'مات أطفالنا من شدة الجوع والعطش' (1)

إنه لشرف عظيم لنا أن نستطيع نقل قطرة من بحر آلام ومعاناة النساء الإيزيديات إلى العالم. النساء اللواتي تعرضن للمجزرة الـ 74 لأنهن حافظن ودافعن عن الإيمان الأصيل والثقافة والإنسانية، ولا زلن تواصلن المقاومة

أفين زندا  
شنكال - . على الرغم من تعرضهن في كل مجزرة مثل هذه المجزرة، لمئات الممارسات اللاإنسانية من دمار، وهجرة، وقتل، وخطف، وبيع، إلا أنهن لم تتوقفن أبداً عن الطواف حول الشمس المقدسة. هذه المرة توجهنا إلى ناحية تل عزير، لعرض تجربة وحكاية أخرى من حكايا المجزرة أمام الإنسانية جمعاء. وهي قصة ماشو خضر التي لا تزال تحترق بحرقة نار صيف 2014.
تعرضت ناحية تل عزير أيضاً للهجوم من قبل مرتزقة داعش في 3 آب/أغسطس 2014. تأسست الناحية في عام 1946 على يد رجل يُدعى عزير جلف. في البداية كانت عائلته فقط تعيش في قرية عزير، وفي عام 1975، عندما طرد صدام حسين الإيزيديين من جبال سنجار، اضطر الناس إلى الفرار من منازلهم والعودة إلى سهول شنكال. واستقر الناس في العديد من الأماكن، ومن هذه الأماكن قرية تل عزير التي تبعد 15 كم من مدينة شنكال غرباً، لكنها تتبع لـ باجه، ومع مرور الزمن تحولت القرية إلى مركز ناحية، حيث قدر عدد سكانها قبل المجزرة بنحو 3-4 آلاف نسمة. ومنذ تلك الفترة كان النظام البعثي يمارس ضغطاً كبيراً على شنكال حيث عمد إلى غمر جبال وينابع ووديان شنكال بالنفط ليجبر الأهالي على العيش في البراري. النظام البعثي لم يكتفي بذلك. فعندما اضطر الأهالي للفرار إلى سهول سنجار، عمد إلى تشتيت الإيزديين لكي لا يتمكنوا من تعزيز قوتهم وإرادتهم على هذه الأرض. ومن الأمثلة على ذلك منطقة تل عزير التابعة لمحافظة الموصل والتي تتكون في الغالب من قبيلة فقيرا وكذلك قبائل كوركوركا وحليقي والقراني والزندينا. وبهذه الطريقة سوف يتشتت الناس، ومع مرور الوقت سيتم صهر الشعب الإيزيدي في ثقافة الشعوب العربية.
 
في 14 تموز 2007 وقعت انفجارات في تل عزير
يوجد في محيط تل عزير قرى عربية مثل خاتوني ومتيوتا وكجلان. لطالما كانت هناك حروب بين أهالي تل عزير والعرب المحيطين بها، بسبب النزاعات الدينية وكذلك لأسباب اقتصادية. لكن الانفجارين المتزامنين اللذين ضربا تل عزير وسيباي في الرابع من تموز/يوليو 2007، أظهر أنه بعد مغادرة  الناس جبالهم لن يكونوا بأمان أبداً. في تلك الفترة كان الجيش العراقي وقوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني يتولون أمن المنطقة، ولكن يقال إنه في يوم الانفجار، كانت قوات بيشمركة الحزب الديمقراطي تقوم بدوريات في الطرق الرئيسية الثلاثة المؤدية إلى تل عزير. وقد تم إخلاء المواقع الثلاثة في ذلك اليوم، و في غضون نصف ساعة، وقعت انفجارات كبيرة في قريتي تل عزير وسيبا شيخ خضر الواقعتين تحت حماية الجيش العراقي وبيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولقي قرابة 400 شخص مصرعهم في هذين الانفجارين عدا عن الجرحى الذين تم إجلاؤهم من البلاد ولم يُعرف شيء عنهم حتى الآن. على الرغم من المجازر وجميع المخططات القذرة ضد الشعب الإيزيدي، عاد الشعب مرة أخرى إلى وطنه بعد المجزرة. وتل عزير هي أيضاً واحدة من تلك الأماكن التي أعاد الأهالي بناءها بعد المجزرة، وتشير التقديرات إلى أن حوالي 600-700 عائلة قد عادت إلى قراها.
بينما كنا نسير في شوارع تل عزير، صادفنا مجموعة من النساء. النساء اللواتي جلسن أمام جدران بيوتهن المتداعية كن سعداء بوجودنا. ألقينا عليهن التحية ووقفنا معهن لفترة من الوقت تبادلنا أطراف الحديث. أخبرناهن بالتفصيل عن سبب مجيئنا إلى تل عزير، وكن أيضاً سعداء بذلك جداً. أم مسنة كانت تنظر إليها بإمعان، يبدوا أنها كانت مرشدتهم. لأنها كانت حكيمة وتفهم جيداً، وقالت لنا "المجازر التي تعرضنا لها لم يشهد لها العالم مثيلاً. نعم لقد كان الآلاف منا ضحية للمجازر، لكن الباقين أيضاً لا زالوا يعيشون قصص وحكاية المجزرة، فأي شخص تلتقون به سوف يحكي لكن قصة". 
وبعد تنهيدة قالت لنا، في آخر القرية هناك منزل ماشو خضر، التي فقدت ابنها في المجزرة، ومن ثم أخبرتنا قليلاً عن قصة ماشو. وبعد أن أنهت الأم حديثها أردنا الوصول بأسرع وقت إلى منزل ماشو والاستماع إلى قصتها.
 
"لتعلم كل شعوب العالم ماذا حل بنا أمام أعينهم!"
تابعنا مسيرنا مرة أخرى، عندما وصلنا إلى المنزل رأيت أنه كان هناك خندق خلف منزلها. أي أن منزلهم كان في تل عزير والجانب الآخر من الخندق كان حدود القرى العربية. كنت أتساءل كيف تمكنوا من التواصل مع بقية الأهالي لأن منزلهم كان في نهاية القرية. وقبل أن أتمكن من العثور على إجابة لسؤالي، رأيت امرأة جميلة وطويلة الشعر ترحب بنا وتدعونا بحفاوة إلى منزلها. وكأنها كانت تنتظرنا. خلال تلك الفترة القصيرة المتاحة طلبنا منها أن تسرد لنا تجربتها وقصتها.  
ودون أن تتحجج بظروف المنزل والزوج والمحيط، بدأت بالحديث "ليعلم العالم كله ماذا حل بنا أمام أعينهم"، كانت ماشو خضر غاضبة للغاية، في قلبها يستعر لهيب حريق صيف آب/أغسطس 2014. لأنها أيضاً احترق قلبها مثل العديد من الأمهات الإيزيديات. كنت أرغب في طرح الكثير من الأسئلة ولكن من أين أبدأ؟ كنت أفكر في نفسي، ولكنها وعبر حديثها جعلتني أستعد دون أن أشعر بذلك. في البداية طلبت منها التحدث عن طفولتها وكيف كانت حياتهم قبل المجزرة؟ لكنها تكلمت ببضع كلمات وتوقفت وكأنها تقول إن الأمر انتهى. سألت السؤال مرة أخرى وطلبت منها أن تذكرها بشيء من التفصيل. قالت ماشو إنني لم أرى حياة طيبة ما الذي سأتحدث عنه؟ كان من الواضح أن ماشو مثلها مثل جميع النساء الأخريات لم يكن لديها قصة واحدة فقط، بل أن لديها العديد من القصص المؤلمة. لكن ماذا كانت تلك القصة؟
 
حياة مليئة بالألم والمعاناة منذ الطفولة
كانت ماشو خضر الطفلة الوحيدة في المنزل، توفي والدها وغادرت والدتها عندما كانت طفلة. نشأت في منزل عمها حتى بلغت السادسة عشرة من عمرها وتزوجت بدون رضاها في سن مبكرة. عندما كانت ماشو تتحدث عن حياتها في عمر السادسة عشرة، كان من السهل على المرء أن يرى من خلال عباراتها كل معاناتها وآلامها قبل المجزرة. نظرت إلينا بنظرات ملؤها الرجاء والحزن وقالت "لقد انقضى الأمر الآن لدي أربعة أطفال. أنا لا احتاج إلى المال من أحد، أطفالي هم كل ما أملك".
اتضح أنها عانت كثيراً من الحرمان من الأهل. لذلك فإنها تعتبر أطفالها الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و14 هم كل عائلتها. تتحدث ماشو خضر ببضع كلمات عن جمال قريتها قبل المجزرة. في سياق حديثها تتحدث عن الغيوم المظلمة التي غطت السماء في 3 آب/أغسطس 2014، "كانت حياتنا قبل المجزرة جيدة جداً ولكن للأسف لم يسمح لنا الخونة بإكمال سعادتنا. نعم كان الناس يعانون من الفقر قبل المجزرة، ولكننا كنا معاً، كانت علاقات الجوار والصداقة قوية جداً، وكانت موائد العشاء لدينا عامرة بألوان الطعام. ولكن في 3 آب، لم تعد لنا حياة تذكر. قتل المئات من أبناء شعبنا، ومن لم يقع في أيدي داعش مات جوعاً وعطشاً، وعانى الأطفال والنساء معاناة كبيرة".
 
كان كل شيء لا يزال حياً أمام عينيها وهي تتحدث
ارتجف صوت ماشو خضر وهي تتحدث، كان واضحاً أنها في اللحظة التي بدأت تتحدث فيها عن ألم المجزرة، عادت كل الأحداث أمام عينيها مثل فيلم سينمائي. لم يعد بإمكانها إيقاف دموعها. في كل مرة حاولت فيها تجفيف الدموع بيديها من وجهها الحنطي، كانت الدموع تنهمر على خديها كحبات خرز. ساد صمت طويل بيننا، كان الوقت مساءً ورياح دافئة تهب علينا وكنا ننظر إلى بعضنا البعض معاُ، صامتين. كانت البيوت المحيطة بنا كلها مدمرة ما تبقى منها فارغة بلا سكان. نظرت إلى أوراق شجرة الصنوبر، وكان صوتها بمثابة اللحن، وآلتها الموسيقية هي قصتها التي عاشتها. فجأة دون أن أشعر، بدأت ماشو بالحديث، ولم أرغب أبداً في منعها. وبصوت مرتجف تحدثت عن تلك الليلة.