العزوف عن الزواج في تونس... بين التنديد والكفاح
أسباب كثيرة تدفع النساء للعزوف عن الزواج، التي أصبحت اليوم في تونس بمثابة ظاهرة يدرسها مختصون ويحاولون فهم أسباب تغيّر العقلية النسوية وتطوّرها لبلوغ مرحلة "الامتناع بقناعة عن الزواج"
زهور المشرقي
تونس- .
تعتبر الفيلسوفة الفرنسية والناشطة النسوية الراحلة جونفياف جيلبان أنّ العزوف عن الزواج هو ردّ فعل ضد إكراهات تمسّ المرأة فيما يخصّ الأدوار المُسندة إليها، وتقول إنّ ''الهدف هو التنديد والكفاح ضد حصر وتضييق دور المرأة في المهام التربوية والمنزلية، فالأسرة، تضرّ بكلا الجنسين لأنّها مؤسسة تحدّد لكل دوره، وتجعل من الهويات الجنسية والنوعية متصلّبة وتفضي بطريقة حتمية إلى تقسيم نوعي للوظائف وإلى علاقات غير متساوية وانفعالات متزايدة".
وكشفت دراسات رسمية عن تزايد ظاهرة العزوف عن الزواج في تونس من قبل النساء والرجال على حد سواء، وتطرّق الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري مراراً إلى الآفة التي قال إنّها مهددة للسلم والمنظومة الاجتماعية المتوازنة، حيث بيّنت الإحصائيات أن نسبة العزوف عن الزواج بتونس بلغت 60 بالمائة وتتصدّر الأرقام الفتيات خاصة في السنوات الأخيرة حيث بلغت نسبة العازفات عن الزواج مليوناً و300 ألف امرأة من أصل أربعة ملايين و900 ألف امرأة في البلاد مقارنة بعام1994حيث لم يتجاوز العدد آنذاك، 900 ألف عزباء من أصل 3 ملايين فتاة، وفق وزارة المرأة.
وتحتّل تونس المرتبة الرابعة عربياً من حيث نسبة العزوف عن الزواج مما قد يخلق ارتباكاً كبيراً في المجتمع التونسي إذا لم توجد حلول لمعالجة الظاهرة التي تزداد سنوياً بنسبة 10بالمائة، وفق إحصائيات رسمية حديثة.
وكالتنا تطرّقت إلى الموضوع وتحدّثت مع نساء يرفضن قطعياً الزواج، ومع مختصات فسّرن من واقعهن الأسباب الرئيسية لذلك.
تقول مروى عباّسي (37)، من محافظة بنزرت شمال العاصمة تونس، حاصلة على ماجستير في التصميم الداخلي، ترفض الزواج نهائياً برغم كل العروض التي تقدمت لها "لم أكن يوماً رافضة للزواج كمؤسسة ومشروع بين شخصين، كنت ككل فتاة حالمة بارتداء الفستان الأبيض، ومنذ بلوغي سن الـ 25 كان حديث أمي اليومي، وكأنها تبحث عن طريقة للتخلّص مني باعتباري الأكبر سنّاً بين أخواتي، إلى أن اعترض سبيلي ذات يوم "أحمد" وهو شاب كان في أواخر الثلاثين من العمر، قرّرنا الارتباط الرسمي وخططنا لكل خطوة معاً، لكنني فوجئت قبل الخطوبة بشهرين بعد مماطلة مستمرة من طرفه بأنه متزوّج ولديه ثلاثة أبناء، تلقيت صدمة نفسية، لكنني كنت أقوى وتعافيت وعدت إلى حياتي الطبيعية وعملي وعالمي الصغير، لكنني قررت عدم الارتباط نهائياً، كان القرار صعباً لكنني لم أندم، تمرّدت ضد التفكير المجتمعي المتخلّف الذي يرى في المرأة فقط ربّة بيت وأمّاً، واقتنعت بأنني بمفردي قادرة على تحقيق أحلامي وخوض كل التجارب الحياتية والمغامرات، لقد طاردت فكرة أن السنّد هو الزوج، أرى سندي في شهادتي العلمية وفي تألقي المهني وفي سفري وفي اهتمامي بنفسي وبكتبي.. أنا اليوم امرأة مستقلة مادياً ومعنوياً، أبحث عن سعادتي فأجدها بين الكتب وفي نشاطي ضمن جمعية مهتمة بالأطفال فاقدي السنّد".
وتختلف فاطمة سمراني (33) من محافظة جندوبة عن رأي مروى عباسي، في كون الزواج شيئاً ثانوياً، "الزواج بالنسبة لي مهمّ، وحلمي أن أكوّن أسرة وأنجب أطفالاً وأسمع كلمة ماما. لقد ترعرت وسط عائلة صغيرة جداً تتكون من أب وأم وأخ، أشعر بأنني حُرمت من نعمة الأخت والعائلة الكبيرة، ومنذ صغري كان أبي يوصيني بأن أملأ البيت أطفالاً ومرحاً وفرحاً".
وتضيف "برغم هذا فإن الزواج في تونس أصبح عبءً كبيراً للجنسين، حيث يتطلّب مبلغاً مالياً ضخماً لإقامة العرس وتوفير السكن المقبول وغيرهما من الضروريات إضافة إلى أن التونسية بات في شخصيتها جانب كبير من التمرّد على الواقع، يرفض الرضوخ للعادات البالية التي ترى في العزباء التي اختارت عملها ودراستها أو خدمة مشروع مجتمعي تطوعي، فتاة لا تصلح للزواج", وبرغم من أن فاطمة سمراني لا ترفض الزواج إلا أنها لا تقبل بأن تكون بعنوان زوجة وربة بيت تقليدية، فهي تشجع الفتيات على الدراسة والعمل قبل اتخاذ أي خطوة للارتباط، قائلةً "أن الاستقلالية المادية هدف رئيسي حتى لا تكون تحت وصاية رجل يتحكم بها ويفرض عليها املاءاته".
وشددت على ضرورة أن تقتنع المرأة اليوم بأنها حرّة وليست في حاجة إلى أي مكمّل، هي في حاجة إلى شريك يقاسمها أوقاتها الحزينة والسعيدة، وبحاجة إلى شخص يكون داعمها الأول.
أما الناشطة المجتمعية، فهيمة بلعيد، تقول أن النساء اللواتي لم يتزوجن يواجهن ردود فعل عنيفة حيث يتمّ احتقارهن والاستنقاص من وضعهن، حيث لا تزال النظرة النمطية نفسها مستمرة في المجتمعات العصرية.
وتفيد فهيمة بلعيد بأن نسبة تعليم الفتيات في تونس باتت عالية وتمثّل نحو 60 بالمائة من عدد الطلبة في الجامعات والمعاهد، ما يصعّب مسألة اختيار الشريك ويدفع بالفتيات إلى وضع شروط محدّدة للطرف المقابل للقبول به، متابعة أن التونسية اليوم وفي ظلّ انفتاح تفكيرها على العالم الخارجي وكثرة الجمعيات النسوية المدافعة عن حقوقها باتت أكثر وعياً واطلاعاً وأصبحت قراراتها محسوبة ودقيقة بعيداً عن الضغط المجتمعي.
وتُشجّع الفتيات على عدم الاقتداء إلا بأنفسهن واستكمال دراستهن وتحقيق ذواتهن بعيداً عن العقلية الذكورية المتخلفة التي ترى في المرأة نصفاً مكمّلاً لغريزة إنسانية، مؤكدة أن المرأة من حقّها أن تختار المسار الذي تريد أن تستكمل به حياتها، متزوجة أو عزباء.
وتُعدّد الباحثة في علم الاجتماع، صبرين عجرودي، أسباب عزوف النساء التونسيات حالياً عن الزواج مقارنة بالتسعينات مثلاً، تُجبر الثقافة السائدة والمهيمنة في تلك الفترة المرأة على الزواج دون دخول المدرسة والتعلم لتجد في الزواج المخرج الوحيد والمتنفّس الأول من ضغط العائلة ناهيك عن ذكورية المجتمع وانعدام المساواة بين الجنسين حيث كان الرجل يحتكر كل المناصب في مختلف المجالات في إقصاء شبه تام للمرأة التي ظل دورها يقتصر على تربية الأبناء والقيام فقط بشؤون المنزل، مؤكدة أن هذا الوضع تمردت عليه التونسية، التي أصبحت اليوم تتمتع بمستوى دراسي عال وبحنكة تجعلها تفكّر جيّداً قبل ربط مصيرها بشخص يجعل منها ماكينة إنجاب وربة بيت تقليدية لا قيمة لها ولا مكانة في مجتمع باتت الوظيفة أولوية لتحقيق الاستقلالية.
وتابعت صبرين عجرودي، لا ننسى التأثير الإيجابي للتعليم في رفع نسبة الوعي لدى النساء ورغبتهن في العيش باستقلالية والتحرر من ظلال الجنس الآخر والمقصود هنا أن الانفاق لم يعد من وظائف الرجل، بل أصبحنا نعيش في واقع نسوي متحرر يدفعهن إلى التمرّد على العادات والتقاليد البالية والعقلية الذكورية القديمة الظالمة.
وتطرّقت إلى ردود الفعل المجتمعية الموجّهة ضد النساء اللواتي اخترن عدم الزواج نهائياً والتي تتسّم بالعنف والنظرة الدونية لدفعهن أو إجبارهن على الزواج باعتباره المصير المحتوم والوحيد للمرأة وفق تلك العقلية، وكل من لم تعرف هذا المصير، ينظر إليها نظرة سلبية وتصنّف في مرتبة دنيا.
وتضيف بأنه "لا تزال النظرة السيّئة للعازبات بوصفهن مثالاً معادياً ومضاداً لصورة المرأة "المثالية" المرغوب فيها والمتمثلة في صورة الزوجة والأم، ويتم وسمهن بالمهدّدات للاستقرار الاجتماعي برغم ما تحققه العازبات للمجتمع من خلال انخراطهن في الحياة العملية ومساعدة العائلة".
وتعتبر أن النظرة الدونية هي ترجمة لعقلية بالية ترى في المرأة ربة بيت وأماً لا غير، حيث إن المرأة التي اختارت أن تعيش لنفسها وتكرّس حياتها لخدمة قضايا أو لترجمة قناعات آمنت بها لا يزال ينظر إليها بدونية.
أما المختصة في علم النفس المجتمعي، آية بن علي، فأكدت أن فكرة الزواج من قبل التونسيات لم تعد لها تلك الأولوية أو الرغبة الأكيدة، وكثير من النساء يعتبرن الزواج مقيّداً لحرياتهن وتحركاتهن وحاجزاً يقف بين الحلم والواقع الذي ينتظرن أن يَعِشنَه.
وترى المختصة النفسية أن المجتمع التونسي كالعربي لا يعترف بدور المرأة والزوجين جنباً إلى جنب بل يسعى إلى ترسيخ فكرة الرجل السيّد المتحكم بالأسرة والمرأة المدينة له بالطاعة، معتبرة أن ذلك فيه مخالفة للقواعد المدنية والقانونية التي تحمي حقوق المرأة ومكتسباتها التي تنص عليها مجلة الأحوال الشخصية التي جاءت لتقطع مع العقلية الذكورية السائدة، مذكّرةً في هذا المقام بمواقف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي شدّد على "فرض حرية المرأة وحقوقها بقوة القانون بعيداً عن الشعب المنخدع بالثقافة الذكورية السائدة" وفق قوله.
وأضافت "إن العزوف عن الزواج أو الخوف منه أحياناً من قبل الشبان يعود إلى الظروف المالية الصعبة"، مشيرة إلى أنها لا ترفض فكرة تشجيع الفتاة على الزواج لكن يجب ألا تقبل بالارتباط لمجرد وصفها بالعانس فتضعف نفسياً.
وأكدت على أن الزواج في جوهره اتفاق الطرفين على العيش بسلام واحترام الخصوصيات بعيداً عن منطق العنف والسيطرة المهيمنة الذكورية المقيتة.
وتتّفق آية بن علي مع فهيمة بلعيد التي أشارت إلى النظرة الدونية للعزباء، داعية إلى محاربتها عبر حملات التوعية التي تؤسس لمجتمع سليم نفسياً ومتّزن ومستقر، لافتة إلى أن الزواج عن قناعة فكرة سليمة لكنه يصبح واقعاً مسموماً وقاتلاً في حالة كان خضوعاً لإرضاء عقليات تتسم بالجهل ومتصلّبة.
وتوصي المختصات بأهمية اكتساب الثقة في النفس ومواصلة درب النضال للحصول على مزيد من الحقوق وتطوير المكتسبات.
وترتفع المزيد من الأصوات النسائية في تونس لدعوة الفتيات والنساء إلى التركيز على مسارات تحقيق ذواتهن بالعلم والمعرفة والإبداع، وترك الجهل للجاهل، كما تقول الشاعرة والأديبة التونسية التي حاورتها وكالتنا سابقاً نائلة عبيد "في داخلي ذلك الشيء الشفاف الذي لا يفهمه سوى أنثى ترمم أحلامها وتسير".