو فول بلا معيل وتعتمد كلياً على كفالة رمزية تُصرف لطفلتها اليتيمة كل شهرين أو ثلاثة بالكاد تكفي لتأمين الفوط وبعض الطعام، إن وُجد، أما الحليب الصناعي، فتقول إنه لم يكن متاحاً منذ شهور في شمال القطاع، وإن توفر فهو نادر جداً وسعره فاحش لا يمكن تحمله "أمضيت أسابيع أبحث عن عبوة واحدة من الحليب، طرقت أبواب الصيدليات، وسألت مراكز الإغاثة، وكل الأجوبة كانت (لا يوجد)، لجأت للرضاعة الطبيعية لكن لم يكن لدي ما يكفي، كنت بالكاد أتناول وجبة واحدة في اليوم، جسدي لا ينتج الحليب، وطفلتي تبكي ولا تهدأ".
ما يزيد من تعقيد وضعها، هو العزلة النفسية التي تعيشها، تلازم خيمتها معظم الوقت، وتشعر أنها بلا حافز ولا طاقة على مواجهة الواقع، تشير بيدها نحو أرضية الخيمة وتقول "هنا أعيش، وهنا أنام، وأفكر كثيراً، لا أخرج إلا للضرورة القصوى حتى الحديث مع الناس أصبح مرهقاً".
نادية أبو فول التي تركت تعليمها الثانوي عندما تزوجت، تقول إنها تفكر بعد انتهاء الحرب في استكمال دراستها أو تعلّم أي حرفة، لكن لا شيء واضح حتى اللحظة "لا أريد أن تعيش طفلتي على الإغاثة فقط، أريد لها مستقبلاً أفضل لكن حتى فكرة المستقبل تبدو غامضة ومخيفة".
طفلتها "ميرا"، رغم مرور عام تقريباً على ولادتها، لا تزال تعاني من نقص الوزن، ومؤشرات تأخر في النمو، لم تتلقّ تطعيماتها الأساسية بسبب بُعد المراكز الصحية أولاً ثم انعدام المواصلات وغلاء الوقود، ناهيك عن الخوف من استهداف الطرقات "أحياناً أفكر أنني لست أماً كفاية، رغم أني أفعل ما بوسعي لكن ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من هذا وأنا أعيش في خيمة؟" تقولها نادية دون انفعال بل كمن يطرح سؤالاً لا ينتظر جواباً.
ما بين التلوث الذي رافق ولادتها، وفقدان زوجها، وانعدام الموارد، تقف اليوم أمام واقع مركّب، أم شابة تعيش في خيمة وسط ركام لا تملك من وسائل النجاة إلا طفلتها وملف مساعدات مؤقت قد لا يدوم.
في المشهد العام، لا تُذكر الأمهات الجدد في بيانات الإغاثة أو جداول الطوارئ، ولا تُراعى احتياجاتهن الخاصة في عمليات التوزيع أو التخطيط، فتجد كل منهن نفسها في عزلة مضاعفة اجتماعية، صحية، ونفسية.
هكذا، تشكّل تجربة نادية أبو فول امتداداً آخر لما تعيشه الحوامل والمرضعات في قطاع غزة، كل واحدة منهن تقف في ساحة مختلفة من المعاناة، لكن جميعهن يتشاركن السؤال نفسه "هل هذه حياة تصلح لأن يبدأ فيها طفل مسيرته الأولى؟"
صوت النساء في العتمة... أين العالم؟
أمثال شوق نعيم ونادية أبو فول كُثر، نساء حوامل ومرضعات يخضن معركة يومية من أجل البقاء وحدهن في الميدان بلا رعاية، بلا دواء، بلا غذاء، وبلا أدنى مقومات الكرامة "نحن نساء، ولسنا أرقاماً نشرات الأخبار، أجسادنا تنزف، وقلوبنا تنكسر، وأطفالنا يكبرون في خيام البؤس"، تقلن ذلك وهن تنظرن إلى السماء، وكأنهن تسألنها متى تتوقف الحرب، ومتى تعدن إلى منازلهن، ولو على أنقاضه.