يوم في قرية المرأة (Jinwar) – (1)

JINWAR أو قرية المرأة... هناك على أرض قاحلة وجافة عم الخير وانتشرت البركة وعادت الحياة لتنبض من جديد على يد المرأة

الدرباسية - . حيث يلتقي بحر من الخضرة مع لون التربة الحمراء ليشكلا معاً لوحة زاخرة بالألوان تنبض بالحياة وتبعث نفساً منعشاً في صدر المرء. أحيت النساء ميراث الآلهة على تلك الأرض المباركة وبنين الحياة حول أنفسهن مرة أخرى. لا تفهموا الأمر بشكل خاطئ؛ هذا المكان ليس ملجأ ولا مكاناً تأوي إليه من فقدت سبل العيش وترجو الحصول فيه على طريقة للحياة. هذا مكان لولادة المرأة القوية من جديد، هنا يظهر كيان ووجود المرأة.
نحن في قرية المرأة JINWAR... القرية التي تتمتع بالهدوء والأمن حيث يتضح معنى العيش المشترك. دائماً لديها زوّار فكل من يزور روج آفا بالتأكيد يقوم بزيارة قرية المرأة.
توجهنا إلى قرية المرأة لقضاء يوم هناك ومتابعة مجريات الحياة فيها. لدى اجتيازنا للدرباسية متجهين نحو سري كانيه/رأس العين ظهر على الطريق لوحة مكتوب عليها Jinwar سرنا باتجاه اللوحة ومضينا قليلاً في السهل لتظهر لنا قرية المرأة من بعيد. منازل القرية مبنية من الطين لذلك لا يظهر لونها من بعيد ويحتاج المرء للاقتراب منها حتى يراها بوضوح. تقع القرية في منطقة واسعة ومكشوفة وتظهر من بعيد القرى المحيطة بها. بالقرب منها توجد حقول الخضروات الصيفية التابعة للقرية وكلما اقتربنا ازداد وضوح اسم القرية المكتوب على بابها بألوان مختلفة، ولدى وصولنا فتحت لنا المرأة المناوبة لذلك اليوم الباب واستقبلتنا بالترحاب ودعتنا للدخول. عندما وضعنا أقدامنا داخل القرية شعرنا وكأننا وطأنا مكاناً مقدساً وسرت رعشة في داخلنا. بعد تحية المناوبة تجولنا في القرية وكأننا نطوف حول قبة مقدسة، بداية تجولنا داخل القرية وكلما مررنا بالمنازل والحياة المبنية بيد النساء ازداد فخرنا وحماسنا.
 
أول مكان قمنا بزيارته كان صيدلية "Şifa Jin" 
البناء الأقرب إلى الباب من الجهة اليسرى هو صيدلية "Şifa Jin" حيث كتب اسم الصيدلية على بابها بالحجارة، البناء جاهز وبانتظار البدء بالعمل. ويجمع المركز الصحي والقاطنات في القرية الأدوية الطبيعية معاً.
 
أكاديمية القرية
بالقرب من الصيدلية وبعد تجاوز عدد من المنازل تصادفنا أكاديمية نساء القرية التي تستقبل الضيوف وطلابها بشعار المرأة هي الحياة والحرية "Jin Jiyan Azadî" هذا الشعار يجعل ذاكرتنا تضطرب وتتداخل ويقلبها رأساً على عقب لأنه يحطم القوالب التي وضعها النظام الأبوي السلطوي منذ آلاف السنين والتي تم قبولها وفرضها، ويعيد الحياة إلى ما تبقى في عمق ذاكرتنا ويبعث الحماس في مشاعرنا... ليس فقط سكان قرية المرأة، كلنا كنساء نقول نعم ها نحن ذا، نحن من نبني الحياة ونضمن الحرية.
تزين الأكاديمية من الداخل هدايا الوفود والحركات النسائية التي قامت بزيارة القرية، من رموز المرأة التي لم يتم نسيانها وضياعها عبر التاريخ إلى الرموز التاريخية بحيث تحول المبنى من الداخل إلى معرض متناسق. تتلقى النساء في الأكاديمية تدريبات حول العلوم الاجتماعية والنظام الأبوي والمشكلات الاجتماعية وسبل الحل. ويقمن بإعادة تنظيم أنفسهن بدءاً من الذهنية وصولاً إلى المشاعر والمواقف ويستندن على علم المرأة JİNEOLOJÎ في مواجهة الذهنية الذكورية المتسلطة.
بخروجنا من الأكاديمية يستمر صف المنازل حتى الجهة الأخرى من القرية، ولكننا نمشي بالترتيب حيث يوجد في الصف مدرسة ابتدائية لأطفال القرية والتي تستقبل الطلاب من الصف الأول وحتى الصف الخامس وتُدرَّس فيها المواد باللغتين الكردية والعربية. ويأتي المعلمون من مدينتي قامشلو والدرباسية لتعليم الأطفال. الطلاب الذين أنهوا المرحلة الابتدائية يكملون المرحلتين الإعدادية والثانوية في ناحية الدرباسية. أطفال القرية أغلبهم صغار ويدرسون في المدرسة الابتدائية الموجودة في القرية ماعدا ابنتي فاطمة من كوباني. ابنتا فاطمة تدرسان المرحلة الإعدادية في ناحية الدرباسية حيث تقلهما السيارة في الصباح وتوصلهما للمدرسة في ناحية الدرباسية وتعيدهما إلى القرية في الساعة الواحدة بعد انتهاء الدوام.
 
طيور الطاووس أيضاً لها مكان داخل القرية
مرة أخرى يستمر صف المنازل باتجاه الطرف الآخر من باب القرية حيث تصطف المنازل إلى جانب بعضها وكأنها حلقة دبكة كبيرة، طريقة البناء هذه لم تأتِ مصادفة بل هي تعني التماسك والمساواة. في المنتصف هناك مكان صغير لطاووسين. "لماذا طيور الطاووس؟!" سؤال يجب ألا يبقى دون إجابة. تشكل بعض الحيوانات رمزاً مقدساً في بعض الديانات ولكن المرأة هي الحامية لكل الطبيعة والحيوانات لذلك كل الحيوانات مقدسة ولها معان مختلفة لدى المرأة بمعنى أنها رمز البقاء والإرادة المقدسة، المعنى الأكثر أهمية لدى نساء JINWAR. خلفها يوجد مطعم القرية الجماعي. مكان الطائرين جميل خاصة أنه يقع وسط القرية وتظهر منه أبواب جميع المنازل علماً أن أبواب جميع المنازل تطل على الساحة ذاتها، ساحة كبيرة ومشتركة.
قبل التوجه إلى المطعم يجب علينا أن نتحدث قليلاً عن عشبة الحرمل التي نبتت في كل مكان حول القرية من تلقاء نفسها. قد يكون نبات الحرمل مثل باقي النباتات السهلية التي تنبت في فصل الربيع وتنضج وتصفر في فصل الصيف وتجف وتذروها الرياح. قد يكون اخضرارها واصفرارها مثل اخضرار واصفرار كافة النباتات الأخرى ولكن أهالي المنطقة لا ينظرون إليها بهذه الطريقة فالحرمل لديهم رمز مقدس منذ القدم. قبل انتشار القراءة والكتابة كانت قرى المنطقة تستخدم حبوبه في تعداد أيام وأشهر السنة، وهذا التراث مستمر إلى الآن. في فصل الصيف تقوم الجدات باصطحاب أحفادهن لجمع نبات الحرمل، بعد جمعه يحضرونه إلى المنزل وفي المنزل يقومون بتحضيره أمام الأطفال ليتعلموا طريقة التحضير. طريقة التحضير تحتاج إلى دقة كبيرة في حساب عدد حبات الحرمل وترتيبها، حيث تجمع الحبات بعدد أيام السنة ثم يتم ربط الحبات التي تمثل عدد أيام كل شهر من شهور السنة مع بعضها في صف واحد ليتشكل لدينا 12 صفاً كل صف يمثل شهراً من شهور السنة. بعدها يتم صنع مربع قائم وداخل هذا المربع توضع أربع مربعات أصغر ويمثل كل مربع من المربعات الصغيرة فصلاً من فصول السنة ويعلق في أسفل كل مربع الصفوف التي تمثل أشهر ذلك الفصل لتصبح جاهزة لتعليقها على جدار المنزل.
ولا ينظر إليه على أنه تقويم سنوي فقط فهو في الوقت نفسه يستخدم للتبرك به. لا يُعرف استخدامه للتبرك بشكل كبير قد تكون قداسته آتية من الأيادي الشافية العارفة بأسرار الحياة للجدات في المنطقة. المنزل الذي يخلو من التقويم المصنوع بأيدي الجدات، معلمات الحياة، وكأنه ينقصه شيء ما ولا يوجد فيه ما يحميه. الحرمل الذي نبت في البرية الواسعة المحيطة بالقرية ذو أهمية كبيرة وقدسية داخل حياة القرية من المنطلق ذاته، فمنذ مرحلة البناء تم صنع التقويم المصنوع من حبات الحرمل كرمز لقرية المرأة حيث وضع على أسقف الأبنية العامة كما وضع في بيوت القرية كافة، فلدى فتح أي باب من أبواب منازل القرية يلوح أمام ناظريك تقويم الحرمل.
 
مطعم القرية
يتميز مطعم القرية بكبر مساحته وترتيبه من الداخل ويتم تبديل الطاهية كل شهر. هناك مجلس للقرية وكل نساء القرية يتخذن مكانهن كعضوات في المجلس ويقوم المجلس بتوزيع المهام كالرعي والطهي وغيرها كل شهر من خلال عقد اجتماع. في بعض الأحيان تعيد بعض النساء ترشيح أنفسهن ويتولين مهمة طهي الطعام للقرية لشهرين متتاليين، وكذلك من يقوم بالأعمال الأخرى فهم يؤدونها بحماس وفي الكثير من الأحيان يؤدونها مدة شهرين متتاليين.
 
محل الأخوات 
نساء قرية المرأة يؤمنَّ احتياجاتهن اليومية بالاعتماد على أنفسهن وحسب الإمكانات الموجودة لديهن، وتم جمع متطلبات الحياة لضمان سير الحياة بطريقة طبيعية، ومحل الأخوات واحد من الأماكن التي تلبي متطلبات الحياة في القرية. بناء المحل لا يقل جمالاً وترتيباً عن الأبنية الأخرى وخاصة النقوش واللوحات الفنية الموجودة على الباب. حيث كتب اسم المحل على الباب بحجارة صغيرة وبطريقة متناسقة وجميلة، على جانب من الباب نقشت صورة شاه ماران بالحجارة الصغيرة وعلى الجانب الآخر علقت هدية تمثل أحد رموز المرأة صنعتها إحدى الأمهات من عفرين والتي تقطن الآن في الشهباء جلبتها كهدية معها عندما قامت بزيارة القرية. ومثله مثل باقي أبنية القرية يحتوي على رمز القرية، التقويم المصنوع من نبات الحرمل، مع الدخول إلى المكان تلمح ذلك التناسق الرائع لحبات الحرمل المعلقة في المحل.
 
لابد لزوار القرية من اصطحاب شيء من المحل 
من بين الأعمال التي يتم تبديل القائمين عليها فإن أكثر عمل يتم تأجيل تبديل القائم عليه كل شهر هو العمل في المحل. أليف تعمل منذ فترة طويلة في المحل وهي ذكية وتجيد الحساب لذلك ففي كل اجتماع يعقد من أجل تبديل المهام يتم ترشيح أليف مرة أخرى للعمل في المحل. عندما توجهنا إلى المحل رأينا أن أليف منهمكة بالعمل لا تتوقف عن العمل لحظة واحدة فهناك حركة كبيرة في المحل وخاصة من قبل الأطفال. قضينا بعض الوقت مع أليف وتحدثنا معها ومع ذلك لم تهمل أليف عملها فكانت تقوم بتأمين طلبات زوار المحل وتعود مرة أخرى لنكمل الحديث، كانت أليف تعمل باهتمام وانتباه كبيرين وأوضحت لنا بأن أهالي القرى المجاورة أيضاً يقصدون المحل لتأمين احتياجاتهم، وتابعت بالقول "زوار القرية يجلبون معهم هدايا للقرية وبالتأكيد عندما يقومون بزيارة المحل يصطحبون معهم شيئاً من المحل. أكثر ما يلفت انتباههم هي الأعمال الفنية اليدوية حيث توجد لدينا أعمال صنعت يدوياً في القرية وأكثر ما يطلبونه هو شاه ماران ورمز القرية. ربما يأخذونها للاحتفاظ بها كذكرى أو يأخذونها كهدايا لأماكن أخرى. كل يوم هناك زوار للقرية وفي بعض الأحيان تشهد القرية حركة كبيرة ومع تلك الحركة تزداد الحركة والعمل في المحل. أحياناً لا نستطيع تأمين الأعمال اليدوية التي نصنعها نحن النساء في القرية في المساء لزيادة الطلب عليها وسرعة نفادها من المحل. بالنسبة لشاه ماران لا تكاد تصل إلى المحل حتى يتم بيعها فكل زائر يدخل إلى المحل أول ما يلفت انتباهه هو شاه ماران". وشاه ماران مخلوق أسطوري نصفه ثعبان ونصفه امرأة.
وبذلك نكون قد قمنا بجولة في القرية لنجلس بعدها أمام باب منزل فاطمة. يوشك المساء أن يحل وكانت ابنتا فاطمة قد رجعتا من مدرستهما في الدرباسية وقد جلست الأم والبنتان أمام باب المنزل لشرب الشاي فجلسنا معهن. الابنة الصغرى لفاطمة كانت قد جمعت نوعاً من الأعشاب وجلبته لتريه لوالدتها التي قالت لها: "ابنتي هذه العشبة ليست عشبة المرول ولا تصلح للأكل. سأريك العشبة فيما بعد لأنها تنمو في هذه الأماكن والآن هو وقتها، يوماً ما سآخذكما معي لنقوم بجمعها معاً لتتعلما مني".
شيئاً فشيئاً حل المساء وحان وقت الدخول إلى المنزل كل شخص حمل كأس الشاي وبدأ يدخل منزله، تركنا فاطمة وابنتاها وتمنينا لهن ليلة سعيدة ليدخلن إلى منزلهن واتجهنا إلى منزل شيرين رئيسة كومين القرية. فشيرين تقوم بتأمين مكان للمبيت لكل الزوار الذين يأتون للقرية وكانت قد حددت لنا مكاناً لذلك لم نبقَ لدى بنات فاطمة وتوجهنا إلى شيرين.
 
غداً ستبدأ جولتنا في السادسة صباحاً لنتابع مجريات الحياة داخل القرية على مدار يوم كامل