"نموت بصمت ولا أحد يشعر بنا" معاناة المريضات في قطاع غزة

بين نزوح قسري وانهيار كامل للخدمات الطبية تعاني المريضات في قطاع غزة من تدهور واقع صحي مأساوي.

نغم كراجة

غزة ـ في أحد أزقة مدينة غزة المكتظة بالخيام، تجلس وجيهة القرموطي، امرأة ستينية مقعدة على كرسي متحرك، وقد انعكست على ملامحها معاناة لا توصف، تعيش يومياتها تحت وطأة الألم والجوع والخوف، منذ أن اندلعت الحرب الأخيرة على غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023، التي قلبت حياتها رأساً على عقب، محوّلة إياها إلى كابوس متواصل. 

 

"تحت النار خرجنا..."

تروي وجيهة القرموطي تفاصيل نزوحها الأخير من شمال قطاع غزة بعد أن أجبرتها القوات الإسرائيلية على مغادرة منزلها، تقول بصوت منهك "كان أسوأ يوم في حياتي، فلم أكن أستطيع الحركة إلا بمساعدة، وولدي الوحيد الذي كان يجرني بالكرسي المتحرك تم اعتقاله عند إحدى نقاط التفتيش، وبقيت على الرصيف ست ساعات كاملة".

كانت آخر امرأة تغادر شمال القطاع، خرجت تحت وابل من النيران تتحدى الإهانة والخوف لكن لحظاتها تلك لا يمكن أن تُنسى، كما تقول "يومها كنت اسمع صوت القذائف، وشعرت أن الموت أقرب إلي من الحياة، قبل أن يفرجوا عن ابني".

منذ أن تركت منزلها المتآكل بفعل القصف، وجدت وجيهة القرموطي نفسها في رحلة مريرة بين خيام النزوح التي تفتقر لأدنى مقومات الحياة، ورغم صعوبة التنقل داخل الخيام، إلا أنها تحاول بقدر استطاعتها التأقلم مع واقع جديد، بارد وقاسٍ "حتى الكرسي المتحرك انكسرت عجلة منه خلال النزوح الأخير... تخيلوا شعور مقعد لا أحد يستطيع مساعدته... أشعر أنني حمل على الناس".

إلى جانب صعوبات التنقل، تُعاني من التدهور المستمر في صحتها بسبب غياب العلاج والرعاية الطبية، فالكارثة الصحية تضربها من كل جانب؛ إذ تعاني من سرطان في الألياف، ومضاعفات ما بعد إصابتها بكورونا قبل عامين، وتضطر لتجاهل أوجاعها اليومية رغم أنها تعلم أن حالتها تتطلب علاجاً مستمراً لا يتوفر في مدينة غزة المنهكة. 

 

"لا أدوية ولا علاج"

تحاول وجيهة القرموطي التماسك وهي تسرد المأساة الصحية التي تعيشها "فقدت الأدوية التي كنت أحصل عليها بصعوبة وقت النزوح، ووصلت المدينة ولا أملك حبة دواء، الأمراض المزمنة هنا ليس لها علاج، لا تحليل ولا متابعة... فماذا أفعل؟".

كما تحدثت كيف اضطرت سابقاً إلى تركيب بلاتين جديد في قدميها بسبب مشاكل في العظام، وأصبح يتسبب في التهابات شديدة، ما اضطرها لفكه دون متابعة طبية، مما زاد حالتها سوءاً "حتى بعد فك البلاتين، الألم لا يفارقني والبرد يزيد وجعي".

 

التدهور الصحي للنساء وسط الانقطاع الطبي 

في ظل استمرار الحرب، تزداد معاناة النساء في غزة بشكل متسارع بسبب الانقطاع التام للإمدادات الطبية والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الأساسية، المراكز الصحية التي ما زالت تعمل جزئياً تعاني من اكتظاظ كبير بينما تواجه النساء المصابات بأمراض مزمنة مثل السكري، والسرطان، وأمراض القلب صعوبات لا حصر لها، وغياب العلاج الكيماوي والمضادات الحيوية الأساسية أدى إلى تدهور حالة العديد منهن، إذ أصبح المرضى يُتركون بلا أي رعاية تُذكر، كما أن الكوادر الطبية تواجه معضلة يومية حول كيفية الاختيار بين الحالات؟ الحوامل، مريضات السرطان، واللواتي يعانين من إصابات الحرب، فالجميع بحاجة ماسة للرعاية، ولكن الإمكانيات شبه معدومة.

انقطاع الكهرباء يزيد الطين بلة؛ فالأجهزة الطبية الضرورية مثل أجهزة غسيل الكلى وأجهزة العلاج الإشعاعي توقفت عن العمل تماماً، النساء تجدن أنفسهن محاصرات بين الألم والموت البطيء في ظل غياب أي أفق لتحسن الوضع الطبي، معاناة النساء خلال الحرب تتعدى الآلام الجسدية، حيث يصبح فقدان الرعاية الصحية شهادة أخرى على الانتهاكات الإنسانية التي يتعرض لها سكان غزة.

 

النساء تحت رحمة الحرب

وجيهة القرموطي ليست الحالة الوحيدة التي تعكس مآسي المريضات في قطاع غزة، فالحصار المفروض منذ سنوات طويلة على القطاع جعل الحصول على علاج الأمراض المزمنة أو السرطان حلماً بعيد المنال، في الخيام المكتظة، تعيش نساء كثر أوضاعاً مشابهة مع انعدام أبسط الخدمات الطبية، كالفحوصات والتحاليل. 

وترى أن النساء تعانين أضعاف ما يعانيه الرجال في الحروب، قائلةً "المريضة أو التي لديها أطفال مرضى ماذا تفعل في هذه الحرب إننا نموت بصمت ولا أحد يشعر بنا".

وتشير التقارير الحقوقية إلى أن القوات الإسرائيلية تعمدت استهداف البنية التحتية الصحية في غزة، ما يفاقم معاناة المرضى، خاصة النساء. 

 

انتهاك الحقوق الإنسانية... نظرة قانونية

ما تعرضت له وجيهة القرموطي وآلاف الفلسطينيات يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تنص في المادة (16) على حماية النساء والأشخاص غير المشاركين في الأعمال العدائية من أي شكل من أشكال الاعتداء، كما تؤكد المادة (23) على ضرورة السماح بدخول المواد الطبية اللازمة للمدنيين دون عوائق. 

إلى جانب ذلك، تُلزم المادة (27) من الاتفاقية الدول المحتلة باحترام كرامة الأشخاص وحمايتهم من المعاملة المهينة أو غير الإنسانية، إلا أن الإجراءات التي تتبعها القوات الإسرائيلية من التهجير القسري إلى استهداف المرافق الصحية تظهر تجاهلاً واضحاً لهذه البنود. 

كما دعت المنظمات الحقوقية الدولية مراراً إلى فتح تحقيقات بشأن الانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون في غزة، خاصة النساء اللواتي يُعتبرن من أكثر الفئات تضرراً في النزاعات المسلحة. 

 

"أين العالم؟"

بصوت ملؤه الحزن، تتساءل وجيهة القرموطي عن مصيرها ومصير النساء أمثالها "لماذا المجتمع الدولي لا يتحرك... أين هي حقوق الإنسان؟ أنا مريضة ومقعدة ولا أملك شيء غير الصبر لكن إلى متى؟.. لسنا أرقام في الأخبار، نحن بشر! أريد أن يعرف الناس أنني لا أبكي لأجلي فقط وإنما أبكي على كل امرأة تعيش هذه المأساة، وعلى أطفال ليس لهم أي ذنب في هذه الحرب".

حكاية وجيهة القرموطي ليست إلا جزء من مأساة إنسانية كبرى يعيشها سكان غزة يومياً تحت القصف والحصار، ورغم قسوة الظروف يبقى الأمل معلقاً بجهود المجتمع الدولي لرفع المعاناة عن هؤلاء الضحايا، وتأمين حياة كريمة للنساء الفلسطينيات اللواتي تكافحن للبقاء على قيد الحياة.